بقلم: علي دورسون أردم
(زمان التركية) – سأحاول في هذه المقالة ترجمة سيرة وحياة قامة من القامات المباركة الجليلة، وإمام كبير من أئمة المسلمين، معترفًا منذ البداية بصعوبة هذا الأمر. كيف لا وهو من أعلام القرنين التاسع والعاشر الهجري، وصاحب لقب المجدد وقتذاك، فهو عالم بحر ألَّف ما يبلغ من 650 كتابًا في فروع العلم المختلفة، وإنني لا أخصه وحده بالذكر في هذا المقال، إذ إنني من خلال تعريف هذه الذات الجليلة أكون قد عرَّفت فوق ألف عالم من أولياء الله ومن العلماء والفقهاء والمتصوفة والمحدِّثين واللغويين.
ولد الإمام السيوطي بمدينة أسيوط إحدى محافظات مصر، وقد عرَّف نفسه في ترجمته في كتابه “حُسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة”، فذكر أن مولده كان بعد المغرب ليلة الأحد مستهلّ رجب سنة (849هـ – 1445م)، ومن أسرة ينتهي أصلها إلى جدِّه الأعلى “همام الدين” وهو شيخ من أهل الحقيقة والتصوف، بنى مدرسة بأسيوط ووقف عليها أوقافًا، وكان جده هذا أول من سكن أسيوط من عائلته بمصر، ولا يزال ضريحه مفتوحًا للزائرين إلى اليوم، وقد أُطلق عليه السيوطي نسبة إلى موطن أجداده بأسيوط، ويُعرف كذلك بلقب الخضيري نسبة إلى محلَّة الخضيرية ببغداد والتي عاش فيها أحد أجداده قبل مقدمه إلى أسيوط، وُلِد والده “كمال الدين أبو بكر” في أسيوط، وكان من تلامذة العالم الكبير ابن حجر العسقلاني، وكان إمامًا واعظًا، والإمام الخاص للخليفة العباسي بمصر “المستكفي بالله”، وقد وُكِّل إليه القضاء في القاهرة لفترة، وكتب الكثير من المؤلفات من نوع الشرح والتعليق والحاشية، وكان يصطحب ابنه إلى دروس ابن حجر رغم حداثة سنه رغبة منه في انشغاله بالعلم في كبره.
والاسم الحقيقي للسيوطي هو عبد الرحمن، وكناه أبوه بجلال الدين، وكنيته: جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن كمال الدين أبي بكر بن محمد الخضيري الأسيوطي الشافعي.
والده كمال الدين أبو بكر، وهو من علماء الفقه في المذهب الشافعي، توفي والده ولا يزال عبد الرحمن في السادسة من عمره، فتربى السيوطي في كنف الصديق الوفي لوالده القاضي عز الدين أحمد بن إبراهيم الكناني، فكان نعم المربي ونعم المعلِّم، وقد كناه بأبي الفضل.
تمتع السيوطي بذاكرة واعية وملكة حفظ قوية، فاستطاع أن يختم القرآن الكريم كاملًا وهو دون الثامنة من عمره، وعقب حفظه القرآن الكريم حفظ كذلك “عمدة الأحكام” للجماعيلي، و”منهاج الطالبين” للنووي، و”منهاج الوصول” للبيضاوي و”ألفية بن مالك”. إنه لم يكتف بالحفظ، بل عرض ما حفظه وهو في سن الخامسة عشر على مشايخه أمثال صالح بن عمر البلقيني ويحيى بن محمد المناوي، وقد لازم الإمام شمس الدين السيرامي، وحصل منه بعد عامين على إجازة “بتعليم اللغة العربية”.
لقد أصقل السيوطي مهاراته الأدبية واللغوية واطلع على العديد من كتب اللغة العربية، وكان من أكثر الأساتذة الذين استفاد منهم في هذه الفترة هو شمس الدين محمد بن سعد بن خليل المرزباني الحنفي موظف المكتبة الشيخونية. كتب السيوطي مؤلفات عدَّة في فترة شبابه كشروح وحاشية لبعض الكتب والمسائل المتعلقة باللغة العربية، إلا أنه قام بمحوها كلها لأنها لم تستقر في قرارة نفسه، ولم يطمئن لها قلبه. وفي عمر السادسة عشر التحق بدروس الفقه على يد شيخه الذي يحس بالإعجاب والشغف الكبير نحوه قاضي القضاة صالح بن عمر البلقيني، في نفس السنة قام بكتابة مؤلفيه “شرح الاستعاذة والبسملة” و”شرح الحوقلة والحيعلة”، فكتب له شيخه البلقيني عليهما تقريظًا، وكان هذان المؤلفان أيضًا يظهر فيهما قلة خبرة السيوطي، إلا أنه لم يمحهما حياءً من شيخه بعد أن كتب عليهما التقريظ بخط يده.
بدأ السيوطي التدريس والتأليف في سن مبكرة، فقد حصل على إجازة من شيخه البلقيني في الفتوى والتدريس في سن السابعة عشر، وكان أول درس ألقاه في سن الثامنة عشر في مسجد شيخوني في التاسع من ذي القعدة لعام 867 هجرية، وقد لازم شيخه البلقيني حتى توفي، فلزم بعده ولده، وأتم معه ما بدأه من رحلة العلم مع والده، ثم لازم شيخ الإسلام المناوي، ودرس عليه علوم القرآن والفقه والحديث.
دوَّن السيوطي أول مؤلفاته في عمر السابعة عشر، وقد لازم تقي الدين الشبلي الحنفي أشهر علماء عصره أربع سنوات تلقى فيها دروس الحديث واللغة العربية، كذلك لازم محيي الدين القافيجي من أكبر علماء زمانه أربعة عشر سنة، فكانت هذه أطول مدة يمكثها السيوطي مع أحد مشايخه، فتتلمذ السيوطي على يد محيي الدين القافيجي في علوم التفسير والحديث وأصول الفقه وأصول الحديث واللغة العربية، ثم حصل منه على إجازة بتدريس مختلف فروع العلم.
لقد درس السيوطي العديد من الكتب، إلى أن صقل علمه في ريعان شبابه وأصبح مختصًّا في العديد من فروع العلم من التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع والكلام وغير ذلك.
ذاع صيته في زمن قصير، وبدأ يلقي دروسًا في فروع العلم المختلفة، وكان يحضر دروسه بعض الأساتذة أيضًا بجانب الطلاب، ولا سيما أنه برع في علم الحديث، واختص به، فقد لاقت آراءه وفتاواه في هذا المجال قبولًا واستحسانًا كبيرًا، وقد ساعدته حافظته القوية في قراءة المؤلفات واستيعاب مسائلها في فترة قصيرة والرد على كل الأسئلة المطروحة عليه، حتى إنه لديه من القدرة العلمية ما يجعله يوضح ويحدد رقم الصفحة وفي أي سطر تقع الإجابة على السؤال المطروح عليه، فيذكر أنه حفظ مائتي ألف حديث شريف.
رحل السيوطي في طلب المزيد من العلم بعد أن أخذ عن أهل بلده، فرحل إلى الشام والحجاز واليمن والهند والسودان في مرحة شبابه، ومكث في مكَّة مدَّة لأداء فريضة الحج، وخلافًا لهذا فقد طوَّف ببعض المدن المصرية مثل دمياط والفيوم والإسكندرية.
لقد ذاع صيته واشتهر أمره في عدة قارات وهو لا يتجاوز الثلاثين من عمره، ولأستاذه قافيجيي فضل كبير في ذلك؛ إذ إنه أرسل كتب السيوطي إلى كل البقاع التي يذهب إليها تلاميذه، ويوصيهم بنسخها وتوزيعها، حتى إنه كانت تتوافد الأسئلة إلى السيوطي من خارج وطنه، فكان يرد عليها ويرسلها إلى أصحابها، فهو من كبار علماء الإسلام بالاتفاق.
بدأ السيوطي في إلقاء دروس الحديث بعد أن صقل علمه في هذا الجانب، وفي تلك الآونة اضطلع بكتابة بعض المؤلفات بجانب تدريسه، وظل يواصل الكتابة إلى آخر يوم في حياته.
ومن أساتذة السيوطي الذين يجب ألا نغفل عنهم الشيخ جلال الدين المحلي، فقد شاركه السيوطي في تأليف “تفسير الجلالين”، المؤلَّف العظيم الذي لا يجهله أحد، فقد فسَّر جلال الدين السيوطي القرآن الكريم من أول سورة الفاتحة إلى سورة الكهف، ثم أكمل جلال الدين المحلي ما تبقى بداية من سورة الكهف إلى آخر القرآن الكريم.
نهل أيضًا السيوطي العلم من فيض علماء أجلاء أمثال قاضي القضاة عز الدين الكناني، وعبد العزيز بن محمد الميقاتي وسيف الدين بن قطلوبغا، والحق أن جُلَّ استفادته في هذه الفترة كانت من شيخه تقي الدين الشُمني الذي قال عنه في كتابه “بغية الوعاة” إنه بمثابة والده، وإنه كان يتعلم منه كل يوم شيئًا جديدًا، وقد أولى السيوطي علم الحديث اهتمامًا كبيرًا، فكان يكتب الأحاديث التي يسمعها من مشايخه من علماء الحديث، إن عددهم كبير، وقد ذكر ترجمة 195 عالمًا منهم في كتابه المعروف بـ”المنجم في المعجم”.
ولطالما وصلنا إلى هنا أريد أن أقف قليلًا على فنّيات الكتابة عند السيوطي، إذ نجده قد زهد في كل شيء وانقطع إلى الله بجزيرة الروضة في نهر النيل ما إن وصل إلى سنِّ الأربعين، وانزوى هناك، وعاش حياة العزلة والزهد معًا، وخصص كل وقته لكتابة المؤلفات، وذكر أنه قد تشرَّف بصحبته برسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، وحصل على تصديق وموافقة سيدنا رسول الله في الأحاديث التي عرضها عليه في عالم المعنى، وقد ذكر العالم الألماني المشهور ومتخصص الأدب العربي “بروكلمان (Brockelman)” في كتابه الذي يختصر اسمه في “GAL” أنه قد بلغت كتب السيوطي خمسمائة كتابًا، وبينما كان السيوطي منزويًا في عزلته، لم يأخذ أي شيء من قبيل الهدية أو الإحسان من أي أحد، (حياة الإمام جلال الدين، ص171). وقد صنَّف مؤلفاته في أربعة أصناف على النحو الآتي:
1- المجموعة القرآنية: وكتب تحت هذا العنوان الرئيسي مؤلفات عدَّة في علوم القرآن ودروس التفسير، فلا تخلو مؤلفاته من أي مسألة تخطر ببالكم من مسائل هذا العلم.
2- كتب الحديث الشريف وما يتعلق به من (متن الحديث، الشروح، الروايات، أصول الحديث، الجرح والتعديل، وبلاغة/أدب/لغة الحديث).
3- كتب في الفقه وما يتعلق به من علوم، وجعل النصيب الأكبر للفقه الشافعي.
4- في هذا النوع اهتم باللغة العربية، والطبقات والشعر والتاريخ.
الإمام جلال الدين السيوطي (849-911هـ)
أريد أن أعرِّف كتاب “حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة” وهو كتاب في التاريخ: ذكر السيوطي في هذا الكتاب 18 آية في القرآن الكريم ذُكر فيها اسم مصر تصريحًا وكناية، وقام بتفسيرها باختصار. (ص12-16)
وعرض كذلك عشرات الأحاديث الشريفة المتعلقة بهذا الموضوع، وقام بتحليلها. (ص16-26)
ثم ذكر على وجه التفصيل تاريخ مصر القديمة والحديثة، وجغرافيتها وخصائصها، والحوادث الغريبة الكائنة بمصر من غلاء ووباء وزلازل وآفات، وذكر الأنبياء والرسل الكرام الذين عاشوا فيها، والنواحي الاجتماعية والتاريخية قبل طوفان نوح عليه السلام وبعده. (ص27-97)
جمع الإمام محمد بن ربيع أسماء الصحابة الذين جاؤوا إلى مصر في كتاب من مجلد واحد، وذكر فيه مائة وأربعين ونيف اسمًا، كما أن ابن سعد في طبقاته وابن الحكم وابن يونس في كتب التاريخ التي ألفوها، ذكروا أسماء نفس الصحابة الكرام، لكن السيوطي ذكر في كتابه “حسن المحاضرة” أكثر من ثلاثمائة صحابي جاؤوا إلى مصر، ولنذكر بعضًا منهم:
أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا دحية رضي الله عنه المعروف بجمال خلقته وحسن صورته وكان أمين الوحي جبريل عليه السلام ينزل على رسول الله في هيئته في بعض الأحيان، جاء إلى مصر بكتاب رسول الله إلى “المقوقس”. (ص150)
كذلك حاطب بن بلتعة من الرسل الذين بعثهم رسول الله بكتابه إلى المقوقس.
وشارك الزبير بن العوام في فتح مصر، وكان معروفًا بكثرة ماله، والذي تصدق به كله ولم يبق له منه إلا القليل.
وحضر كذلك كل من سعد بن أبي وقاص، ومن الأنصار جابر بن عبد الله بن عمرو فتح مصر.
شارك كذلك عبد الله بن عمرو بن العاص في فتح مصر وتوفي هناك.
وفد كذلك في الجاهلية سيدنا عمر بن الخطاب وسيدنا عثمان بن عفان إلى مصر للتجارة، وقضى حينها سيدنا عثمان مدة في الأسكندرية.
وقد ذكر السيوطي في كتابه هذا 357 صحابيَّا منهم من أفردتهم بالذكر وبعض الصحابيات من النساء كذلك وقد فصَّل ترجمتهم ومكان وفاتهم وأماكن قبورهم.
وقد خصَّ السيوطي في هذا الكتاب أشهر التابعين من رواة الحديث الشريف بالذكر، وكتب نبذة قصيرة عن سيرتهم الذاتية، وبلغ عددهم 70 تابعًا، وإذا أضفنا إلى ذلك غير المشهورين من التابعين والمشهورين من تابعي التابعين يبلغ عددهم 271 فردًا، وقد ذكر نبذة عن سيرتهم العطرة، فلو أخذنا أوضاع وظروف هذه الفترة من الزمان لوجدنا أن عملية تعيين وتحديد وترجمة هذا القدر من الأسماء يتطلب فحص وتحري فريق من النابغين، ومئات من المجلدات المخطوطة.
وقد ذكر السيوطي ترجمات قصيرة لـ76 من العلماء الذين وصلوا إلى مرتبة المجتهدين مثل شيخه المشهور البلقيني، ومجتهدي المذاهب مثل الإمام الشافعي، فضلًا عن أنه قام بشيء آخر ينم عن عمل جاد وجهد حثيث غاية الأهمية بالنسبة لأرباب العلم والمحدِّثين، إذ إنه ذكر ترجمة لـ102 من حفظة الحديث الموجودين في مصر أو نشؤوا فيها الذين حفظوا ما يزيد عن مائة ألف حديث بمتنه ورواته، ويعتبر قاضي القضاة ابن حجر العسقلاني والحافظ نور الدين الهيثمي من أشهر هذه الشخصيات.
ألفَّ السيوطي عشرات الكتب في مصر، وعمل بالإفتاء والقضاء، وأنشأ الطلاب، وعمل بالإرشاد. وذكر ترجمات لـ102 من كبار علماء الشافعية، بالإضافة إلى أنه ذكر ترجمة لـ92 فقيهًا مالكيًّا، و58 حنفيًّا، و21 حنبليًّا.
إن السيوطي باعتباره خادم القرآن الكريم لم يهمل في كتابه علماء القراءات، فقد ذكر ترجمة لـ135 من أئمة القراءات، وذكر كذلك ترجمة قصيرة لـ91 من الصوفيين الصالحين الزهاد أرباب التصوف في مصر، أمَّا علماء اللغة العربية وآدابها فترجم لـ29 أستاذًا من فحول النحو والأدب، وذكر أيضًا ترجمة لمجموعة من النبغاء الموجودين في مصر، فذكر 55 فردًا من الحكماء والأطباء والفلكيين، و27 من المؤرخين العظام، و92 من الأدباء والشعراء، وليس من الممكن أن ينسى من بين هؤلاء الشاعر المشهور “المتنبي” و”البوصيري” صاحب قصيدة البردة والمدفون بالأسكندرية.
وقد ذُكر في مؤلفات “رسائل النور” للعلامة بديع الزمان سعيد النورسي مدى وقوف السيوطي على علم الحديث وشخصيته الفذَّة والفريدة من نوعها، فقال عنه: “تَشرف أولياء صالحون مرارًا بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم في الصحوة، كجلال الدين السيوطي واُكرموا بلقائه يقظة في هذا العالم”، وقد نقل بديع الزمان في “رسالة المعجزة الأحمدية” كيف أن الأحاديث النبوية مرَّت من مصفاة دقيقة، ممثلًا بذلك العمل الدقيق الذي اضطلع به علماء الإسلام ومدى الدقة والحساسية التي اتبعوها وعلى رأسهم أئمة المذاهب، فقال في هذا الشأن: “لقد أعقبهم علماء أفاضل ذوو تقوى وورع أمثال جلال الدين السيوطي -وهو العلاّمة الإمام الذي تشرف بمحاورة الرسول صلى الله عليه وسلم فتمثل له في اليقظة سبعين مرة، كما يصدّقه أهل الكشف من الاولياء الصالحين- فميّزوا جواهر الأحاديث الصحيحة من سائر الكلام والموضوعات”، مشيرًا بهذه الكلمات إلى العمل النفيس الذي اضطلع به السيوطي في علم الحديث والذي يستحق به جزيل الشكر والتقدير.
يتبوأ السيوطي كذلك مكانة بارزة في مجال التصوف، حيث يرد اسمه في رسائل النور بينما يوضح الأستاذ بديع الزمان أسباب عدم وصول الأولياء العظام إلى درجة ومرتبة الصحابة الكرام قائلاً: “إن صحبة الصحابة الكرام للنبي صلى الله عليه وسلم كانت بنور النبوة، إذ كانوا يصحبونه في حالة كونه نبيًّا رسولًا؛ أما الأولياء الصالحون فإن رؤيتهم له صلى الله عليه وسلم إنما هي بعد وفاته، أي بعد انقطاع الوحي، فهي صحبة بنور الولاية، أي إن تمثل الرسول صلى الله عليه وسلم وظهوره لنظرهم إنما هو من حيث الولاية الأحمدية، وليس باعتبار النبوة. فلا يستطيع أن يرقى أعظم ولي من أولياء الله الصالحين الى مرتبة صحابي كريم للرسول الاعظم – صلى الله عليه وسلم -، بل حتى لو تَشرف أولياء صالحون مراراً بصحبة النبي – صلى الله عليه وسلم – في الصحوة، كجلال الدين السيوطي – مثلاً – واُكرموا بلقائه يقظة في هذا العالم”.
ومن المواضع والمواقف التي ذُكر فيها اسم السيوطي أيضًا تشريفًا وتقديرًا، هو موضوع متعلق بما عُرف في الماضي بـ”الكهانة”، ويستمر إلى اليوم تحت اسم تحضير الأرواح، فيذكر الإمام بديع الزمان في “الملاحق” من رسائل النور: “إن تحضير الأرواح المتأتي من الإيغال في دقائق الفلسفة، وليس من الدين، حركة تخالف الحقيقة وتنافي الأدب اللائق والاحترام الواجب؛ لأن جلب أرواح من هم في أعلى عليين وفى المقامات السامية المقدسة إلى مائدة تحضير الأرواح، موضع الأكاذيب واللعب واللهو، في أسفل سافلين إنما هو إهانة عظيمة وعدم توقير وسوء أدب، بل الحقيقة عينها والأدب المحض والاحترام اللائق هو الاقتداء بالأفذاذ من أمثال جلال الدين السيوطي وجلال الدين الرومي والإمام الرباني والسعي للعروج إلى مراتب أولئك الأشخاص السامين والاستفاضة منهم عن طريق السمو الروحاني -بالسير والسلوك-.
لقد نال السيوطي حبَّ كل العباد كسب قلوبهم بأخلاقه النموذجية السامية ومكانته العلمية الفذَّة، فكما أنه لم يطلب من أحد مكافأة أو أجرا أو إحسانا أو هدية على ما قدم في خدمة الإسلام والمسلمين فإنه لم يقبلها أيضًا إذا عُرضت عليه، فإذا ما ضاق به الحال في بعض الآونة، باع بعض كتب مكتبته الذاخرة واقتات بثمنها مؤثرًا بذلك عن أن يقبل هدية أو ينال أجرًا من أحد، وفي عام 1505 انتقل إلى رحمة الله في مصر، ودفن خارج باب القرافة بالقاهرة.
مؤلفاته
إن مؤلفات جلال الدين السيوطي كثيرة من ناحية اختلاف مجالاتها ومن ناحية عددها لدرجة أنه يصعب حصرها في مقالة، فسأحاول أن أذكر العناوين العريضة منها:
كتب السيوطي مئات الكتب في مختلف فروع العلم من علوم القرآن، التفسير، الحديث، الفقه، الأصول، التاريخ، الطبقات ( تعريف كتَّاب التفسير والحديث والفقه وغيرهم..)، والترجمات، الرحلات، المعاجم، النحو، البلاغة، الأدب، التصوف، الطب، .. إلخ. وقد تناول الكتاب الذين دوَّنوا ترجمات حياة الإمام السيوطي جميع كتبه بالتفصيل، ويذكر محمود شلبي أن السيوطي قد كتب قرابة ستمائة كتاب في فروع العلم المختلفة، وأنه رآها بنفسه. نرى هناك قسمًا كبيرًا من مؤلفات السيوطي مجمَّعة ومقتبسة ومنقولة من مصادر مختلفة ومع ذلك لم يكن هذا نقطة ضعف في أعماله، بل على العكس فإن أعماله لها أثر كبير مهم في شرح وفهم العديد من الموضوعات والمسائل التي نواجهها في يومنا هذا، لا سيما أن السيوطي شخصية مثمرة منتجة فعَّالة كتب مؤلفات كثيرة تضم بين دفتيها مسائل غزيرة في شتى فروع العلم المختلفة. وجدير بالذكر أن مؤلفه الذي ذكرنا أعلاه “تفسير الجلالين” قد دُرِّس وقُرئ لقرون في المناطق والجفرافيا العثمانية، وتلك بعض من أعماله البارزة:
الإتقان في علوم القرآن
الدر المنثور في التفسير المأثور
لباب النقول في أسباب النزول
الألفية في القراءات العشر
تدريب الرواي في شرح النواوي
الحديث النبوي الشريف وعلومه
طبقات الحفَّاظ