أنقرة (زمان التركية) – قال الخبير الاستراتيجي التركي كمال أوز كيراز، إن سمات التحريض على التيار الديني المحافظ في تركيا خلال تسعينيات القرن الماضي، لا تزال قائمة ولكن بشكل مختلف، معتبرا حملة الاضطهاد التي يعانيها أفراد حركة الخدمة، أبرز دليل على ذلك، وأشار إلى مخاوف السياسيين العائدين إلى الساحة مجددًا من الدفاع عنهم، حتى لا يطالهم تهمة الانتماء إلى الخدمة.
جاء ذلك خلال مشاركة كمال أوز كيراز رئيس مجلس إدارة مركز أوراسيا للدراسات، في برنامج تليفزيوني على قناة “TV5″، مثيرًا موجة من الجدل بتصريحاته حول ما يدور في تركيا.
الخبير الاستراتيجي كمال أوز كيراز قال في تصريحاته: “عقلية وفكر انقلاب 28 فبراير/ شباط 1997 (التي استهدفت الشرائح المحافظة) لم تمت، وإنما تترعرع في قصر رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية”.
وأضاف أوز كيراز: “لو كنت في مكان دوغو برينجك (رئيس حزب الوطن اليساري المتطرف المتحالف مع أردوغان، والاسم الأبرز وراء تحريض العسكر على انقلاب 1997)، لساندتُ حزب العدالة والتنمية بطبيعة الحال”.
وأكد أن العقلية الانقلابية في 28 فبراير/ شباط 1997، مستمرة في تركيا، لكن بشكل مختلف، قائلًا: “أخواتكم المحجبات اللاتي كُنَّ يمنعن من دخول الجامعات فقط أثناء انقلاب 1997، يتم اليوم الزجّ بهنّ في السجون مع أطفالهنّ. ولكنكم لن تسمعوا ذلك من منتسبي تيار الإسلام السياسي. كما أن الانقلابيين في عام 1997 لم يكونوا يسمحون للمحجبات بحضور حفلات تخرج أبنائهنّ الطلبة العسكريين، أما اليوم فجميع العسكريين الذين تضع أمهاتهم الحجاب على رؤوسهنّ يتم إرسالهنّ إلى السجون”.
وانتقد أوز كيراز تجنّب الأحزاب الجديدة بقيادة أحمد داود أوغلو وعلي باباجان عن الحديث عن الظلم الواسع الذي يتعرض له مئات الآلاف من المواطنين بدعوى انتمائهم إلى ما يسمونه “منظمة فتح الله كولن”، وذلك مخافة أن تلصق بهم هذه التهمة أيضًا، لافتًا إلى أن السكوت على هذا الظلم لم ينقذهم من مواجهة هذه التهمة، حيث يوجه إعلام أردوغان هذه التهمة إلى قادة الأحزاب الجديدة أيضًا.
ويعتبر المنتمون إلى حركة الخدمة أبرز ضحايا إجراءات حالة الطوارئ في تركيا، والتي استمرت عامين منذ إعلانها في يوليو/ تموز 2016 عقب الانقلاب، لتسفر عن حبس أكثر من 30 ألف شخص بتهمة المشاركة في تدبير الانقلاب، كما فصل خلال تلك الفترة 130 ألف موظف مدني وعسكري من عملهم. وتتهم السلطات الخدمة بتدبير انقلاب عام 2016 بينما تنفي الحركة وتطالب بتحقيق دولي.
وفي هذا السياق قال البرلماني عن حزب الشعوب الديمقراطي الكردي عمر فاروق جرجيرلي أوغلو، خلال ندوة نظمتها منصة “ضحايا قوانين حالة الطوارئ” إنه يجب أن لا يتوقف تسليط الضوء على ضحايا حالة الطوارئ في تركيا، لأن الدور قد يحل على الجميع.
جرجيرلي أوغلو عضو لجنة حقوق الإنسان في البرلمان، أكد على ضرورة عدم التراجع عن هذا الكفاح مهما كان المناخ المحيط محبطًا.
البرلماني الكردي التركي اعتبر أن حزب العدالة والتنمية الحاكم يعيش آخر أيامه على الساحة السياسية، قائلًا: “سنتخلص من هذا النظام الذي لا ننتظر منه أي شيء باسم العدل والإنصاف. الانتهاكات -ضد معتقلي حالة الطوارئ- هي أحدث انتهاكات لنظام ينتهي. يجب علينا ألا نحني رقابنا وأن نفعل ما نستطيع القيام به”.
وأشار إلى أن المنصات المدافعة عن حقوق ضحايا حالة الطوارئ باتت منتشرة في جميع أنحاء تركيا، قائلًا: “اجتماعاتنا لم تعجب البعض. ولكن إياكم والتراجع.. سنستمر في ذلك من أجل إسماع صوتنا للعالم أجمع”.
وقال عمر جرجيرلي أوغلو محذرا من تجاهل ضحايا حالة الطوارئ: “من صمتوا على الظلم في الماضي يقولون لي الآن إنهم ينتظرون دورهم اليوم لكي يتهموا بالانتماء إلى حركة الخدمة. أحد ضباط الشرطة المفصولين بقرارات حالة الطوارئ قال لي: ’لا تصمت، وإلا فإن الدور سيأتي عليك. كنت أعتقد أن الدور لن يأتي عليّ. ولكن الدور أتى عليّ أنا أيضًا‘. إذا صمتنا أمام ذلك سيأتي الدور علينا جميعا”.
حركة الخدمة ضحية انقلابي 1997 و2016
يذكر أن الباحث والمحلل السياسي التركي محمد عبيد الله كشف في دراسة موثقة عن حقيقة انقلاب 15 يوليو 2016 أن استهداف النظام التركي الحالي بقيادة أردوغان لحركة الخدمة يأتي في إطار خطة مدروسة يرجع تاريخها إلى تسعينات القرن المنصرم، وتحديدًا إلى ما سمي بـ”انقلاب 28 فبراير 1997 الناعم”، وأن ما فعله أردوغان من خلال تدبير انقلاب صوري على ذاته في 15 يوليو 2016، ثم اتهامِه حركة الخدمة بتدبيره، ليس إلا “تتمة دموية” لذلك الانقلاب.
وأضاف عبيد الله في دراسته “قد يبدو الأمر نوعًا من المبالغة للوهلة الأولى، لكن إذا تابعنا بدقةٍ التصريحات التي أدلى بها القائمون على ذلك الانقلاب قديمًا وحديثًا فسندرك صحة هذا التشخيص وسيتبين لنا أن ما فعله أردوغان من خلال تدبير “انقلاب شكلي على ذاته” ليس إلا من قبيل وضع اللمسات الأخيرة على ما بدأه هؤلاء الانقلابيون التابعون للدولة العميقة في 1997″.
وبعد حوالي 20 عامًا على انقلاب 1997، خرج دورسون جيجك، رئيس وحدة “الحرب النفسية” في الجيش سابقًا، وصرح لصحيفة “حريت” في مارس 2016 أن “الهدف الأساسي من عملية 28 فبراير 1997 كان الرجعيةَ الدينية والمقصود بها 80% حركة الخدمة وباقي النسبة للحركات والجماعات الدينية الأخرى”.
العقيد جيجك هو الاسم الذي أعد “خطة القضاء على حزب العدالة والتنمية وحركة كولن” أو “خطة عمل لمكافحة الرجعية” في 2009 وأحد المتهمين في إطار قضية “تنظيم أرجنكون الإرهابي” التي انطلقت في عام 2007.
بينما أعلن زعيم حزب الوطن اليساري العلماني المتطرف دوغو برينجك، الذي كان من أكبر المحرضين على انقلاب 1997، أنه من حرر نصوص 11 مادة من مواد قوانين مكافحة الرجعية الدينية أثناء انقلاب 1997، ووقّع عليها رئيس الحكومة آنذاك نجم الدين أربكان بإرادته المحضة، على حد قوله. ثم كتب بصحيفة “آيدينليك” في 25 يناير 2017 مقالًا يؤكد ما قاله العقيد جيجك: “عملية 28 فبراير (الانقلابية) استهدفت تحالف تنظيم فتح الله كولن وحكومة تيشلر الائتلافية مع أربكان”.
وفي تصريحات أدلى بها لموقع “روتا” الإخباري في عام 2015 قال برينجك: “إن الرئيس أردوغان تم الاستيلاء عليه من جانب القوى الوطنية”. وقد كرر ذلك في تصريحاته لـ”نيويورك تايمز” عام 2016.
وهو يقصد بعبارة “القوى الوطنية” قادة وأنصار التيار القومي العلماني المتشدد (Ulusalcılar) الذين ينتمون إلى حزبه الوطن؛ حزب العمال القديم، بصورة أساسية، والذين ينصبون أنفسهم ورثة مصطفى كمال أتاتورك؛ مؤسس الجمهورية التركية الحديثة.
صرّح برينجك أيضًا في حوارٍ أجراه معه موقع “روتا” الإخباري في عام 2015 أنهم من وضعوا “مشروع القضاء على حركة الخدمة” وليس حزب العدالة وأردوغان، وأكد أنهم يستهدفون القضاء على كل الجماعات الإسلامية أصلاً، لكن أولويتهم هي القضاء على حركة الخدمة. وشدّد على أن العمليات الأمنية المضادة، التي انطلقت عقب فضائح الفساد والرشوة في 2013، واستهدفت البيروقراطيين في شتى المؤسسات، بتهمة الانتماء إلى “الكيان الموازي”، أو “حركة الخدمة”، يتمّ تنفيذها في إطار البرنامج الذي وضعوه. وأفاد أن الرئيس أردوغان انضمّ إلى صفّه في مسألة فتح الله كولن، وأن أردوغان هو الذي تبنّى برنامجهم في هذا الصدد، وليسوا هم من ذهبوا إليه وتبنوا برنامجه.
برينجك لعب دورًا مشابهًا لما لعبه في أيام انقلاب 1997 فيما سمي بـ”الانقلاب الفاشل” في عام 2016. ففي مقال نشرته صحيفة “آيدينليك” في 25 يناير 2017 أكد أن “تركيا عادت بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016 إلى برنامج عملية 28 فبراير (الانقلابية) مرة أخرى عقب تعرضها للانقطاع”.
وهو يعني بعبارة “بعد محاولة الانقلاب الفاشلة” حركة التصفية الشاملة التي انطلقت ضد غير المرغوبين فيهم في صفوف الجيش والأمن والقضاء وكل فصائل الحياة المدنية.
والمثير أن برينجك اعترف بشكل صريح أنهم من أعدوا قوائم الأسماء التي قام أردوغان بتصفيتها بعد محاولة انقلاب 2016، مؤكدًا خلال مؤتمر صحفي في إيران أنهم تمكنوا من تصفية 30 ألف جندي موالٍ لحلف شمال الأطلسي الناتو بالتهمة الجاهزة “الانتماء إلى منظمة فتح الله كولن”.
تصريحات نائب رئيس حزب الوطن نُصرتْ سنيم من الأدلة التي تثبت أن حركة الخدمة كانت هدف الانقلابَيْن العسكري القديم والمدني الحديث، حيث قال: “قرارات 28 فبراير (الانقلابية) لم تتخذ ضد نجم الدين أربكان. بل كان هدفها الحقيقي هو تانسو تيشلّر (زعيمة حزب الطريق القويم شريكة الحكومة الائتلافية مع أربكان) وحليفها منظمة فتح الله كولن”.
وزعم برينجك في تصريحات أدلى بها في سبتمبر 2019 لصحيفة (دي إندبندنت) البريطانية في نسختها التركية أن حزبه من يدير تركيا منذ عام 2014 وليس أردوغان، ووصفه بـ”الخادم” لـ”مشروعه” الذي يتمثل في القضاء على حركة الخدمة. ثم أعاد للأذهان ما قاله عندما خرج من السجن في 2014: “لقد قلت في 3 مارس 2014 إننا خرجنا من السجن كالسيوف المستلة من أغمادها، وسنجتثّ كل الجماعات الإسلامية من جذورها.. وها نحن قد حققنا ذلك بالفعل”، في إشارة منه إلى عمليات الاعتقال والفصل التي يتعرض لها موظفو الدولة منذ بدء فضائح الفساد والرشوة التي طفت إلى السطح في عام 2013 والانقلاب المدبر في عام 2016.
فوق ذلك هدد برينجك أردوغان في برنامج على قناة أولوسال تي في “ULUSAL TV” قائلاً: “أردوغان يسير وفق رؤية حزبنا وأنه إن لم يفعل ذلك سينتهي أمره”. وعندما سُئل عما إذا كانت تركيا ستخضع للشروط الأمريكية في الداخل وسوريا، رد قائلًا: “لن تخضع للشروط والإملاءات الأمريكية، وإن خضعت فإن سلطة أردوغان ستسقط. نظام أردوغان لا يمتلك حرية التلاعب بمستقبل تركيا. هناك مركز قوى في تركيا.. وهو ما قام بإعادة تصميم حكومة أردوغان بعد عام 2014. أردوغان يسير على خطى حزب الوطن ويحارب في وجه أمريكا بكل عزم، وإذا خرج عن هذا المسار فإن حكومته ستسقط فورًا”.
كما قال برينجك في أكثر من مناسبة إنهم تمكنوا من القضاء على حركة الخدمة وإعادة تركيا إلى “جذورها الكمالية الأتاتوركية”، بعد إفشال الانقلاب بحيث لم تعد تشكل مصدر تهديد لتركيا، على حد قوله. كذلك وصف أردوغان بأنه “أصبح كماليًّا إسلامويًّا”، وفق تعبيره.
“أردوغان أفضل شخصية لمكافحة الخدمة”
وكان رئيس الأركان العامة السابق إيلكار باشبوغ الذي سبق أن سجن في إطار قضية تنظيم أرجنكون أيضًا قال: “أردوغان كان أفضل شخصية لمكافحة منظمة فتح الله كولن، لولاه لما قطعنا شوطًا بعيدًا في هذا الصدد”.
وكشف الكاتب من جريدة “آيدينليك” صباح الدين أونكبار سرّ كون أردوغان أفضل شخصية لمكافحة حركة الخدمة بقوله: “بغضّ النظر عن حبّكم أو كراهيتكم للرجل، فإن أردوغان كان الترياق الشافي لسمّ تنظيم فتح الله كولن… ولا يمكن لأحد إطلاقًا أن يحلّ محله في هذا الأمر. تخيلوا أن الآلاف من النساء المحجبات من هذا التنظيم قابعات في السجون! لو لم يكن أردوغانُ الحاكمَ في تركيا اليوم لكانت هناك دعاية بأن هذه الخطوة هدفها معاقبة النساء المحجبات. لذا فإن الطريقة التي يتبعها أردوغان مهمة للغاية للنجاح في تصفية منظمة فتح الله كولن”.
على الرغم من تفاخر أردوغان سنوات عديدة بدعمه الصارخ لتحقيقات الدولة العميقة / تنظيم أرجنكون الإرهابي، إلا أنه بعد ظهور فضائح الفساد والرشوة في 2013 أنكر وجود هذه الدولة أو التنظيم، مدعيًا أن حركة الخدمة دبرت مؤامرة ضد ضباط أرجنكون، وألصقت بهم تهمة الانقلاب وهم برءاء من ذلك، ليطلق في 2014 سراح جميع المعتقلين منهم (حوالي 350 ضابطًا برتب مختلفة، بالإضافة إلى مدنيين). ومن ثم قدم هذه الحركة مسؤولة عن كل الجرائم البشعة التي كانت محسوبة على أعضاء هذه الدولة العميقة، إلا أن الرأي العام لم يقتنع أبدًا بهذه الأطروحة في البداية على الرغم من تسخير آلة الإعلام العملاقة لذلك وتصفية الإعلام المعارض.
وإذا علمنا أن القوى التي حرضت ونفذت انقلاب 1997 هي عينها التي تقود اليوم الحرب الشاملة ضد حركة الخدمة مع حليفها الجديد أردوغان من خلال “حالة الطوارئ” المعلنة بعد الانقلاب المزعوم، ثم اكتسبت صفة دائمة في البلاد، فإنه من السهولة بمكان أن نستنتج أن انقلاب 2016 ليس إلا امتدادًا دمويًّا لانقلاب 1997، وأن حركة الخدمة كانت هدف هذين الانقلابَينِ الغاشمَينِ.
–