تقرير: محمد عبيد الله
ماردين (زمان التركية) – ظهر أن قذائف الهاون التي تسقط من حين لآخر على بلدات تركية حدودية مع سوريا ألقاها مخفر شرطة من داخل الأراضي التركية.
فبعد أن عاشت بلدة نصيبين التابعة لمدينة ماردين في جنوب تركيا، أيامًا من الخوف والفزع والهجرة عقب تساقط قذائف الهاون والصواريخ عليها من “الأراضي السورية”، تبين بعد ذلك أنها أطلقت من مخافر تابعة للشرطة التركية في المدينة.
قال أهالي بلدة نصيبين التابعة لمدينة ماردين إنهم اتصلوا بمخفر الشرطة للإبلاغ عن سقوط قذائف الهاون بشكل مكثف على حيهم، فكان الرد من مخفر الشرطة: “نحن نطلق قذائف الهاون لاختبارها”.
وكانت وسائل إعلام محلية تركية قد زعمت أن هجومًا باستخدام قذائف الهاون استهدف قرية “نصيبين” التابعة لمدينة ماردين على الشريط الحدودي مع سوريا، شنته عناصر تنظيم حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردي، أسفر عن مقتل 8 وإصابة 35 آخرين من المدنيين.
وأوضح مصدر عسكري أن قذائف الهاون جاءت من أحد المناطق التي يسيطر عليها وحدات حماية الشعب الكردي، ردًا على استمرار عملية نبع السلام التي أطلقها الرئيس التركي أردوغان يوم الأربعاء الماضي.
وقالت ولاية مدينة ماردين في جنوب تركيا في بيانها حول الحادث: “أسفر سقوط قذائف هاون وقذائف صاروخية أطلقتها عناصر إرهابية من منطقة تسيطر عليها وحدات حماية الشعب الكردي في شمال سوريا على مدينة نصيبين، عن سقوط 9 قتلى و35 مصابًا من المدنيين”.
إلا أن نائب حزب الشعوب الديمقراطي الكردي عن مدينة ماردين، مدحت سنجار، ساق ادعاءً خطيرًا بشأن هذه الهجمات، حيث لفت إلى إمكانية إلقاء هذه الصواريخ من قبل عناصر استخباراتية تركية لاختلاق الذريعة اللازمة لاستمرار العملية في سوريا.
وفد حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، الذين مُنع من دخول بلدة نصيبين بعدما توجهوا إليها لإجراء معاينات بدعوى “دوافع أمنية”، أدلى بتصريحات ذكر خلالها أن بيانات طاولة الأزمة، التي أقاموها بالمدينة، تشير إلى مصرع 12 شخصا وإخلاء ثلث المدينة.
مطالبات الحزب الكردي بالتحقيق في مصدر القذائف الساقطة على بلدات تركية متاخمة للحدود السورية أعادت للأذهان الفيديوهات التي صوّرها القرويون خلال عمليتي درع الفرات التي انطلقت في أغسطس 2016 وغصن الزيتون التي بدأت في 20 يناير 2018، حيث كانت تكشف إلقاء قنابل إلى الجانب التركي من الداخل التركي أيضًا.
الماضي الملطخ للمخابرات يكشف السرّ
وكان هاكان فيدان، رئيس الاستخبارات التركية، الذى يصفه الرئيس رجب طيب أردوغان بـ”كاتم أسراري”، قال فى اجتماع سرى عام 2014 تم تسريبه: “من الممكن أن أرسل أربعة من رجالى إلى الجانب السورى ليقوموا بإلقاء عدة قنابل أو صواريخ من هناك على الجانب التركي لخلق الذريعة المطلوبة للتدخل العسكري في سوريا”.
هذا الأسلوب ليس غريبًا على الرأي العام في تركيا، حيث يعبر ذلك من أساليب الحرب النفسية التي اتبعتها أجهزة الاستخبارات التركية منذ خمسينات القرن الماضي. ففي مقابلة أجراها مع قناة “خبرترك” في الثالث والعشرين من سبتمبر/ آيلول عام 2010، أدلى فريق أول متقاعد “صبري يرمي بش أوغلو” بتصريحات أثارت حينها جدلاً كبيرًا في تركيا وقبرص التركية على حد سواء، حيث قال فيها: “من قواعد الحرب النفسية الإقدام على تخريب رموز كبيرة، والهجوم على قيم سامية، بطريقةٍ توجّه أصابع الاتهام إلى العدو، وذلك لتعزيز مقاومة الشعب وصموده أمامه. فمثلاً يمكن حرق جامع ومسجد بهذا الغرض.. لقد بادرنا إلى حرق جامع في قبرص التركية مثلاً”.
وعندما سأل مراسل القناة مندهشًا إن كانوا قد حرقوا مسجدًا فعلاً، حاول باشلي تغيير الموضوع زاعمًا أنه كان يضرب مثالاً.
لم يكن هذا الاعترافُ الوحيدَ الذي أدلى به الجنرال يرمي باشلي المتوفى في يناير/كانون الثاني من عام 2016 فيما يتعلق بأساليب الحرب النفسية التي اتبعتها عناصر الاستخبارات، ففي لقاء أجري معه عام 1991 أكد قائلاً: “أحداث بوغروم إسطنبول أو أعمال شغب إسطنبول في السادس والسابع من سبتمبر/ أيلول من عام 1955، (والتي استهدفت الأقلية اليونانية)، كانت من تدبير قوات الحرب النفسية.. إنها كانت أعمالاً منظّمة رائعة مدروسة جيدًا، وحققت أهدافها المرجوة منها فعلاً. أسألكم : ألم يكن هذا عملاً منظمًا رائعًا؟”، على حد قوله.
وقد قارن الكاتب الصحفي المعروف آدم ياوز أرسلان بين أساليب الحرب النفسية وما حدث أثناء انقلاب 15 تموز 2016 قائلاً: “ما فهمته من مذكرات الادعاء وإفادات المتهمين والأخبار التي قرأتها هو أن أردوغان علم بموجات ردود الفعل المتزايدة داخل المؤسسة العسكرية على سياساته الهوجاء، فشرع في تدبير “انقلاب تحت السيطرة” بالتعاون مع بعض البؤر العميقة في المخابرات والجيش. ومن أجل تنفيذ هذا الانقلاب المدبر، كانوا يحتاجون إلى “إرسال ثلاثة رجال إلى الطرف الآخر لكي يلقوا من هناك خمسة صواريخ” لتشتعل الأحداث. فهذا هو التفسير الأكثر منطقيا لظهور مدنيين مزعوم انتماؤهم إلى حركة الخدمة في قاعدة آكينجي العسكرية”.
تاريخ تركيا هو تاريخ ما يسمى بـ”الدولة العميقة” أو “الدولة السرية” أو حكومة الظل”.. ففي كل حادثة مهمة ونقطة مفصلية في تاريخ البلاد يمكن رؤية آثار وبصمات “وحدة الحرب النفسية” المحترفة جدًا في إدارة حروب نفسية ضد الشعب التركي. ولذلك ليس من المستبعد أن نقرأ في المستقبل حوارًا في إحدى الصحف أجري مع أحد منفذي هذا الانقلاب وهو يعترف قائلاً: “إن أحداث ليلة الخامس عشر من يوليو/ تموز 2016 كانت عملية حرب نفسية مدهشة!”، كما قال الجنرال يرمي بش أوغلو.