تقرير: محمد عبيد الله
أنقرة (زمان التركية) – رغم مرور ثلاث سنوات ونصف على المحاولة الانقلابية الفاشلة، التي شهدتها تركيا في صيف 2016، لا يزال الغموض يسيطر على العديد من القضايا المتعلقة بهذا الحدث، ولعل أبرز هذه القضايا هو موعد معرفة المخابرات التركية بالمحاولة الانقلابية.
الكاتب الصحفي المعروف بمقالاته الكاشفة عن أسرار وخفايا الانقلاب “المدبر” نشر وثيقة رسمية للمخابرات التركية التي يترأسها هاكان فيدان، تكشف أنها كانت على علم بالأحداث التي شهدتها ليلة الانقلاب قبل يوم واحد على أقل تقدير.
تناول الكاتب أحمد ناسين، المعروف بتوجهاته اليسارية والعلمانية، في مقال له بموقع “أرتي جرشاك”، تحت عنوان “هل علم هاكان فيدان بأمر المحاولة الانقلابية في الخامس عشر أم في الرابع عشر من يوليو؟”
وذكر ناسين في مقاله أن ضابطًا أبلغ الرئيس رجب أردوغان بأمر التخطيط للانقلاب قبل 40 يومًا من وقوعه، مشددًا على وجود سجل إفادة تم الحصول عليه من قائد وحدة مكافحة الإرهاب في هذا الصدد.
وتطرق ناسين في مقاله إلى التصريحات المتناقضة حول المحاولة الانقلابية وتصريحات أردوغان حول توقيت علمه بمحاولة الانقلاب.
وطرح ناسين في مقاله وثيقة للمخابرات التركية تحمل تاريخ الرابع عشر من يوليو/ تموز عام 2016 أي قبل يوم واحد من المحاولة.
وأوضح ناسين أن الوثيقة المعدة قبل يوم واحد من المحاولة مع أنها لا تتطرق إلى أن تركيا على وشك أن تشهد انقلابا، غير أنها سردت قائمة أحداث قد تشهدها البلاد، وقعت جميعها بعد يوم واحد ليلة الخامس عشر من يوليو/ تموز وفي السادس عشر من يوليو/ تموز عام 2016.
وأضاف: “المخابرات تقوم بنشر هذه الوثيقة قبل يوم، لكنها لا تبلغها لا رئاسة الجمهورية ولا رئاسة الوزراء باعتبارها محاولة انقلابية”. (1)
وتابع ناسين: “هذا يعني أنكم متورطون في هذه المحاولة الانقلابية وتلتزمون الصمت مثلما يفعل رئيس الأركان (السابق) خلوصي آكار وياشار جولار رئيس الأركان الحالي”.
وواصل ناسين: وثيقة المخابرات الصادرة في الرابع عشر من يوليو/ تموز عام 2016 تحدثت بشكل تحذيري عن اختطاف مجموعة من القادة العسكريين، ونشوب مواجهات في أماكن كسلطان بيلي، ووقوع هجمات على القواعد العسكرية والموانئ والسفن والمؤسسات الرسمية، وتجمع شاحنات القمامة التابعة للبلديات أمام الثكنات العسكرية وما إلى ذلك”.
وعلق ناسين أن الشيء الوحيد الذي لم تتضمنه وثيقة المخابرات نصًا هي أنها لم تصف هذه الأحداث بأنها محاولة الانقلاب وإنما حذرت فقط من وقوع مثل هذه الأحادث.
تقرير رسمي يسرد أحداث الانقلاب قبل وقوعها!
وكان قد كشف الكاتب الصحفي التركي المخضرم أحمد دونماز الستار عن تقرير أعدته السلطات القضائية بشأن المحاولة الانقلابية قبل وقوعها فعليًا ويسرد أحداثًا لم تكن قد وقعت بعد، الأمر الذي يؤيد أطروحة “الانقلاب المدبر” وأنه كان هناك “سيناريو” معد سلفًا.
ونشر دونماز نسخة من الوثيقة التي وصلت إليه عبر مصادره الخاصة، وقال إن الوثيقة محضر رسمي حرره مدعي عام مكتب الجرائم الدستورية بنيابة أنقرة سردار جوشكون، وأدرج ضمن ملفات قضية “قاعدة أكينجي” العسكرية، وهي أحد قضايا المحاولة الانقلابية، وذلك ليكون ركيزة لتحقيقات الانقلاب الأولية.
التقرير المذكور صدر بتاريخ “16 يوليو/ تموز 2016” في تمام الساعة الواحدة ليلاً، أي بعد ثلاث ساعات من الانطلاقة الفعلية للمحاولة الانقلابية، ومن ثم تم إرساله للجهات المعنية. ومن الغريب والمثير أن التقرير يروي الأحداث التي لم تكن قد وقعت بعدُ وكأنها حدثت بالفعل. فعلى سبيل المثال يتناول التقرير قصف البرلمان والقصر الرئاسي للرئيس أردوغان ومحاصرة القوات العسكرية لمقر المخابرات وقصف قيادة القوات الخاصة ووحدة الاستخبارات بمديرية الأمن وما ماثلها من الأحداث الأخرى، على الرغم من أن هذه الأحداث لم تكن وقعت في تلك اللحظة.
وكان وزير العدل السابق بكر بوزداغ يتحدث في مقر البرلمان عن تمكن السلطات من إسقاط الطائرة التي قصفت البرلمان أثناء أحداث الانقلاب الفاشل إلا أنه لم يتم إسقاط أي طائرة في الحقيقة أثناء أحداث الانقلاب، ما يكشف أن إسقاط الطائرة كان ضمن المسرحية الانقلابية لكن لم يجرِ كل شيء كما خُطِّط له.
والمعلومات الواردة في التقرير حول توقيت أحداث الانقلاب خاطئة أيضًا، مما يثير تساؤلات حول ما إن كان التقرير قد تم إعداده بناء على محاكاة معدة مسبقًا.
ويحفل التقرير بفضائح ستشكك فيما إن كان المدعي العام هو من قام بإعداده أم مسؤولون سياسيون دبروا انقلابا مصممًا على الفشل لكي يستفيدوا من نتائجه.
وعلى الرغم من أن مذكرة ادعاء قاعدة “أكينجي” تقول بأنه تم الإعلان عن نبأ إغلاق قوات الدرك لجسري البوسفور وفاتح سلطان محمد في إسطنبول في تمام الساعة 22.28 من ليلة الانقلاب، غير أن موعده في تقرير نيابة أنقرة المذكور هو تمام الساعة 21:00، وهو سابق للموعد الفعلي بنحو ساعة ونصف!
وورد في التقرير أيضا محاصرة قوات عسكرية لمباني المخابرات بحي “يني محلة” في أنقرة واشتباك المخابرات مع الوحدات العسكرية المحاصرة لها، غير أنه في تلك الليلة لم تحاصر الفرق العسكرية أيا من مباني المخابرات. ولم تتعرض قيادة العمليات الخاصة “العسكرية” للقصف كما يزعم تقرير النيابة، بل تم قصف العمليات الخاصة التابعة للشرطة.
وكذلك لم يتم محاصرة المجمع الرئاسي مثلما زعم تقرير النيابة، كما لم يتم قصفه عشية المحاولة الانقلابية، بل تم قصف مواقف السيارات والتقاطع الجسري المجاور فقط. فبحسب مذكرة ادعاء قاعدة أكينجي فإن قصف المجمع الرئاسي جرى في تمام الساعة 6:19 من الصباح، أي بعد نحو 5 ساعات ونصف من التاريخ الوارد في تقرير النيابة هذا.
من ضمن الأخطاء التي تضمنها تقرير النيابة العامة المعلومات التي تزعم قيام الانقلابيين بتعيينات جديدة في رئاسة الأركان والقيادات العسكرية الأخرى وإعلانها للرأي العام، حيث لم يحدث شيء من هذا القبيل.
ومع أن تصريحات المسؤولين السياسيين التي قدمت المفكر الإسلامي التركي فتح الله كولن مدبرًا للمحاولة الانقلابية يمكن فهمها وتبريرها بناء على اعتبارات سياسية، لكن ليس من المنطقي والمعهود أن يعلنه التقرير القضائي الأولي المحرر أثناء استمرار الأحداث ات مسؤولا عن الانقلاب قبل إجراء أي تحقيقات، ما يكشف أن التقرير سياسي لا قضائي.
ماذا تعني الوثيقة؟
بعد هذا التقرير لنيابة أنقرة الذي أدرج ضمن نظام النيابة التركي الرسمي، انطلقت تحقيقات سريعة ونفذت القوات الأمنية أولى حملات الاعتقالات. وفي اليوم التالي للمحاولة الانقلابية تم اعتقال الآلاف استنادًا إلى هذه الوثيقة المليئة بالأخطاء، وإعلان حركة الخدمة تنظيما إرهابيا، لتمتلئ السجون بعشرات الآلاف من المتهمين بالانتماء إليها قبل بلوغ الواقعة مرحلة التحقيق والمحاكمة والانتهاء منهما.
بالنظر إلى هذه الوثيقة والأحداث التي سبقت وتلت 15 يوليو 2016 وتصرفات الرئيس أردوغان ورئيس المخابرات والعديد من المسؤولين البارزين الآخرين وتصريحاتهم المتناقضة وتهربهم من القضاء وعدم إدلائهم بإفادتهم والأحداث التي وقعت اعتبارا من توقيع هذا التقرير وحملات التصفية والمرحلة التي بلغتها تركيا سياسيا يمكننا القول إن السلطات التركية كانت على علم بجزء كبير من الأحداث التي وقعت في تلك الليلة ولهذا كان انقلابا تحت السيطرة على أقل تقدير إن لم تدبره منذ البداية.
–