القاهرة (زمان التركية) – في جمهورية الصين الشعبية في عام 2018 أثناء إلقائي محاضرة عن مصر أمام حوالي ستة عشر ممثلين لدول مختلفة، كانت كلمتي عن مصر بهذا العنوان: “لماذا مصر هي أم الدنيا؟ وأوضحت بأن الحديث عن مصر لا يعني الحديث عن الأهرامات وأبو الهول وإنما هو حديث عن حضارة امتدت لأكثر من سبعة آلاف سنة، وليس سبعة آلاف سنة فقط كما هو شائع، فلقد أخذ الإعداد لهذه الحضارة العظيمة سنوات طوال.
وأوضحت بأن الحديث عن الحضارة المصرية ليس من قبيل التباهي والتفاخر، ولكنه من قبيل إحقاق الحق والدفاع عن تاريخ من تعرضوا للظلم إما عن طريق إنكار أعمالهم وفضلهم على العالم وإما عن طريق تشويه حضارتهم وإلصاق التهم والأكاذيب والافتراءات بها، من قبيل الحرب على مصر والمصريين، ولكن بنوع حديث متوافق مع العصر. واستشهدت بمقولة البعض حيث قال “هزمناهم ليس حين غزوناهم وإنما حين أنسيناهم تاريخهم”.
إن الحضارة المصرية هي التي علمت العالم وبشهادة علماء الأجانب قبل المصريين، فأفلاطون عندما جاء إلى مصر ليتعلم على أيدي المصريين وعاد إلى بلده قال “أيها العلماء اليونانيون أنتم أطفال عند علماء المصريين”، والعالم ونس بيتش يقول: “نحن بحاجة إلى قرنين من الزمان حتي نصل إلى هذا المستوى الرفيع من الحضارة الإنسانية”.
وعمدة برلين يقول: “كيف سيكون شكل العالم لو لم تكن الحضارة المصرية القديمة”. ولا أنسى ما أخبرني به صديق لي عندما كان في إنجلترا وبينما كان في الهايد بارك ومجموعة من الطلبة من مختلف الجنسيات يتناقشون، فقال أحد الشباب الإنجليز متفاخرا: “بلدي هي التي أعطت للعالم الحضارة”، فرد عليه شاب قائلا” “أنت تزيف الحقيقة يا عزيزي، فمصر هي التي أعطت بلدك والعالم الحضارة”، فسأله: “كيف ذلك هل عندك دليل؟ فقال: “نعم، أنتم أخذتم حضارتكم من الرومان والرومان أخذوها من اليونانيين واليونانيون أخذوها من مصر القديمة”، فقال له: “أهلا بك صديقي المصري”، فقال له: “أهلا بك، ولكنني لست مصريا، وإنما أنا من نيجيريا، ولكني أفتخر بالدولة التي تقع في نفس القارة التي بها دولتي وهي القارة الأفريقية.
إن هذه الحضارة العظيمة قامت على أسس ومبادئ، منها الإبداع وإنجاز الأعمال التي مازالت تبهر العالم حتى اليوم ويقف مندهشًا من إبداعها وعظمتها الجميع. من ذلك ما قصه لي صديق عندما كان في المتحف البريطاني ووجد سيدتان إنجليزيتان تتفحصهما بعينهما أول عملية جراحية في المخ قامت في التاريخ المصري القديم تعرف باسم (التربنة) وبينما السيدتان كانتا يتحدثان قالت إحداهما للأخرى: “أين كنا نحن في هذه الحقبة من التاريخ”، فردت عليها: “كنا نسكن الكهوف عزيزتي!”
قامت الحضارة المصرية القديمة أيضا على أساس سيادة القانون وبأن الجميع أمام القانون سواء بسواء وهذه شهادة الأستاذ الدكتور محمود السقا أستاذ القانون بجامعة القاهرة.
حيث قال في كتابه تاريخ القانون: “قام القانون المصري القديم على العدل وكان عالميا في مراميه، عادلا في حكمه، صافيا في مواده، دهشة للمؤرخين، لأنه قام على دعامتين الأولى: العدالة الاجتماعية والثانية: العدل أساس الملك”.
كما قامت الحضارة المصرية القديمة على الأدب والرقي في كل الأشياء، فلقد كان من ضمن الاعترافات التي كان يؤمن المصري القديم بأن عليه أن يشهد بها في حسابه بعد موته كي يفوز بيارو (أي الجنة) كان هناك 42 اعترافا إنكاريا و42 اعترافا سلبيا، من جملة هذه الاعترافات
كان يقول أنا أبذل قصارى جهدي في عملي
أنا أكرم الحيوان
أنا أتباسط مع الناس ولا أتعالى
ومن الاعترافات الإنكارية كان:
أنا لم أكن سببا في دموع إنسان
أنا لم أعذب حيوانًا
أنا لم أعذب نباتا بأني منعت أن أسقيه ماءً.
ومن بين الشبهات والأكاذيب التي ألصقت ظلما وافتراء بهذه الحضارة، أنها حضارة قامت على ظلم الحاكم للمحكوم:
أتذكر أنني كنت في ندوة بالمجلس الأعلى للثقافة مع الفيلسوف المصري الدكتور مراد وهبة وأثناء حديثه ذكر: “الظلم فينا مترسخ منذ عهد الفراعنة”، فطلبت الكلمة وردت علي سيادته بأن الحضارة المصرية قامت على العدالة بين الحاكم والمحكوم والعدالة الاجتماعية، فالكل أمام القانون سواء بسواء، مستدلا بما أقول بكثير من الأدلة/ منها المحاكمة التي تمت في عهد رمسيس رقم 3 والتي تم فيها إعدام أحد أبنائه (بنتاؤر)
وفوجئت بعد ذلك بثلاثة أيام صديقي وأستاذي العالم المصري الدكتور وسيم السيسي عالم الطب والتاريخ يقص ما حدث في مقالته في جريدة المصري اليوم التي كانت بتاريخ 7/7/2018 بعنوان “لا تظلموا الموتى”، ويشكرني على دفاعي عن تاريخ الأجداد ورد الحق لأهله، ويعاتب الدكتور مراد بما قاله أبو العلاء المعري قائلا:
يا أبناء وطني .. يا دكتور مراد وهبة
لا تظلموا الموتى وإن طال المدى.
إني أخاف عليكم أن تلتقوا.
ويؤكد ذلك شهادة عالم القانون الدكتور محمود السقا التي سبق ذكرها.
وشهادة العالم الإنجليزي السير وليام ماثيو فلندرز بيتري المتخصص في علم المصريات يقول:
“إن الوثائق والنقوش والوصايا تدل على أن قوة تحقيق العدالة كانت أقوى من سلطان الملك نفسه، وأن ملوك مصر لم يكونوا مستبدين غير خاضعين لرقابة يعملوا ما تشاء أهواؤهم، وإنما كانت القوانين ترسم حدود تصرفاتهم العامة والخاصة وكان الملوك يلتزمون بالعدل إزاء رعاياهم”. الخ من شهادات متعددة ومتنوعة تدل على ذلك.
وكنت أتناقش في هذه المسالة مع مجموعة من الأصدقاء الأجانب قال لي أحدهم ناصرا الحق إنني بالمنطق السليم أصدق ما تقول من أن الحضارة المصرية قامت على العدل، فلا يمكن لحضارة أن تستمر طوال هذه السنوات وتكون قائمة على الظلم.
أما عن الادعاء بأن المصريين القدماء كانوا عباد أوثان، ومدى صحة وصفهم بأنهم كانوا فراعنة، والاستفهام القائم حول اختلاف حاضر المصريين اليوم عن أمجاد الأجداد صناع الحضارة، فهذا ما أستأذن القارئ الفاضل أن أتحدث عنه في مقالتي القادمة بإذن الله..
دامت أوقاتكم نورها العلم وقوامها الحب..
المستشار هيثم السحماوي : باحث مصري في القانون الدولي