بقلم دكتور/ شوقي صلاح
المكان : إحدى أفضل المدارس الدولية المصرية، الكائنة بمنطقة التجمع الخامس بالقاهرة.
الزمان : يوم الاثنين الموافق السابع من أكتوبر، واحتفال المدرسة بنصر أكتوبر، واسترداد مصر لسيناء.
مظاهر الاحتفال : أكدت الأستاذة مدير عام المدرسة ” Managing director ” في اجتماعها الأسبوعي السابق على الاحتفال بنصر أكتوبر على أهمية تنمية الوعي الوطني للتلاميذ بهذه المناسبة الوطنية، وذلك من خلال تنفيذ خطة الاحتفال التي عُرضت عليها بمنتهى الدقة، ومن أهم ملامح هذه الخطة :
* اصطفاف جميع تلاميذ وطلاب المدرسة في جميع المراحل بالطابور الصباحي مرتدين زياً موحداً يحمل ألوان علم مصر، مع حملهم للأعلام أيضاً.
* ارتداء الأساتذة وإدارة المدرسة زياً مماثلاً، وجدير بالذكر أن المدرسين الأجانب شاركوا المصريين في ارتداء ملابس بألوان العلم، بشكل طوعي.
* ترديد الطلبة للنشيد الوطني مع الموسيقى، وقد هتف التلاميذ النشيد الوطني بالفعل بصوت شق عنان سماء التجمع الخامس والتجمعات المجاورة، ولقد كان لهذا المشهد الوطني الرائع أثره القوي على وجوه الأساتذة الأجانب، فلم يتوقعوا هذه الوطنية المتجذرة في وجدان أطفال مصر؛ وهذا الاعتزاز والفخار الذي يحمله الشعب المصري لجيشه الوطني.
* تُلقي مديرة المدرسة ” Head of school ” كلمة موجزة للطلاب تُحيي فيها شهداء مصر الأبرار الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل تحقيق النصر، وتحيي أيضاً الأبطال الذين يضحون حتى الآن من أجل أن تحيا مصر وطننا آمناً مستقراً.
* ثم انصرف الطلاب إلى فصولهم، حيث خُصص هذا اليوم لتناول موضوعات تتعلق بالحرب والسلام؛ فهذا مدرس للفيزياء ـــ يدرسها باللغة الإنجليزية ـــ يتناول عبقرية اقتحام خط بارليف باستخدام فكرة مدافع المياه؛ ومدرس ثان للغة الإنجليزية يتناول أشهر الأعمال الأدبية العالمية والوطنية التي عالجت أحداث الحرب والسلام؛ ومدرس آخر للغة الإنجليزية ـــ وهو شاب أمريكي الجنسية ـــ يُدرس لتلاميذ صفه الخامس الابتدائي متناولاً موضوع حرب أكتوبر والسلام المصري الإسرائيلي، حيث قال في معرض حواره مع تلامذته : حقاً عبرت مصر خط بارليف، ولكنها استردت أرض سيناء من خلال مفاوضات السلام وليس بالحرب وحدها.. وهنا انتفض أحد تلامذته وطلب الكلمة، فسُمح له، فقال التلميذ : أستاذ، استرددنا أرضنا بالحرب والسلام معاً، أرجو إن أردت أن تتحقق من نصر المصريين في معركة السادس من أكتوبر فأوصيك بمراجعة ما قاله بعض القادة الإسرائيليين والمؤرخين العسكريين الغربيين أنفسهم عن معركة العبور؛ أستاذ : هل يعقل أن يمنحك عدوك كل أرضك من خلال المفاوضات وحدها ؟؟؟ ما لم يكن على يقين أنه أمام خصم يخشى قوته ويهاب عقيدته..” ثم علق المدرس على هذا بقوله ” على أية حال أنتم وإسرائيل الآن أصدقاء.. عقبها استطلع المدرس على الفور علامات عدم الاقتناع، وبالتالي عدم القبول في وجوه تلاميذه..”.
هذا وعقب انتهاء الدرس استُأنف بالطبع الحوار بين تلاميذ الفصل بعضهم البعض، ثم بين التلاميذ وأولياء أمورهم، وكذا وجد الحدث مساحة عريضة على مواقع التواصل الاجتماعي لأولياء الأمور والتلاميذ.. وبالطبع علمت إدارة المدرسة به، فدعت على الفور مـديرة المدرسة ” Head of school ” لاجتماع عاجل حضره : مديرة التعليم الابتدائي والمدرس المذكور وآخرين، ودار نقاش مباشر بين المديرة والمدرس، نطرح أهم ملامحه في النقاط الآتية :
المديرة : أستاذ… حاولت اقناع تلاميذ فصلك أمس بأن استرداد المصريين لأرض سيناء كان نتاج مفاوضات السلام، وأن حرب أكتوبر لم ينتصر فيها المصريون.. هل هذا صحيح ؟
المدرس : نعم هذا الحوار حدث بالفعل.
المديرة : أنت في مأزق حقيقي.. فإذا كان أولياء أمور التلاميذ قد أزعجهم جداً تسطيحك لقيمة نصر أكتوبر، إلا أن الأهم هو موقف تلاميذك منك؛ لأنك بالفعل فقدت الكثير من مصداقيتك أمامهم؛ وهذا أمر يؤثر بقوة على قناعتهم بك كمدرس.. فإذا كان الأطفال قد صححوا لك فكرتك عن انتصار أكتوبر والسلام القائم على القوة، فإن إدارة المدرسة تعرب عن اعتراضها الشديد على محاولتك تصدير أفكار تتعارض مع الحقائق والواقع، وتتعارض أيضاً مع هدف تربوي قومي، فحقيقة نصرنا لا يجب التشكيك فيها بأي شكل، نعم نحن أمة نسعى للسلام، ولكن السلام القائم على استرداد كامل الحق، ولا يتحقق هذا سوى بما نمتلكه من مقومات القوة.. ولزاماً عليك تصحيح هذا الأمر بنفسك.
المدرس : أنا متفق معك فيما انتهيت إليه، فقد لمحت بالفعل بعد هذا الحوار مشاعر سلبية تجاهي ظهرت في وجوه تلاميذي؛ ولكن ما السبيل لتدارك هذا الأمر ؟؟؟
المديرة : سأساعدك على تصحيح هذا الأمر، ولكن ستساهم بنفسك في هذا أثناء درسك القادم مع تلاميذك، وسأحضر بنفسي وأشارككم الحوار، الذي ينطلق من فكرة أساسية سأبدأ بها النقاش مع التلاميذ ألا وهي : أن ما طرحه أستاذهم عند نقاشه حول حرب أكتوبر كان بمثابة العصف الذهني، يدعوهم من خلاله لتأمل الموضوع والاختلاف الفكري معه؛ الاختلاف القائم على الحجة والبرهان، وأن أهم ما تقدمه المنهجية العلمية الأمريكية هو تنمية مهارات التفكير والإبداع لدى التلاميذ، فنحن لا نقدم علماً تلقينياً.. ثم تطرح أنت نماذج للسلام القائم على القوة، ولتكن معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية نموذجاً، وتعرض حالات أخرى كانت بمثابة معاهدة استسلام؛ كما هو الحال بعد الحرب العالمية الثانية.. فوافق المدرس على الفور.
واستطردت المديرة في حديثها للمدرس : يجب أن نحتفظ بآرائنا الشخصية عندما تتعارض مع مهام عملنا التي تتطلب الالتزام بمنهجية علمية، وواقع، وحقائق يجب أن تُحترم. هذا وحضرت بالفعل مديرة المدرسة حصة المدرس مع الفصل المشار إليه، وأثارت الموضوع مع الفصل وسألت المديرة عن التلميذ الذي حاور المدرس، فأشار طلبة الفصل ناحية زميلهم ” عمر ” الذي وقف مترقباً لما بعد سؤال المديرة عنه.. فإذا بالمديرة تقول “عمر ابن مصر” وتصفق له، وصاحب تصفيقها هذا تصفيق مدوي من زملائه.. ظهر أثره الواضح في ملامح وجه أستاذ الفصل.. وأكدت المديرة مرة ثانية على أن الهدف الأساسي للحوار هو تنمية مهارات التفكير والتدقيق في تناولنا للأحداث وحكمنا عليها.
ونؤكد في هذا السياق على أهمية معركة الوعي في عالمنا المعاصر، فقد أدحض التلميذ الذي لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره أستاذه بالفكر المؤسس على منطق ينطلق من وعي بحقائق الأمور، كما نوجه التحية لإدارة المدرسة التي رصدت الحدث في وقته، وتعاملت معه بحرفية عالية، حققت بها هدفين :
الأول : التأكيد لطلبة المدرسة على المكتسبات الوطنية لنصر أكتوبر باعتباره نصراً وطنياً تاريخياً لا يساوره شك، وأن وعي التلاميذ به سليم وفي موضعه.
الثاني : إدارة الحدث في توقيت مناسب، والتعامل معه بشكل رشيد، فمعركة الوعي يجب أن تدار بوعي أيضاً.. وقد عالجت المديرة الموقف بحكمة، منحت فيها المدرس المشاركة بنفسه في هذه المعالجة، وقد راعت في تعاملها مع الموقف أن غالبية المدرسين في المدرسة من الأجانب، وبالطبع سوف يتابعون الموقف برمته، لذا فإن المعالجة اتسمت بذكاء قيادي، فمنطق الجزاء أو الاستبعاد مرفوض في مثل هذه الحالات.. . والسؤال الذي ربما يتبادر لذهن القارئ الآن هو : ما توقعاتكم نحو ردة فعل الإدارة المدرسية الحكومية المصرية بفرض قيام أحد المدرسين في مدارسنا بطرح منطق المدرس الأجنبي السابق ذكره على طلبة فصله ؟؟؟