القاهرة (زمان التركية) – إن القائد القدوة والعالم المثالي محمد فتح الله كولن كان رائدا في إصلاح ما أفسده غيره من المسلمين ممن شوهوا صورة الدين بوضعه في صورة الإرهاب والتطرف تارة وبتصويره وكأنه معارض للحياة والعقل والتطور والتحضر الإنساني تارة أخرى، وكان ذلك عن طريق تفسير النص الديني في ضوء زمانه مرتبطًا ببيئته ومتسقا مع مقاصد ومبادئ الشريعة الإسلامية، مع الالتزام بالحوار مع الآخر بكل الآداب وتقبله ومحبته.
فاستطاع بذلك أن يحصل على محبة الآخرين واحترامهم إلى الحد الذي جعله قائدا للقلوب. وهذا القلب الذي تعلق بمحبته الكثيرون كان معلقا بحب وعشق تراب أرض وطنه (تركيا) برغم كل ما حدث معه وما واجهه من اضطهاد متكرر منذ أن كان شابا ناجحا في الدعوة.
وكمثال على ما عاناه الشاب فتح الله كولن عندما كان في العشرين من عمره وعين إماما في مدينة أدرنه لما وُجِدَ أن محبته والتعلق به كان يزداد بالمئات يوما بعد يوم والمسجد الذي كان يصلي فيه بات مكتظا بالآلاف نُقل قسرًا إلى مدينة إزمير ذات الإقبال الضعيف من أهلها على المساجد. لكن حينئذ سرعان ما تبدل الأمر أمامه وأصبح المسجد الذي كان خاويا من المصلين مكتظا بالآلاف. فبرغم هذا وغيره من الكثير ظل قلبه متيما ومعلقا بعشق تركيا، ووصل حد عشقه هنا إلى إيثار مصلحة وطنه على مصلحته الشخصية، فبرغم الدعوات التي تكررت أكثر من مرة من رجال الدولة لزيارته لتركيا، ووجهت له الدعوة من أردوغان ذاته إلا أنه رفض مخافة أن تسبب زيارته مشكلة ولو كان الاحتمال بنسبة واحدة بالمائة. وهذا هو نص حديث العالم المثالي كولن في هذا الشأن (عندما جئت إلى هنا في الولايات المتحدة الأمريكية قلت للإخوة اشتروا لنا أرضا هنا تكون للشعب التركي تدفنوني فيها إن مت، ولكنني تخليت عن هذه الفكرة، فأحاسيس الوصال وحرقة الغربة قد منعتني أن انصاع لتلك الفكرة، وأنا أفضل أن أموت في وطني وأن أدفن عند قدمي والدتي. ويقول باكيا: “اعتبروا كلماتي هذه وصية لكم، ولكن لا أرضى أن تسبب أفعالي وكلماتي ضررا ولو مقدار ذرة لأمتي ووطني”.
أما عن حركة الخدمة، تلك الحركة التي لو وليت الاهتمام الذي تستحقه لغيرت شكل العالم الذي نعيشه الآن، تلك الحركة المتهمة الآن من قبل الرئيس أردوغان بالإرهاب ظلما وبهتانا جاءت فكرة إنشائها لدى القائد القدوة كولن من منطلق إيمانه بمبادئ أساسية منها: “إن قيمة الفناء في حب الله لا تتحقق إلا بالفناء في خدمة عباد الله”، ومن المبادئ الأخرى التي قامت عليها حركة الخدمة هي “أن العيش بالإسلام أفضل من الحكم بالإسلام”.
ولقد قامت الحركة على مبدأ آخر وهو “كيف يكون المسلم قادرا على التعايش مع الآخر من المختلف معه، وكيف يكون المسلم قادرا على تطبيق تعاليم دينه دون أن يخطئ الآخر ودون أن يتهمه أو يظلمه، و”لا بد أن يكون الأساس لعلاقة المسلم بغيره هو احترامه وقبوله لهذا الآخر كما هو”.
كما كان قائد الحركة القائد كولن مشغولا بفكرة طوال الوقت وهي كيف يكون المسلم عصريا وإلا يكون موضويا، وذلك عن طريق الجمع بين ثنائية القديم والجديد، والعمل على كيفية الانسجام والتعايش مع العلمانية المعتدلة كما يقول الدكتور العالم المسيري.
أما عن الفلسفة التي تقوم عليها حركة الخدمة فهي مكافحة ثلاثة أشياء وهي “الجهل، والفقر، والنزاعات”.
والفكرة التي بعثته لإنشاء هذه الحركة هي أنه عالم مهموم بالعالم الذي وجد فيه وبمشاكله أولا وظروف ومشاكل أمته التي ينتمي إليها ووطنه ثانيا. ولم يكن يفكر بشكل شخصي، بأن يؤلف الكتب ويلقي المحاضرات وفقط، بل أراد أن يساهم في تحويل العالم للأفضل بعيدا عن الكلمات المجردة من الأفعال والخطب المنمقة التي أبعد ما تكون عن أرض الواقع، وهنا كان السؤال كيف يبدأ العالم في تحقيق ذلك؟
لقد أدرك القائد القدوة أن التعليم والتربية وبناء الإنسان هي الطريقة المثلى للتغيير، وهو أساس تقدم أي أمة والبنيان الأول لأي نهضة، فسيتأتى ذلك عن طريق بناء الإنسان فكريا وتربويا وروحيا حتى يصل إلى تحقيق الهدف المنشود وهو خدمة المجتمع والوصول إلي فكرة الفكر الصافي من المنبع الصافي. ومن أفكار العالم محمد فتح الله التي تخص الدولتين المصرية والتركية ما قاله نصا في هذا الشأن “إن المجتمع التركي مثل المجتمع المصري مجتمع تعددي، ومن ثم مراعاة مشاعر ومعتقدات الآخرين من كافة الأطراف هو ما ينبغي أن يكون في كل شيء من قوانين وغيرها، والديمقراطية لها أشكال وتطبيقات متنوعة حول العالم، وعلينا أن نطور نظاما ديمقراطيا يتلاءم مع أوضاعنا وقيمنا، مع الاستفادة من تلك الممارسات الديمقراطية المتعددة”.
أما عن وجهة نظره في مشاكل العالم بشكل عام كرجل إصلاحي ومفكر استثنائي فيقول في ذلك “إن الفوضى والاضطرابات التي يشهدها العالم ستستمر ما لم ننجح في تأسيس نظام مثالي يستثير غبطة الإنسانية جمعاء، وعلينا أن نصر على المضي قدما في هذا الاتجاه لتحقيق التوازن والاعتدال على المستويين الفكري والعاطفي”.
وهنا في خضم هذه المثالية في الأفعال والأقوال والأفكار يبقى السؤال ما الذي حدث؟ ولماذا عالم بهذا القدر وحركة بهذا الحجم كادت تغير العالم أن توصف بالإرهابية ويوصف قائدها برأس الإرهاب من قبل الطاغية أردوغان؟ الإجابة الأقرب للمنطق الصحيح والعقل السليم والأدلة اعتمادا على المحاولة لفهم شخصية أردوغان في المقالة التي كتبت قبل ذلك بعنوان “التحولات في حياة الرئيس أردوغان”، والتي فيها تم إيضاح من منطلق العلم (الطب النفسي وعلم النفس) أن هذا الرجل يعاني من مرض ضلالات العظمة ويشعر بأنه مبعوث العناية الإلهية في الأرض ولا أحد يملك أن يحاسبه … الخ ولما كانت الحركة تزداد قوة يوما بعد يوم سواء من عشرات آلاف بيوت الطلبة أو مئات المدارس والكثير من الجامعات والمكتبات العامة، والمراكز والمعاهد والمؤسسات المختلفة في الصحافة وغيرها داخل تركيا، وأضعاف هذه الأرقام خارج تركيا في حوالي 170 دولة في العالم.
كل هذا أصاب أردوغان بالذعر والخوف علي سلطانة الهش الذي يؤسس له ويقيمه على أرضية الظلم والاستبداد، فدفعه ذلك إلى الهجوم على الحركة ومحاربتها وإلصاق التهم بها ومعاداة قائدها، ووصفها بأنها كانت العقل المدبر والجسد المحرك للانقلاب المفبرك الذي كان في الخامس عشر من يوليو 2016.
وهنا يثار سؤال هام ما علاقة الحركة وقائدها بالسياسة؟
الإجابة في جملتين أن حركة الخدمة ليست لها واجهة سياسية على الإطلاق، فقد يكون هناك استضافة وقد تكون هناك لقاءات سواء من بعض الأحزاب أو السياسيين، ولكن هذا لا يعني بأن الحركة شريكة في أي هدف سياسي. كولن لم يكن يسعى إلى أي هدف سياسي، بل إنني شاهد على ذلك، فقبل هذا الانقلاب جلست في أكثر من بيت للخدمة وصادقت الكثير منهم وجميعا كانوا مجمعين على مقولة كانوا يرددونها دائما تقول: “أعوذ بالله من الشيطان والسياسة”. وهذه المقولة تعود لأستاذ العالم المثالي محمد فتح الله كولن وهو العالم الفاضل بديع الزمان سعيد النورسي الذي من أبرز علماء الإصلاح الديني والاجتماعي.
إنني يتوجب علي أن أقدم اعتذاري للقارئ الفاضل على هذه الإطالة ولكن عذري وشفيعي لدي هو مقدار وقدر الشخصية التي كنت أحاول أن أتحدث عنها تلك الشخصية الاستثنائية ماضيا وحاضرا.
دامت أوقاتكم نورها العلم وقوامها الحب..
المستشار: هيثم السحماوي .. باحث مصري في القانون الدولي
–