بقلم: المستشار هيثم السحماوي
القاهرة (زمان التركية) – قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”.
رواه أبو داود، وصححه السخاوي في المقاصد الحسنة، والألباني في السلسلة الصحيحة.
وبنظرة موضوعية للفكر الإسلامي وعلمائه نجد أن العالم الجليل محمد فتح الله كولن أول من ينطبق عليه هذا الوصف.
فمن هو هذا العالم؟ وكيف كان تكوينه؟ وما هو مقداره وأهميته في العالم الإسلامي؟ وكيف يرى نفسه؟ ولماذا رفض الزواج؟ وما قيمة الوطن لديه؟ وماذا عن حركة الخدمة التي يقودها التي انتشرت في أرجاء العالم؟
أستأذن القارئ العزيز أن أبدأ حديثي منوها بأننا أمام نموذج فريد في العالم استطاع أن يقود عن طواعية قلوب الملايين، ووازن في مسيرته بين العلم المتنوع والعمل المتعدد.
ولد العالم محمد فتح الله كولن في السابع والعشرين من أبريل 1941 وفقا لما هو مقيد في بطاقته الشخصية، وتنحدر أصوله من مدينة أخلاط في بلاد الأناضول.
نشأ في أسرة ملتزمة ومتزنة وغير عادية كان لها بالغ الأثر في حياته وساهمت في تكوين أساس شخصيته.
وبدا هو أيضا منذ صغره متفردًا ليس كغيره من الصبية الذين كانوا في سنه، فلقد أتم حفظ القرآن الكريم وهو في سن العاشرة، وأتقن اللغة العربية والفارسية وهو في سن الخامسة عشر، وبدأ الخطابة وهو في السابعة عشر من عمره، وسريعا ما ذاع صيته وعرف بخطابه المميز.
بدت شخصيته المثالية منذ صغره. ومما يوضح ذلك عندما كان في المدرسة وحيث إن حجرته مع زملائه كانت ضيقة بحيث إنه إذا جاء ضيفا كان المكان غير متسع للنوم وفي مثل هذه الأوقات يحكي العالم الفاضل ويقول: “جئت لأنام فإذا بقدمي بمحاذاة رأس أحد زملائي فكرهت ذلك، إذ إنه لا يليق. أما الجهة الأخرى ففيها الكتب، ويستحيل أن أمد قدمي تجاه الكتب، والجهة الثالثة هي جهة القبلة، فلم يكن أمامي سوى الجهة التي إليها قرية “قوروجق” لأمد بها رجلي، فخشيت أن أمدها ويكون أبي هناك، فأسيئ بذلك آداب معاملة الوالد، فقضيت عدة ليال مستيقظًا لا أنام، وأشير هنا أنني لم أمد قدمي في حياتي تجاه قرية قوروجق مسقط رأس والدي ومثواه، وهذا من معاني احترام الأبوين عندي”.
ولقد ساهم في تكوينه مناهج ومناهل متنوعة ومتعددة.
وفي سن العشرين من عمره عين إماما في مدينة أدرنة غرب تركيا، ولما بدأ يزداد محبووه ويتوافد المئات لحضور دروسه التي لم تكن مقتصرة على الدين وإنما كانت أيضا في الاجتماع والفلسفة، وحيث إن تركيا كانت تعاني أيضا من اضطهاد رجال الدين حينئذ نقل الشاب الداعية الناجح لمدينة إزمير حيث كان فيها الإقبال ضعيفا على المساجد، ولكن سريعا ما تحول الأمر وبفضل كلماته التي كانت دوما تخرج من عقل حكيم ومن القلب ومن ثم كانت تصل مباشرة إلى قلوب مستمعيه تحول الأمر في إزمير وأصبحت المساجد مكتظة بآلاف المصلين.
أما عن مقدار وأهمية هذا العالم في العالم أجمع فتقول الدكتورة جيل كارول وهي كاتبة وبروفيسور في جامعة رايس الأمريكية، وعملت مديرة لمركز بحث وتطوير التسامح الديني بذات الجامعة، وكانت قد ألفت كتابا بعنوان “حوارات نصية بين فتح الله كولن وفلاسفة الفكر الإنساني)”، وقالت: “لقد عشت مع فتح الله كولن من خلال كتاباته أثناء إعداد هذا الكتاب ومازالت أفكاره تلهمني، ولقد عرفت بعد لقائه لماذا ألهم هذا الرجل ما يقرب من ثلاثة أجيال في تركيا ومنحهم الدافع رجالا ونساء لإنشاء عالم جديد. إنه رجل يتمتع بقدر هائل من الروحانية والإخلاص والتعاطف، وهو شيء واضح للغاية في كتاباته وفي شخصيته. لقد قارنت أفكار كولن مع أفكار كل من كانط وأفلاطون وكونفوشيوس وميل وسارتر، لأنني أؤمن بأنهم أهل لأن يتحاوروا مع كولن وأنه أهل لأن يتناقش معهم، فهم نماذج رائعة لأفضل شكل من أشكال المعرفة في العلوم الإنسانية، وأنا اعتبرهم جميعا أفرادا على قدر عظيم من المعرفة اهتموا بالأسئلة الأكثر إلحاحا واستمرارية عن الوجود الإنساني”.
لقد ألف العالم كولن أكثر من سبعين كتابا متنوعا، وترجمت كتبه لحوالي خمسين لغة، هذا بجانب آلاف المقالات التي كتبها ومحاضراته في المراكز البحثية ووسائل الإعلام والمدارس والجامعات وبيوت الشباب التي أسست وبنيت في مختلف البلدان في خمس قارات عن طريق حركة الخدمة التي يقودها. وقبل هذا كله سيرته العطرة القدوة دوما التي تعبر عن صدق ومثالية صاحبها وأعماله، لهذا وغيره فيعد العالم فتح الله كولن قائدا ونموذجا فريدا ومن أول المجددين للفكر الإصلاحي الرائد في العالم بشكل عام وفي الفكر الإسلامي بشكل خاص.
احتل العالم كولن قائمة أهم مائة عالم في استطلاع أجرته سنة 2008 مجلة “فورين بوليسي”، وهي مجلة أمريكية هامة ومجلة “بروسبكت” البريطانية، حصل أيضا على جائزة “غاندي” للسلام عام 2015.
أما عن تواضع العلماء في شخصية العالم فتح الله فبرغم أنه كان يهدف بمواعظه وخطاباته الوصول للطبقة العريضة من الناس إلا أن ذلك كان بهدف استفادة الآخر وخدمة الناس فقط ولا يدخل فيه أي حسابات شخصية له، وكم كان يغضب عندما يصرف الناس اهتمامهم بشخصه بدلا من الاهتمام بالحقائق التي يتكلم فيها.
إن من الخصائص البارزة في العالم محمد فتح الله هو تواضعه الجم؛ فشخصيته بعيدة كل البعد عن التطلع للدنيا من زعامة وريادة وغيرهما، ولكنه عالم زاهد في الدنيا يتعامل من منطلق نسيان النفس والتضحية من أجل الآخرين وفي ذلك يقول: “لو استبدلت بالدنيا أخرى كأنها الجنة، فاعتزل تحت ظل شجرة ودع عنك ما فعلته من أجل الإنسانية، وقل في نفسك لست أنا من فعل هذه الأشياء بل إنها وجدت بعون الله ثم بهمة المخلصين”. وصل حد تواضعه إلى قوله: “لو جاز تغيير القسمات بعمليات التجميل لفعلت لئلا أعرف”.
أما عن سبب رفضه للزواج ففي جملة قصيرة: هو وهب نفسه لخدمة الدين.
وهنا يقول العالم كولن: “لا يعلم نيتي وما في أعماق قلبي إلا الله، فضلت أن لا يشغل عقلي شيء سوى خدمة الدين والدعوة، فميزاني دقيق وحساس وربما تضيق به النساء، فهذا كان له أثر كبير في عزوفي عن الزواج، فلقد قررت منذ البداية أن أهب نفسي لخدمة الدين”.
أما عن قيمة الأوطان في فكر العالم والقائد كولن ومدى تقديره لوطنه تركيا، والباعث على إنشائه لحركة الخدمة التي امتدت إلى أرجاء العالم، والأفكار التي تحملها هذه الحركة وعلاقتها بالسياسة هذا ما استأذن القارئ الفاضل أن أتحدث عنه في مقالتي القادمة خشية الإطالة الزائدة على القارئ العزيز.
دامت أوقاتكم نورها العلم وقوامها الحب..
المستشار: هيثم السحماوي، باحث مصري في القانون الدولي