تقرير: ياوز أجار وعبد الله منصور
إسطنبول (زمان التركية) – قال أردوغان في حوار تلفزيوني بتاريخ 16 فبراير/ شباط 2004 عندما كان يتولى منصب رئيس الوزراء: “أنا أنظر إلى مدينة ديار بكر بشكل مختلف، فهناك مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تتبناه الولايات المتحدة. ديار بكر قد تكون نجمًا ساطعًا في هذا المشروع، وقد تكون مركزًا رئيسًا فيه“.
ثم قال في 4 مارس/ آذار 2006خلال اجتماع له مع قيادات حزب العدالة والتنمية: “تركيا لديها مهمة في الشرق الأوسط، فما هي هذه المهمة يا ترى؟ نحن أحد رؤساء مشروع الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا، ونقوم بتنفيذ هذه المهمة”.
عاد أردوغان وأكد مرة أخرى في 13 يناير/ كانون الثاني 2009 طرحه السابق قائلاً: “يدور الحديث في الكواليس السياسية أن رئيس وزراء تركيا أحد رؤساء مشروع الشرق الأوسط الكبير، ويطالبونه بالانسحاب من المشروع. أريد أن أوضح لهم شيئًا؛ أهداف المشروع، وكذلك المهمة الموكلة إلى تركيا ضمن هذه الأهداف واضحة للغاية”.
دافع أردوغان يومها عن دوره في المشروع، قائلًا: “مشروع الشرق الأوسط الكبير أُعد من أجل تحقيق السلام والتنمية الاقتصادية في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى تحقيق الحريات العامة وحرية المرأة، وتطوير التعليم في هذه المنطقة .. وضمن هذا المشروع كلفت تركيا بمهمة، ونحن قبلنا التكليف”.
وقد أدلى زعيم حزب الوسط الكبير الدكتور عبد الرحيم قارصلي بتصريحات صادمة خلال برنامج أذيع على قناة (+1) التركية؛ حيث نقل عن الكاتب “الإسلامي” المعروف عبد الرحمن ديليباك، قوله: “إن حزب العدالة والتنمية أسّسته الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل كمشروع سياسي، فهذه القوى التي دعمت الحزب عند تأسيسه قدمت له ثلاثة وعود وهي:
أولًا: مساندة حزب العدالة والتنمية للوصول إلى سدة الحكم في تركيا.
ثانيًا: القضاء على جميع العقبات التي تواجهه أثناء إدارة البلاد.
ثالثًا: تقديم الدعم المالي.
وفي مقابل ذلك طلبت القوى الثلاث من حزب العدالة والتنمية تنفيذ ثلاثة بنود أساسية، وهي:
أولًا: العمل على حماية أمن إسرائيل ومساندتها بما يلزم لإزالة العقبات التي قد تواجهها في المنطقة.
ثانيًا: تنفيذ أهداف “مشروع الشرق الأوسط الكبير”، أي تغيير الحدود وإعادة رسم الخريطة السياسية التي تعززها الأحداث والصراعات التي تمر بها المنطقة حاليًا.
ثالثًا: مساندة القوى العالمية في تشويه صورة الإسلام من خلال تقديم الدعم للتنظيمات المتطرفة في المنطقة.
وقد أكّد ديليباك بنفسه صحة هذه التصريحات المثيرة التي نقلها عنه قارصلي، وذلك في اتصال هاتفي جرى بينه وبين الكاتب الصحفي المعروف المعتقل حاليًا أونال طانيق، رئيس تحرير الموقع الإخباري “روتا خبر”.
كما أن الصحفي والمفكر علي بولاج الذي يرتبط اسمه بنهوض الحركة الفكرية الإسلامية الحديثة في تركيا، اعترف بأنه كان حاضرًا في ذلك الاجتماع الذي ألقى فيه صديقه ديليباك كلمة أمام مجموعة من الناس تحدث فيها عن أن “حزب العدالة والتنمية قد تم تأسيسه كمشروع أجنبي”.
وقال بولاج: “إن المسؤولين الأمريكيين قد عرضوا مشروع الشرق الأوسط على الزعيم السياسي الراحل نجم الدين أربكان في البداية أثناء توليه رئاسة الوزراء، إلا أنه رفض هذا العرض، وفي لقائي الأخير مع السيد أربكان قبيل وفاته تحدث إليّ عن مراحل تأسيس حزب العدالة والتنمية، كما أطلعني على بعض الوثائق التي تثبت أن هذا الحزب تم تأسيسه من أجل تنفيذ المشروع الأمريكي الكبير في الشرق الأوسط، وشهد هذا اللقاء أرتان يوليك، نائب رئيس حزب السعادة الذي يعتبر من الشخصيات المقربة من الزعيم السياسي الراحل أربكان”.
وأفاد بولاج أن ديليباك أكد في كلمته التي ألقاها في منزل عبد الرحمن قارصلي أن “حزب العدالة والتنمية قد تم تأسيسه على النحو المذكور، إلا أن أردوغان بدأ يدير سياساته الآن مستقلًّا عن القوى الكبرى”.
ومن ثم كتب الكاتب الصحفي محمد علي بولوط في مقالة نشرت في الموقع الإخباري لـ”القناة السابعة” التركية بتاريخ 11 يناير/كانون الثاني 2014 أن أردوغان طلب من محسن يازجي أوغلو، زعيم حزب الاتحاد الكبير القومي،الذي لقي مصرعه في حادث طائرة مروحية أثناء حملة الانتخابات المحلية التي أجريت عام 2009 بصورة مثيرة للشبهات، أن ينضم إلى حزبه. وقد جرى بينهما هذا الحوار:
يازجي أوغلو: يا أخي العزيز إن الخبرة التي اكتسبتها خلال عملي السياسي والأحداث التي شهدتها خلال هذه الفترة علمتني أن الخطة السياسية المبنية على الدعم الأمريكي لا تثمر نتائج مرجوة. إذا اعتمدْتَ في سياساتك المحلية والإقليمية والدولية على الشعب فستجدني أقف معك. وإلا فاعلم أن الأمريكيين لا يراعون في سياساتهم التي ينفذونها عبر حلفائهم إلا مصالحهم الشخصية فقط.
أردوغان: إننا سننفذ ما يطلبه منا الأمريكيون في البداية، ثم نتبع السياسات التي تحقق مصلحة الشعب التركي. وإذا حاول الأمريكيون منعنا لن نبالي بهم ونمضي في طريقنا.
يازجي أوغلو: إن الولايات المتحدة ليست من بين القوى في العالم التي يمكن خداعها وعدم المبالاة بها، ولا تنس أن مَن يدخل الحلبة مع الفيل يخرج منها مسحوقًا!
والآن ننشر مقالاً كتبه المفكر الإسلامي التركي فتح الله كولن بتاريخ 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2004، يتناول فيه في وقت مبكر جدًّا ماهية مشروع الشرق الأوسط ويكشف عن مخاطر الانجرار وراء مشاريع الآخرين ويؤكد ضرورة الاعتماد على المقومات الذاتية في خدمة الوطن والأمة.
السؤال: كيف تقيّم مشروع الشرق الأوسط الكبير؟ وما هو الموقف الذي يجب على تركيا اتخاذه تجاه هذا المشروع؟
الإجابة: مشروع الشرق الأوسط الكبير أصبح أكثر الموضوعات حديثًا، والأكثر شغلًا للرأي العام العالمي في الفترة الأخيرة. ولكن المشروع ليس وليد اللحظة، وإنما يعود إلى سبعينيات القرن الماضي.
المشروع ليس الأول من نوعه، بل سبق أن تم التخطيط لهذا النوع من المشروعات وتطبيقها بالفعل. فعلى سبيل المثال؛ أقبلت بعض القوى على تحريض بعض القبائل العربية على ثورات تستهدف إسقاط الدولة العثمانية ومحوها من خريطة المنطقة، وإحداث خلل في توازن القوى بين دول المنطقة، ونقل كفة ميزان القوة من دول إلى أخرى. فأشعلوا المشاعر العرقية، وغرسوا بذور الفتنة والكراهية والحقد بين الأمم المتجاورة، بوعود تأسيس دولٍ قومية. منذ ذلك الحين إلى اليوم لا يزال جميع الحكام في تلك الدول القومية يضمرون في قلوبهم حينًا ويظهرون على ألسنتهم أحيانًا مشاعر الحقد والكراهية تجاه الآخرين. فوق ذلك هناك فئات مختلفة داخل القومية ذاتها يشاركون في لعبة القومية العنصرية، ويكنّ أبناء القوم ذاته العداوة والكراهية تجاه بعضهم البعض، مثل العنصرية التركية أو العربية. كل هذه هي نتائج بعض المشروعات التي بدأ تطبيقها في بدايات القرن العشرين.
إحدى المجلات كانت تتحدث في سبعينيات القرن الماضي عن مخطط لتقسيم 20 دولة في الشرق الأوسط والدائرة القريبة من تركيا. وقد عبرت حينها عن مخاوفي تجاه هذا الأمر إلى أصدقائي بعدما قرأته في تلك المجلة عندما كنت أؤدي فريضة الحج في الأراضي المقدسة. لذلك لم أفاجأ عندما بدأت خطوات تنفيذ بعض المخططات الخاصة بهذه المنطقة. كانوا وضعوا هذه المخططات من قبلُ وربما كانوا يتحينون منذ 30 عامًا الفرصة السانحة لتطبيقها. من المؤكد أن مخططات التقسيم والتفتيت هذه كان يجب تنفيذها عن طريق أشخاص ومجموعات معينة. كل من سوريا ومصر والأردن وإيران والعراق كانت بين الدول المراد تقسيمها. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار الجهود المتواصلة الرامية إلى خلق اضطرابات في جنوب شرق تركيا بتوظيف الإرهاب فإنه من الواضح أن تقسيم هذه المنطقة أيضًا كان ضمن المخطط ولا يزال كذلك.
ولا بد أن نذكر حقيقة أن هناك اختلافًا بين الخطاب المستخدم في الماضي والحاضر في إطار الحديث عما يسمى بمشروع الشرق الأوسط أو مشروع شمال وجنوب أفريقيا. ففي وقتنا الحاضر يستخدمون خطابًا يزعم أنهم يهدفون إلى جعل هذه المنطقة “جزرًا للسلام” طبقًا لرؤيتهم، إلا أن خطابهم في الماضي كان مختلفًا عن ذلك. من المحتمل أن ردود الفعل العلنية والسرية التي أبدتها دول المنطقة أو دول من خارج المنطقة، أجبرت أصحاب هذا المشروع على مثل هذا التغيير. يبدو أنهم أعادوا طرح هذا المشروع بأسلوب يتسم بمزيد من النعومة يدعي أنهم يسعون إلى تحقيق الأمن والسلام وإنشاء مناخ بحيث يحمي الدول المجاورة لهذه المنطقة من أي ضرر أو خطر محتمل.
نعم، هناك جهات أو أطراف يطرحون هذا النوع من المشروعات، مزخرفين حديثهم وخطابهم بعبارات من قبيل تحقيق الديمقراطية للمنطقة. ولكن قبل كل شيء يجب علينا التأكد مما إذا كانوا صادقين في خطاباتهم وأهدافهم أم لا. حيث إن القائد الذي كان على رأس المحتلين لبنغازي في ليبيا عام 1911 هو أيضًا زعم قائلا: “لقد جئنا من أجل تحقيق المدنية والحضارة لكم”. ربما قالوا أيضًا عندما أقدموا على تقسيم الدولة العثمانية: “جئنا لنهيئ لكم أرضية أكثر رسوخًا. نحن هنا من أجل تحقيق الحرية لكم”. أما الآن فيدور على ألسنتهم مقولة: “جئنا لتحقيق الديمقراطية في المنطقة”. لا أحد يعترض على الديمقراطية، بل الديمقراطية كلمة ناعمة بحيث ستسوّغ الكثير من الأمور التي ستأتي مغلفة بالديمقراطية. والحجة التي يسوقونها في هذا الصدد هي أنه “يجب على الإنسان أن يقدم بعض التضحيات من أجل تحقيق الديمقراطية”، وهي ليست إلا فكرة شيطانية.
الأمر الثاني: ألا يمكن أن يكون بعض الأشخاص أو الجهات يخططون مع حلفائهم لتأجيج الصراعات العرقية في المنطقة، وضرب جماعات ذات ثقافات مختلفة ببعضها البعض، والإيقاع بين المجموعات الدينية، بهدف ترسيخ قدمهم ومكانتهم في المنطقة ،ومن ثم التحكم في مصير ومقدرات المنطقة بأكملها؟
ألا يمكن أن يكونوا يفكرون أن يستخدموا تلك الوعود البراقة والكلمات البريئة من أجل إضفاء الشرعية على تدخلهم في المنطقة بشكل أو بآخر وإحراز موقع “الحكم” في تلك النزاعات؟
بعيارة أخرى؛ ألا يمكن أن يكونوا يريدون من خلال هذه المشاريع والعمليات أن يثيروا الفتنة ويوقعوا بين المجموعات الدينية والطائفية ،ومن ثم يتدخلوا في المنطقة ويصبحوا حكمًا لتسوية تلك الخلافات متذرّعين بخطابات بريئة من قبيل: “دول المنطقة باتت عاجزة عن تأمين الأمن والاستقرار.. وإذا ما سادت في مكان ما الفوضى والاضطرابات فإن نتائجها ستؤثر بصورة أو بأخرى على كل دول العالم.. لذا فإن الحيلولة دونها مهمة إنسانية واجبة علينا”.
قد يكون هذا أهداف مشروع الغرب، وقد تكون هناك مشروعات وأهداف أخرى لدول ومحاور أخرى.. بحسب رأيي، ليس من الصحيح مجرد الاعتراض على مثل هذه المخططات، سواء كانت مشروع الشرق الأوسط أو مشروع شمال وجنوب أفريقيا، بشكله القديم أو الجديد، أو مشروع الشرق الأقصى –إن وجد-. ذلك أن المهمّ والمطلوب هنا هو معرفة الأشخاص أو الجهات التي تقوم بوضع وطرح هذه المشروعات، والاطلاع على التصورات التي ينطلقون منها ويعتمدون عليها. فإن لم تكن دول الشرق الأوسط مَن وضعت هذا المشروع بل وضعته قوى عظمى ترغب في السيطرة على المنطقة كالولايات المتحدة أو أوروبا أو روسيا أو الصين أو الهند، فإنه ليس من الصائب أن نتبنى هذا المشروع وندعمه، نظرًا لأننا لا نعلم أهدافه الأولية والنهائية ولم نكن أحد أطرافه منذ البداية. والانضمام إلى المشروع وتبنيه في مرحلة معينة من تنفيذه قد يبدو اليوم وكأنه في صالحنا، غير أن ذلك قد يسفر عن نتائج سيئة وعواقب وخيمة للغاية قد تحملنا المسؤولية أمام التاريخ؛ لأننا لم نكن طرفًا مع من وضعوا وحددوا قواعد اللعبة.
يا ليت كانت تركيا من أعدت هذا المشروع عن طريق مراكز الدراسات والبحوث الاستراتيجية المختلفة، بمشاركة دول الشرق الأوسط، ومن ثم عرضته على تلك القوى العظمى، وذلك نظرًا لأنها (تركيا) لا تزال تمتلك رصيدًا قويًا وسمعة طيبة في لاوعي شعوب المنطقة. يا ليتها قالت للأوروبيين: “لدينا هذا المشروع، أنتم تخافون من الإرهاب، ولديكم مخاوف من الشرق الأوسط. أما نحن فمصدر للثقة والضمان والأمان. لذا إذا تمكنا من التعاون مع دول المنطقة بالصورة المنشودة فإنكم لن تواجهوا أي خطر منها ولن يمسكم أحد بالسوء”.
ونرى فعلاً أن بعض دول المنطقة بعدما لاحظت مكانة تركيا ونفوذها بدأت تقول: “إنْ حصلنا على دعم تركيا بشكل أو بآخر قليلاً أو كثيرًا فهذا ربحٌ ومكسبٌ لي”، وتحاول الحفاظ على علاقات جيدة مع تركيا باعتبار أن ذلك سيزيد من قوته في المنطقة. حيث إن تركيا لديها ماضٍ وتاريخ إسلامي، كما أنها، في الوقت الحالي (2004 بدايات حكم حزب العدالة والتنمية) تمتلك نظامًا وفكرًا ديمقراطيًا ينظر إلى الإسلام بمسامحةٍ. كذلك لديها ماضٍ وتاريخ مشترك مع دول الشرق الأوسط، فقد عاشت معها لنحو ألف عام. لذلك فإن تركيا لها رصيد كبير ومهم للغاية في لاوعي أهالي المنطقة.
نعم؛ نحن نمتلك تاريخًا يمتد لبضعة آلاف من السنين، ولدينا ماضٍ مجيد. نحن أمة حكمت حتى نصف القارة الأوروبية. ومع أننا اليوم فقراء، وأوضاعنا الاقتصادية ليست جيدة، ومتأخرون عن الغرب في بعض النواحي، ولكن تركيا بالرغم من كل ذلك دولة لها اعتبار وسمعة طيبة في المنطقة. والدول التي تتعاون معنا يمكنها أن تقيم علاقات مع دول المنطقة تقوم على الاحترام والثقة المتبادلة والمصالح المشتركة. مع الاعتراف بنقصنا وقصورنا في بعض الجوانب، إلا أننا من دون شك متفوقون على معظم دول المنطقة في كثير من الجوانب. فإذا رغبنا بفعل شيء ما فعلينا أن نستثمر هذه السمعة الطيبة وهذا الإقبال من شعوب المنطقة علينا في بناء مستقبل مشرق للجميع.
لذلك أقول: يا ليت كنا نحن من درسنا الموضوع بكل أبعاده ووضعنا هذا المخطط منذ البداية، وبينّا مبرراته ومقتضياته وحددنا قواعد اللعبة. لو كنا نجحنا في تحقيق ذلك لما تعرضنا للضرر. لو كنّا أصحاب المخطط لكان بإمكاننا إجراء تعديلات عليه حيث ما نشاء ونريد. على سبيل المثال؛ فيما يخص التدخل العسكري في العراق كان بإمكاننا أن ندعوهم إلى التصرف بمزيد من العقلانية والحنكة ونمنع بذلك إراقة دماء الآلاف من المدنيين والأبرياء. ولكن هذا لم يحدث للأسف.
لكن الواقع أن الآخرين من يوجهون اليوم دفة هذا المشروع. أفراد طاقمه يتألفون من أناس آخرين. لذلك من الصعوبة بمكان التكهن بأي موقف أو تصرف سيحقق لنا المكسب. من الممكن أن نحقق مكسبًا عابرًا على المدى القصير، ولكن لا يمكننا أن نعلم ماذا سيُظهر لنا الغد.
يجب أيضًا ألا ننسى: أن الأمة التركية أمة مجيدة. لا يمكن أبدًا أن أرضى بموقف مهين كأن نكون أداة أو بيدقًا يخدم مصالح الآخرين في المنطقة ولو جلب ذلك لنا بعض المصالح. إن لنا ماضيًا شريفًا وتاريخًا عريقًا. وعلى الرغم من أننا فقراء في كثير من لمجالات، إلا أنني أؤمن إيمانًا جازمًا بأننا سنسترد مكانتنا بإذن الله تعالى وسنحرز موقعنا مرة أخرى بين دول العالم، عاجلًا أو آجلًا، على كواهل الأجيال الشابة والعقول الإبداعية المنتجة، باعتبارنا أمة قد تعلمت كيف يمكن تطوير عشرة أنواع من الطرق البديلة للقيام والنهوض مرة أخرى بعد سقوط واحد. لذلك أرى تحوّلنا إلى أداة أو آلة يستخدمها الآخرون أمرًا يحطّ من عزتنا وحميتنا. لا يمكننا أن نصبح أدوات وبيادق بيد الآخرين. يجب علينا أن لا نكون كذلك. وأعتقد أن الانضمام إلى هذه اللعبة في منتصف الطريق من دون اطلاع على مقدماتها وإعمال فكر في عواقبها المحتملة وبطريقةٍ قابلة للاستخدام والتوظيف خطوة خاطئة بدون ريب حتى ولو فتح ذلك أمامنا أبواب الخزائن والثروات وأصلح اقتصادنا المنهار.
قد يقول البعض إنه يجب دعم هذا المشروع بموجب شراكتنا الاستراتيجية مع الدول الأخرى. ولكن الحقيقة أن الشراكة الاستراتيجية لا تعني المشاركة في تطبيق خطة موضوعة ومصمّمة من قبل الآخرين! لماذا لم يأخذوا رأينا في الإعداد لهذا المشروع؟ لماذا لم يقولوا لنا: وماذا تفكرون أنتم في هذا الموضوع؟ لماذا لم يسألونا عما إذا كنَّا نوافق على تطبيق كل بنود هذا المشروع أم لدينا تحفظات على بعضها؟ الواقع هو أنهم يضعون أمامنا مشروعًا أعدوه قبل سنين دون الرجوع إلينا في أي شيء، ثم يقولون لنا: “تعالوا وساندونا”. المعنى الصريح والوحيد لهذا هو: “تعالوا وأقرضوا لنا رصيدكم الإيجابي في العالم الإسلامي لخدمة مصالحنا. نحن نستغل هذا الرصيد ونقدم لكم هذه الإمكانيات”.
على الجانب الآخر، قد يكون رفض المشروع من دون روية ونظر وفكر خطأ أيضًا. حيث قد نكون أخطأنا بمثل هذا القرار والتقاعس في اتخاذ تدابير كفيلة بمنع حصول ضرر أو خطأ أكبر. لذلك ليس من الصحيح أن نستعجل في القول “لا ” والانسحاب من الساحة على حساب الآخرين ليتلاعبوا كيفما يشاؤون. بل ينبغي دراسة الموضوع وتحليله بنظرة دقيقة وعميقة ثم الموافقة أو الاعتراض عليه.
ومن هذه الناحية تقع على عاتق مفكرينا ومثقفينا مسؤوليات كبيرة. يجب أولاً أن نتناول الموضوع بنظرة تحليلة ونوجِّه أسئلة للحصول على أجوبة: لماذا وعلى أي أساس تطرحون هذه الفكرة؟ ما الهدف الذي تسعون لتحقيقه من وراء ذلك؟ هل أنتم صادقون فعلاً في وعودكم بترسيخ الديمقراطية بالمنطقة أم تعتزمون الدخول إليها والتحرك فيها بمزيد من الحرية والأريحية؟ هل تخططون لفرض هيمنتكم على المنطقة من خلال الإيقاع بين الجماعات والطوائف العرقية؟
هذه وظيفة تقع على عاتق الدولة بشكل كبير. يجب على أجهزتنا الاستخباراتية أن تستنفر وتعقد اجتماعات تشاورية مع الفواعل المحلية والإقليمية المختلفة.
لا أعلم إذا كان الأطراف الذين يوجهون الحياة السياسية في تركيا، والمسؤولون في الحكومة والمعارضة، والموظفون في الجهاز البيروقراطي، سواء كانوا مدنيين أو عسكريين، قد قاموا بإعمال النظر والفكر في هذا الموضوع كما ينبغي أم لا، وهل يوافقون على المشروع أم لا. إلا أنني أعتقد شخصيًّا أن هذا المشروع لن يصبّ في مصلحتنا ولا يحمل في طياته خيرًا لنا؛ لأننا لم نقم بمراجعته منذ بداياته ولم نطلع على مضمامينه بالكامل.
هذا المشروع لا يمكن أن يحقق لا مصلحة تركيا ولا مصلحة شعوب المنطقة؛ لأنه لم يأخذ بنظر اعتباره مصالحنا عند طرحه لأول مرة، ولسنا من حددنا قواعد لعبته. لذلك على الدولة أن تبحث الأمر بجدية وحساسية شديدة، وأن تدقق فيه جيدًا وتقول بعدها “نعم” أو “لا”.
يمكن أن أقول شخصيًّا “لا” في وجه مثل هذا المشروع؛ ولكن إذا تدخلت تركيا في هذا المشروع، فقد تكون قادرة على تغيير لونه وشكله ونقشه، وعندها قد تأتي النتائج في مصلحة كل من تركيا والمنطقة، وتستحق أمتنا أن تكون ذكرى جميلة في صفحات التاريخ مرة أخرى. ولكن بصورته الحالية لا يمكنني أن أقول “نعم” وأن أؤيد ذلك المشروع. نعم، هذا المشروع يتطلب التريث وعدم الاستعجال في الحكم عليه أو له، فهو قضية خطيرة تتعلق بحاضرنا ومستقبلنا على حد سواء. لذلك يجب الاجتماع بمؤسسات الدولة ورجالاتها المدنيين والعسكريين، وحزبها الحاكم، ومعارضتها، ومؤسساتها غير الحكومية ومناقشتها سويًا وإصدار قرار مشترك فيها.
–