يقلم: يوكسل جايير أوغلو
القاهرة (زمان التركية) – موضوع “علاقة المسلم بغير المسلم، وموالاة غير المسلمين” من الموضوعات التي كثر الحديث عنها في مناسبات وسياقات مختلفة في الماضي والحاضر.
معظم من يطرحون هذه المسألة هم الذين يعارضون فكرة بناء علاقات تقوم على أساس التسامح والحوار مع منتسبي الأديان الأخرى. فهم ينطلقون من بعض الآيات القرآنية، ويزعمون أن القرآن يمنع على الإطلاق موالاة غير المسلمين، بل أن الأمر يتجاوز هذا ليصل إلى درجة العداوة والبغضاء ومقاطعتهم، بل حتى تسويغ عمليات إرهابية ضدهم.
لا شك أن مثل هذه الأفكار المتطرفة والشاذة الناتجة من التعصب والتشدد والفهم السطحي واللفظي للقرآن الكريم تؤدي إلى ظهور أنواع أخرى من التطرف والتشدد.
فإن مثل هذا الإفراط على وجه العموم يؤدي إلى التفريط لا محالة. وعندما تُطرح هذه المسائل على طاولة البحث والنقاش يظهر على الفور أصحاب النظرة التاريخانية والمعاصرة ويرفضون الأحكام المتعلقة بهذه القضايا دون الشعور بالحاجة إلى فهم وتحري أسسها القرآنية.
في الواقع لو تم فهم علَّة تحريم الموالاة وتحديد الإجابة الصحيحة على أسئلة “مع من؟”، “في أي مناسبة؟” و”لماذا؟”، لما بقي هناك أي مجال للاعتراض المبالغ فيه.
منهجية تفسير وتأويل الآيات
القرآن الكريم كتاب الله المعجز، الذي أنزله للناس، لفهم معناه والعمل بمقتضاه، فهو كتاب كوني تظل أحكامه سارية إلى يوم الدين؛ لكن هناك بعض النواحي التي يجب الانتباه إليها من أجل فهمه فهمًا صحيحًا، وهي أن القرآن الكريم ليس من قول البشر، بل إنه كلام إلهي وله طريقة خاصة في تناول المسائل والقضايا.
كل آية وكل سورة في القرآن الكريم ترتبط ارتباطًا وثيق الصلة بما قبلها وما بعدها، ومن ثم يجب فهم الآيات من خلال السياق بأكمله، وتجنب اجتزاء واقتطاع النصوص من سياقها، فليس من الممكن الوصول إلى نتيجة وحكم صحيح بآية مجتزئة أو مقتطعة من موضعها في القرآن الكريم.
تشتمل كل آية على طبقات من المعاني الغزيرة التي يدل عليها اللفظ، فليس من الممكن الإبحار إلى هذه المعاني عن طريق النظرة السطحية أو الوقوف عند ظاهر اللفظ فحسب، والواجب فعله في هذا الصدد هو الكشف عن المقصد الحقيقي للآيات، ومن ثم يتطلب هذا الوقوفَ على قواعد اللغة العربية وعلم البلاغة وفنونها ومناهج التفسير.
وبجانب هذا يجب فهم الآيات من خلال المقاصد العامة للدين والمبادئ الكليَّة له، كذلك معرفة أسباب النزول والحالة السياسية – الاجتماعية للفترة التي نزلت فيها الآيات، والوقوف على تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطبيقه، ومعرفة التفاسير والتأويلات الذي أتى بها علماء المسلمين؛ فكل هذا مهم بدرجة كبيرة لفهم الآيات فهمًا صحيحًا.
الآيات المتعلقة بموالاة غير المسلمين
عشرات الآيات الكريمات التي تقف على ماهية وطبيعة العلاقات التي تُؤسس مع غير المسلمين؛ فتوضح للمسلمين من هم الذين تجوز أو تحرَّم موالاتهم وما هي صفاتهم. لا شك أن من يلق نظرة عامة على هذه الآيات في ضوء منهج استقرائي يفهم بأريحية مطلقة الفئات الذين تحرم موالاتهم ونوع المعاملات المحظورة والمحرمة معهم والدافع وراء ذلك.
فنجد الآية الكريمة من سورة آل عمران تتناول المسألة على هذا النحو، يقول تعالى: “لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ..” (سورة آل عمران: 28)
ويتكرر التحريم نفسه في سورة النساء، بقوله تعالي: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا” (سورة النساء: 144).
وفي نفس السورة يؤكد المولى تعالى على أن موالاة الكفار من شيم النفاق، يقول تعالى: “بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۚ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا” (سورة النساء: 138-139).
تؤكد الآيتان السابقتان تحريم موالاة الكافرين، ونجد نفس التحريم بالنسبة لأهل الكتاب في سورة المائدة، يقول تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” (سورة المائدة: 51).
نجد كذلك هذه الآية من سورة المائدة تَذكُر الكافرين وأهل الكتاب معًا وتبيِّن بعضًا من صفاتهم، يقول تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ” (سورة المائدة: 57).
أمَّا هذه الآية الكريمة فتحرم موالاة المنافقين الذين يريدون وقوع المؤمنين في الكفر، يقول تعالى: “فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا ۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ۖ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ۖ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ..” (سورة النساء: 88-89).
أما في سورة التوبة فنجد التعبير الإلهي يستخدم كلمة “وليجة” والتي تعني بطانة الرجل وخاصته بدلًا من “ولي”، فيقول تعالى: “أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ” (سورة التوبة: 16).
وهنا أيضًا في سورة التوبة نجد تحريم موالاة الكفار الذين يصرون على الكفر عمدًا وكبرًا، يقول تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ” (سورة التوبة: 23).
تبين هذه الآية الكريمة من سورة المجادلة وتوضح تحريم موالاة أعداء الله ورسوله، بقوله تعالى: “لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ..” (سورة المجادلة: 22).
توضح كذلك هذه الآية من مطلع سورة الممتحنة تحريم موالاة هؤلاء الذين يحاربون الله ورسوله والمؤمنين، يقول تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ” (سورة الممتحنة: 1)
آية أخرى من سورة الممتحنة تبين أيضًا تحريم موالاة أولئك الذين يعادون المؤمنين من أجل دينهم، ويخرجونهم من ديارهم وأرضهم، يقول تعالى: “إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ” (سورة الممتحنة: 9).
كذلك توضح آية أخرى من السورة ذاتها تحريم موالاة أولئك الذين استحقوا غضب الله، ويئسوا من الآخرة، يقول تعالى “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ” (سورة الممتحنة: 13).
نجد كذلك في سورة آل عمران لفظ “بطانة” بدلًا من “ولي” وتزيح الآية الستار عن صفات من لا يجوز مولاتهم ومودتهم، يقول تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ” (سورة آل عمران: 118).
والآية التالية من سورة آل عمران تذكر تفاصيل أكثر بشأن هؤلاء الذين تحرم موالاتهم، يقول تعالى: “هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ۚ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ۖ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)” (سورة آل عمران: 119-120).
معنى كلمة “أولياء / موالاة“
رأينا بالأعلى الكثير من الآيات الكريمات التي تحرم اتخاذ الكفار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين “أولياء”. وللأسف قد تُرجمت كلمة “الأولياء” إلى كثير من اللغات بمعنى “الأصدقاء”، مما أدى إلى خطأ في فهم معاني الآيات ذات الصلة. بينما كلمتا (ولي) و(ولاية) في اللغة العربية تتضمن معاني كثيرة ومتنوعة، والصداقة واحدة من معانيها فقط. وقد فسر العلامة التركي المعروف ألمالي حمدي يازير (Elmalılı Hamdi Yazır) كلمة “الموالاة” بـ”تفويض الأمور”، ومعناه أن تسند شؤونك وأعمالك إلى غيرك، وتثق فيه كمال الثقة، وتتخذه حاميًا ومدافعًا وحاكمًا.
ومن ثم فإنه ليس المقصود بالتحريم في هذه الآيات العلاقات الإنسانية وما يترتب عليها من المعاملات التجارية والعلاقات التبادلية والزيارات وتقديم الإحسان والعمل المشترك. فتحريم الموالاة لا يمنع من استمرارية الصداقة والقرابة والجوار، حيث إن التحريم منصرف إلى توليتهم زمام الأمور السياسية والاستراتيجية، واعتماد المؤمنين عليهم بالكليَّة، وتوسيد أمور المسلمين إلى غيرهم، وترك صلاحيات التصرف والإدارة في أيديهم. بمعنى أن الآية تطالب المؤمنين باتخاذ الحيطة والحذر دائمًا تجاه المخاطر والمهالك والكوارث التي من المحتمل أن تأتي من الخارج.
ينطبق التحريم أيضًا على إفشاء أسرار المؤمنين إلى غيرهم، والتعاون مع من يدبرون لهم المكائد ويحيكون لهم المؤامرات، والدخول معهم في اتفاقات سياسية أو عسكرية من شأنها أن تلحق الضرر بالإسلام والمسلمين، وغير ذلك من الأفعال الممثالة.
خلاصة القول إنه قد حُرِّم على المؤمنين الدخول في بعض العلاقات التي من شأنها الإضرار بالإسلام والمجتمع الإسلامي، أي أن المقصد الأساس وراء تحريم موالاة غير المسلمين هو حفظ الدين والمسلمين تجاه مخاطر خارجية محتملة.
نجد كذلك لفظي “بطانة” و”وليجة” في بعض الآيات السالفة الذكر يعبران عن علاقة حميمة أعمق بكثير من الصداقة العادية، فهما يعبران عن شدَّة الترابط القلبي والاندماج الروحي، بالإضافة إلى أنهما يعبران أيضًا عن تبني أسلوب وطرز حياة الشخص الذي ترتبط به قلبيًّا، والخنوع إليه، وإطلاعه على كل شؤونك وأدق أمورك وأسرارك، وترجيحه وتفضيله على غيره عندما تتضارب المصالح. وينتج عن مثل هذه الحالة مخاطر جسام من قبيل التشبه بهم، واتخاذهم قدوة ومثلًا أعلى، وفقد الهوية، وإظهار الرضا بالكفر، وقد حذَّرنا رسولنا الكريم من ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: “الرجُلُ على دِينِ خَليلِه؛ فَلْينظُرْ أحدُكم مَن يُخالِلْ” (رواه أبو داود).
قيد “من دون المؤمنين” الذي يرد في بعض الآيات، والوصف الذي يرد في الآية الـ73 من سورة الأنفال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، وتأكيد عديد من الآيات على أن الولي الحقيقي للمؤمنين هو الله ورسوله والمؤمنون ينطوي على درجة كبيرة من الأهمية. كما يصف رسول الله المؤمنين بقوله: “المؤمن لِلْمؤْمن كالبُنْيان يَشُدُّ بَعْضُه بَعْض” (رواه البخاري)، وقوله صلى الله عليه وسلم “مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى” (رواه البخاري). كذلك يوضح القرآن الكريم رباطة الأخوة بين المؤمنين بقوله تعالى: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ” (الحجرات:10)، لذا يجب ألا يغيب عن النظر أن هذا النوع من الآيات يؤكد على الأخوة الإيمانية وأهمية الإيمان، ويلفت الانتباه إلى مدى البون الشاسع بين الإيمان والكفر، ويُذكِّر بمبدإ الحب في الله والبغض في الله، ويمنع المؤمنين من الإضرار بالدين والإيمان.
الفئة التي يُحظر موالاتها
ورد ذكر “أهل الكتاب” و”الكفار” بشكل مطلق في بعض الآيات التي تحرِّم موالاة غير المسلمين، ولكن هذا الإطلاق لا يفيد العموم. ومع أن الآيات قطعية الثبوت وكلنها ليست قطعية الدلالة، أي أن الحكم فيها لا يتضمن جميع الفئات غير المسلمة التي تعيش في كل زمان ومكان؛ بل إنه مخصوص ببعض الأشخاص الذين يتصفون بصفات معلومة من بين هؤلاء. لذا فإنه من الخطأ وضع الجميع في كفة واحدة، واتخاذ موقف واحد تجاههم، فهذه الآية الكريمة تبين أن الطوائف غير المسلمة ليست جميعها سواء، يقول تعالى: “لَيْسُوا سَوَاءً ۗ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)” (آل عمران).
والآن لنسأل: ما الأصناف غير المسلمين الذين تحرم الآيات الكريمات موالاتهم ومودتهم؟
ذكرت بعض الآيات الكريمات السالفة الذكر أوصاف هذه الفئة غير المسلمة التي تحرَّم موالاتها، نذكر بعضًا منها: معاداة الله ورسوله والمسلمين، محاربة المسلمين وإخراجهم من ديارهم بسبب دينهم أو التعاون في فعل هذا، ممارسة النفاق والخداع تجاه المسلمين، انتهاز الفرصة دائمًا من أجل إلحاق الضرر بالمسلمين، السعي الحثيث إلى إبعاد المسلمين عن دينهم، المبادرة إلى الاستهزاء والسخرية بالإسلام.
ومن هذا المنطلق ترشدنا الآية الكريمة التالية إلى ضرورة التعايش السلمي مع غير المسلمين ممن لا تتوفر فيهم هذه الصفات الخبيثة، يقول تعالى: “لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” (سورة الممتحنة: 8).
كذلك تفيدنا آية أخرى من سورة المائدة أنه يحل للمؤمن أن يأكل من طعام أهل الكتاب، والزواج من نسائهم، يقول تعالى: “..وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ..” (المائدة: 5)، مما يدل على أن تحريم الموالاة لا يشمل جميع غير المسلمين، وأنه ليس بحكم مطلق، إذ إن الإنسان سوف يحترم زوجته ويحبها وسيبني علاقات طيبة معها.
نرى كذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقيم العلاقات الإنسانية مع غير المسلمين بأشكال وألوان مختلفة؛ حيث استضاف نصارى نجران في المسجد النبوي، وزار المرضى من غير المسلمين، ولبَّى دعوة يهودي وأكل من مائدته، ودخل في علاقات تجارية مع غير المسلمين، حتى إنه صلى الله عليه وسلم قد مات ودرعه مرهونة عند يهودي. نراه كذلك قد وقَّع وثيقة المدينة المنوَّرة من أجل التعايش السلمي مع اليهود والمشركين، وأرسل المسلمين المضطهدين في مكة إلى ملك الحبشة رغم نصرانيته، وعقد صلح الحديبية مع المشركين، وبعث بالوفود والرسائل إلى القبائل غير المسلمة، وقبِل الهدايا القادمة منهم، وساعدهم ماديًّا عند احتياجهم، وغير ذلك من الأمثلة التي تشير إلى العلاقات الإنسانية المباحة التي يمكن إقامتها مع غير المسلمين.
فكما لم يقطع رسول الله علاقته مع الكفار والمشركين لمجرد كفرهم وشركهم، فإنه لم يطلب هذا من غيره أيضًا. وخير مثال على ذلك عندما أرادت السيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما زيارة أمها التي لم تدخل بعد في الإسلام، سألت رسول الله في أمر زيارتها وقالت: “قدمَتْ عليَّ أمِّي رَاغِبَةً في عَهْدِ قريشٍ وهيَ رَاغِمَةٌ مُشْرِكَةٌ فقُلْتُ يا رسولَ اللهِ إِنَّ أمِّي قدمَتْ عليَّ وهيَ رَاغِمَةٌ مُشْرِكَةٌ أَفَأَصِلُها قال : نَعَمْ ؛ صِلِي أُمَّكِ” (رواه البخاري).
سبب وعلة التحريم
هناك قاعدة أصولية مفادها: “تعليق الحكم بالمشتق يؤذن بعلِّية ما منه الاشتقاق”. تؤكد هذه القاعدة على أن تحريم موالاة غير المسلمين ليس حكمًا مطلقًا، فقد تم بناء الأحكام التي تفيد تحريم الموالاة في الآيات الكريمة على ألفاظ “اليهود والنصارى والكفار والمنافقين”، ومن ثم تكون العلة الحقيقية هنا في التحريم هي الأوصاف المذكورة بشأن هؤلاء الفئات.
ووفقًا لهذا فإن التحريم في الآية يعني عدم مولاة اليهود والنصارى في يهوديتهم ونصرانيتهم والكافرين في كفرهم والمنافقين في نفاقهم. وفي هذه الحالة يكون من المباح والجائز إقامة صداقة معهم يقوم أساسها على الصفات والأفعال الأخرى الطيبة والجميلة الخاصة بهم. أي أنه تجوز مودتهم والاستفادة منهم فيما لا يتعلق بالدين مباشرة، فيُستفاد من طبهم وهندستهم واختراعاتهم وما ماثلها؛ حيث إن مثل هذه الصفات الحسنة تقع خارج النهي الذي توضحه القاعدة الأصولية التي ذكرناها بالأعلى.
وفي هذه الحالة ينحصر مثل هذا النهي والتحريم في “الموالاة الدينية”. ولأن الكفار عدّوا الدين والعقيدة سببًا داعيًا للعداء والاعتداء فإن القرآن الكريم حذر المؤمنين في هذا الصدد. فإن الموقف الذي يتخذه القرآن الكريم في هذا الشأن لا يتوجه إلى الأشخاص أنفسهم بل إلى الأوصاف التي يتصفون بها، كما نرى في بعض الآيات الكريمات من التحذير الشديد الموجه إلى المسلمين بسبب بعض الصفات السيئة، وتوبيخهم على ذلك؛ لذلك ليس هناك من عائق يقف أمام بناء العلاقات التي تقوم على الصفات الطيبة والعلاقات الإنسانية.
الزمان خير مفسِّر
يلفت الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي الأنظار إلى بعد آخر للمسألة ويقول في كتابه “المناظرات”: “لقد حدث انقلاب ديني عظيم في العصر النبوي السعيد، وجَّهَ كلَّ الأفكار والأذهان نحو الدين، فارتبطت بالدين جميعُ الحسّيات والمشاعر، فكانت العداوة والمحبة تدوران حول ذلك المحور (الدين)، لهذا كانت تُشمّ رائحة النفاق من محبة غير المسلم. ولكن الانقلاب الحاضر العجيب في العالم هو انقلاب مدني ودنيوي، فالمدنية والرقيّ الدنيوي يجذبان العقول كلها ويشغلانها ويشدّان بهما جميع الأذهان. فضلاً عن أن معظم غير المسلمين ليسوا ملتزمين التزاماً جادّاً بدينهم أساساً… فعلى هذا فإن محبتنا لهم ما هي إلاّ لاقتباس ما استحسناه من مدنيتهم وتقدمهم ولأجل المحافظة على نظام البلاد وأمنها الذي يُعدّ أساس سعادة الدنيا، فهذه الصداقة إذن لا تدخل قطعاً ضمن النهي القرآني”.
إن هذا التوضيح الذي بيَّنه الأستاذ بديع الزمان لذو أهمية بالغة من ناحية فهم التغيرات التي تطرأ في يومنا هذا، وإدراك مدى تأثيرها على الأحكام؛ حيث إنه يعبر في موضع آخر بـ”أن الزمان هو أعظم مفسر”، فالزمن يلعب دورًا مهمًّا في تفسير الآيات. ومن الفائدة بمكان ههنا أن نقول بأنه ليست هناك أية علاقة مباشرة بين النظرة التاريخانية للنصوص ومحاولة فهم النصوص القرآنية النبوية وفقًا للظروف الاجتماعية – السياسية للزمن التي نزلت فيه وتفسيرها وتطبيقها وفقًا للحقائق الاجتماعية المعاصرة.
لقد ذكرنا أن المقصد الأساس من الآيات التي تنظم العلاقات مع غير المسلمين هو حفظ الدين، فالمحظور على المسلمين معاونة الأعداء الذين يتحينون الفرص للقضاء على الإسلام، وألا يدخلوا في علاقات صداقة وحميمية معهم. إلا أن إعلان جميع الفئات غير المسلمة “أعداء”، انطلاقًا من الفهم السطحي لمثل هذا النوع من الآيات، وكذلك الوقوف في وجه أنشطة التسامح والحوار التي يضطلع بها البعض يعني الانطواء على الذات والانعلاق على الغير، وبالتالي الإقلاع عن رسالة التبليغ والحرمان مما لدى الغير من محاسن دنيوية.
من شأن هذه التصرفات الراديكالية والمتطرفة في مثل هذا العالم الذي تزداد فيه العولمة يومًا بعد يوم، وتفرض فيه التعددية نفسها في كل المجالات، ويُتهم فيه الإسلام بالشدة والعنف والإرهاب، والتصعيد الدائم لفكرة الإسلام فوبيا، كل هذا سيلحق أضرارًا جسيمة بالإسلام والمسلمين، وسيتسبب في خطأ فهم هذا الدين الحنيف الذي جوهره ومنبعه الحب والتسامح والسلام، بل سيقوي المزاعم والتصورات الخاطئة بشأن المسلمين، وسيوفر المناخ المناسب لبعض البؤر التي تدير الحملات الدعائية ضد الإسلام والمسلمين.
كانت العلاقات في العصور الماضية تقوم على أساس الحروب والنزاعات بين الدول، وكذلك كان الدين هو المصدر الأكبر والمحفِّز للحروب، فانقسم العالم بأكمله إلى “دار الحرب” و”دار الإسلام”. كان الدين متداخلًا مع الدولة والسياسة، ممتزجًا بهما، وكن القيمةَ الواحدة التي تضفي معنًا للحياة، وتدير شؤون الناس في تلك العصور، وكانت الحدود الفاصلة بين الدول والأمم واضحة بقدر كبير. ولذلك كانت العلاقات التي تقام بين المسلمين وغيرهم مهمة من أجل الحفاظ على استقلال المسلمين، وتفادي مجموعة من المخاطر والتهديدات التي من المحتمل أن تأتي من الخارج.
كان الحال هكذا في الماضي، أما اليوم فقد دخلت البشرية بفضل التقدم العلمي والتكنولوجي في مرحلة تغيير لا يمكن إعاقتها ولا إيقافها. لقد أصبح البشر على عتبة مرحلة جديدة يصبح فيها مصطلح “المواطنة العلمية” هو الرائج بدلاً من الانتساب لدولة معينة. في هذا العالم الجديد الذي اختلطت فيه البشرية، وظهرت فيه مجموعة من القيم والثوابت العالمية، واكتسبت الفلسفة الإنسانية أهمية كبيرة يحتاج المسلمون وبشدة إلى إعادة النظر مرة أخرى في أفكارهم وطرز تحركاتهم، وفهم القرآن الكريم وتطبيقه بما يتناسب مع روح العصر الذي يعيشونه في ضوء أسس ومقاصد الكتاب والسنة.
لا ريب في أن هذه الدساتير القرآنية تنطبق على الأشخاص الذين يبيِّتون النية السيئة، ويحيكون المكائد ضد الإسلام، ويكنون العداء للمسلمين في كل زمان ومكان. لكن تقوقع المسلمين وتجردهم عن العالم غير المسلم ليس لا يأمره الإسلام أبدًا بأي شكل من الأشكال، بل العكس أن مثل هذه الأفكار هي نتاج البعد عن روح الإسلام والعصر في آن واحد.
لقد أصبح إنسان عصرنا مضطرًّا إلى التعايش مع الأديان والثقافات المختلفة، وعليه بكل تأكيد أن يمثل القيم الإسلامية من الشفقة والعدل والشهامة والثقة والصدق والسماحة، وأن يكون على أهبَّة الاستعداد من أجل التعاون وتطوير مشاريع مشتركة والاضطلاع بفاعليات الحوار مع منتسبي الأديان المختلفة من أجل حلِ جميع المشكلات المشتركة التي تؤرق الإنسانية، وتشييدِ عالَم أكثر أمنًا وملائمة للعيش.
–
الترجمة عن التركية: خالد جمال عبد الناصر زغلول