تقرير: محمد عبيد الله
(زمان التركية)-أكد مؤسس حركة الخدمة التركية، المفكر الإسلامي فتح الله جولن، أن الديمقراطية أفضل نظام للمجتمعات التعددية غير المتجانسة، مشدّدًا على ضرورة تطوير المسلمين نظامًا مثاليًّا خاصًّا بهم يحفظ حقوق الجميع، بغضّ النظر عن الدين والعرق واللغة، عن طريق الاستفادة من التجارب والممارسات الديمقراطية في مختلف العالم.
جاء ذلك خلال حواره مع الإعلامي المصري نشأت الدهي على قناة (Ten) المصرية المذاع مساء يوم السبت، حيث نوّه جولن بأن مصر وتركيا تضمّان أطيافًا متعددة من مسلمين ومسيحيين بل وملحدين وربوبين وغير هؤلاء، لافتًا إلى ضرورة تأسيس إدراة تراعي السمة العامة للمجتمع ولا تسبِّب أي ضرر لأي أحد من أفرده.
الإسلام السياسي يخلق صراعات
وأشار جولن في حواره إلى لزوم قبول كل إنسان كما يعرّف نفسه، واحترام المعتقدات والأفكار مهما كانت، ما لم تتضمن العنف، قائلاً: “إن فرض المعتقدات والتصورات التي يتبناها أنصار “الإسلام السياسي” على المجتمعات التعددية من شأنه أن يخلق اضطرابات ويحدث نزاعات في هذه المجتمعات، وهو ما يحدث حاليّا في تركيا بالفعل”.
وقال جولن أيضًا: “لا يمكن حمل أفراد مثل هذه المجتمعات التعددية على رأي واحد، بل يجب احترام مشاعر الجميع. لأن ما تنتظره من الآخرين ينتظرونه منك أيضًا، وعليك أن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك”.
وأفاد جولن أن المجتمع المصري مجتمع تعددي مثل تركيا، ومن ثم فإن مراعاة معتقدات ومشاعر كافة الأطياف أمر جدير بالاهتمام في كلا البلدين، وذكّر بوجود أشكال وتطبيقات مختلفة للديمقراطية حول العالم، ثم عقّب بقوله: “ومن الممكن أن نطور نظامًا ديمقراطيًّا يتلاءم مع أوضاعنا وقيمنا الذاتية، مع الاستفادة من تلك الممارسات الديمقراطية المتعددة”.
وعبر جولن عن اعتقاده بأن الفوضى التي تعم العالم حاليًا ستستمر ما لم ينجح المسلمون في تأسيس نظام مثالي يستثير غبطة الإنسانية جمعاء، واستدرك بعد ذلك قائلاً: “لكن ينبغي علينا أن نصر على المضي قدمًا في هذا السبيل. أظنّ أن الشعب المصري الحبيب، وكذلك الذين لم يفقدوا إنسانيتهم في تركيا، قادرون على تحقيق ذلك، إذا نجحوا في تحقيق التوازن والاعتدال على المستويين الفكري والعاطفي، وأفلحوا في تشكيل نظام مثالي يُحتذى به على مستوى العالم.”
وسلّط جولن أيضًا في حواره مع نشأت الدهي على طبيعة النظام الحاكم في تركيا الذي يقوده حزب العدالة والتنمية “الإسلامي” مع حلفائه قائلاً: “هؤلاء المسيطرون على مقاليد الأمور في بلادنا اليوم ليسوا من أبناء الأناضول الحقيقيين، بل حتى يقال إنهم قدموا من الشمال. ولقد غابت عنهم قيم شعب الأناضول الأصيلة، لكنهم يتظاهرون بأنهم يحترمون قيم هذا الشعب ومبادئه الدينية والأخلاقية والتراثية والثقافية. إنهم يعانون من هضم هذه القيم السمحة واستساغتها، ويستخدمون الشعارات الدينية والخطابات الإسلامية البراقة لضمان بقائهم في السلطة”.
جولن الذي دعا إلى دعم جهود الحكومة التركية الرامية إلى سنّ دستور جديد للبلاد، من خلال التصويت لصالح تعديلات دستورية في عام 2010، لكن أردوغان تخلى عن ذلك بعد حصوله على أصوات الديمقراطيين والليبراليين، ولم يكمّل ما بدأه، تطرق إلى وضع الدستور التركي الحالي أيضًا.
الدستور الأمريكي نموذجا
جولن قال: “إن الدستور التركي الحالي لا يصلح لإدارة مجتمع مثل المجتمع التركي الذي يشتمل على أطياف وقوميات متنوعة. فبلادنا تشتمل على قوميات مختلفة من أتراك وأكراد وشركس ولاظ وعلويين، وأطياف متعددة من مسلمين وربوبيين وملحدين وكماليين وغير ذلك. إذا كان النظام في تركيا يريد أن يضع دستورًا جديدًا، فعليه أن يضع دستورًا يراعي وضع الأغلبية المسلمة ويحترم في الوقت ذاته معتقدات الآخرين وقيمهم”.
واصل جولن قائلاً: “لو سألوني عن رأيي في ذلك لاقترحت على المسؤولين أن يستفيدوا من الدستور الأمريكي الذي يحترم كل الآراء والمعتقدات مع مراعاة حقوق المسلمين بصفة أساسية. يمكنهم أن يستفيدوا منه كما استفادوا في الماضي من الدستور الفرنسي”.
تناول جولن أيضًا العلاقات بين القاهرة وأنقرة من جهة، وبين الشعب التركي والمصري من جهة أخرى، حيث قال: “الحقيقة أنه لم يَبْلُغْني أن أي مسؤول مصري، على أي مستوىً كان، أساء إلى الشعب التركي. لكن لما وقعت الأحداث في مصر (عام 2013) بادر رئيس الحكومة التركية في ذلك الوقت (أردوغان) إلى القول: “إن لكل فرعون موسى”، وأطلق على الرئيس المصري فرعونًا، قبل أن يطلع على شخصيته ويتعرف عليه كما ينبغي، وهو ما أدى إلى تأزم العلاقات بين الطرفين. إن التغيير القائم على مبادئ وقيم معينة (تحفظ أمن البلاد واستقرارها) يختلف عن التغيير الذي يهدف إلى إحداث بلبلة وفوضى في البلاد وقد شهدت تركيا تغييرات متعددة من هذا النوع الأخير منذ 27 مايو 1960”.
تجدد العلاقات المصرية التركية
وواصل أن الشعب المصري يكّن للشعب التركي محبة عميقة ويتعاطف كلا الشعبين مع بعضهما، وجذب الانتباه إلى أن المسؤولين الأتراك ميالون بطبيعتهم إلى الخوض في جدليات مع نظرائهم المصريين انطلاقًا من الاعتبارات السياسية، ولا تزال هذه الجدليات مستمرة حتى اليوم.
وأردف جولن: “وقد أعرب بعض المسؤولين الأتراك في مناسبات مختلفة عن رغبتهم في تجديد العلاقات بين مصر وتركيا مرة أخرى وعودتها إلى طبيعتها.
لكني لست متأكدًا من إمكانية تحقيق ذلك بعد هذه القطيعة الطويلة، رغم تمنياتي بأن تعود العلاقات بين البلدين إلى طبيعتها بالفعل. لكن في ظل وجود أمثال هؤلاء المسؤولين الأتراك في السلطة لا تزال هذه الأمنيات صعبة إن لم نقل مستحيلة. فهم متقلبون كثيرو التحول؛ اليوم هُمْ هنا وغدًا هناك. كما في قوله تعالى: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ﴾”.
تحقيقات الفساد فضحتهم
وفيما يخصّ استهداف أردوغان شخصه وحركة الخدمة، قال جولن: “منذ وصوله إلى الحكم اتخذ من الخدمة هدفًا وبدأ في تقويض مؤسساتها التربوية والتعليمية؛ فأغلق معاهد التحضير الجامعي والمدارس والجامعات الخاصة.. تلك المؤسسات التي لا وجود فيها للخمر ولا للتدخين أو المخدرات وما شابهها.. لقد قوَّض تلك المؤسسات لا لشيء إلا لأنها لم تخضع لأجندته الداخلية والخارجية. وقد اعترف أردوغان بذاته بأنه غيّر ثلاثة وزراء من أجل إغلاق هذه المؤسسات”.
ورأى جولن أن أردوغان وفريقه ظهروا على حقيقتهم خلال تحقيقات الفساد والرشوة في 17-25 ديسمبر 2013، حيث ظهرت الرشوة واللصوصية وظهر فسادهم رغم ادعاءاتهم بأنهم إسلاميون، وتابع: “ومع أن أجهزة الأمن والقضاء الخاضعة لسلطته هي التي كشفت عن هذه الفضائح، لكن اتهم أردوغان القائمين على هذه التحقيقات من أفراد الشرطة والقضاة ووكلاء النيابة بأنهم من الخدمة. إنني لا أعرف واحدًا من ألف من هؤلاء. قد يكون منهم من يتعاطف مع أفكار الخدمة ويؤمن بمعقولية أنشطتها وفائدة ما تقدمه من خدمات للمجتمع لكني لا أعرفهم أيضًا”.
وذكر جولن أن الفلسفة التي تقوم عليها الخدمة هي مكافحة ثلاثة أشياء: الجهل والفقر والنزاعات، ثم استمر قائلاً: “ومن هذه الناحية، فإن المتعاطفين مع الخدمة وجدوا أن هذه الأفكار معقولة ونافعة للإنسانية فالتفوا حولها. ومن أجل ذلك لاقت هذه الأفكار قبولا واسعا وحظي المتعاطفون معها بالقبول في كثير من البلاد. وأصدقك القول إنني لا أعرف أكثر هؤلاء”.
السيطرة على الجيش
ثم كشف جولن عن مخطط أردوغان للقضاء على الجيش أولاً، من خلال تدبير انقلاب مسرحي تلاه تصفيات جماعية عشوائية، ثم القضاء على حركة الخدمة من خلال اتهامها بتدبيرها وإطلاق حملة شعواء ضد أعضاء المجتمع المدني، وذلك لرؤيتهما أكبر عائقين أمام تحقق مشاريعه في الداخل التركي والمنطقة، خاصة في سوريا.
قال جولن: “نعم لقد كان هدف (أردوغان) هو السيطرة على القوات المسلحة وإعادة هيكلتها لصالحه، ثم أطلق حملته ضد الخدمة وعزم على التخلص من المتعاطفين مع أفكارها. صحيح أنهم قدموا بعض الأمور التي تخدم قضايا المسلمين، لكنهم غلفوها بالشعارات الإسلامية واستخدموها بضاعة رخيصة لضمان بقائهم في السلطة ولإضفاء الشرعية على فسادهم وحياتهم المترفة. إن المشهد الحالي يوضح لنا أنهم يتصرفون في كافة الأمور بميكافيلية”.
وفي معرض إجابته على دعوة الإعلامي المصري نشأت الدهي إياه لإرسال رسالة إلى أردوغان عبر قناتهم، قال جولن: “إن أردوغان لا يصغي إلى أحد، وبالذات إلينا نحن، فلديه أحكام مسبقة عنا، إنه يتهمنا بالإرهاب ويتهمني شخصيا بأنني رأس الإرهاب وقد أصدروا ضدي أحكامًا متعددة بالمؤبد، لذلك ليس لدي شيء أوجهه إليه. لكن يمكن للبلدان الديمقراطية والدول الغربية ودول العالم الإسلامي أن تتخذ تجاهه موقفًا موحدًا للضغط عليه كي يتراجع عن استبداده. وأعتقد أن هذا هو السبيل الوحيد لكي تتوقف الفوضى والاضطرابات التي تشهدها تركيا حاليًا”.
مصر تستطيع
وفيما يتعلق بالقيادة المصرية وتوجهها الحالي، قال جولن: المسار الحالي لمصر يبدو لي جيدًا، لكني أتابع من الخارج. ولست في موقع يسمح لي بأن أتحدث عمّا يقع، كمن يعاين الأحداث ويسجّله، أعتقد أنهم (أردوغان وجماعته) يستغلون السمعة التي ورثوها من تاريخ العثمانيين ليحدثوا بها تأثيرا في العالم الإسلامي. لكني أعتقد أن مصر تستطيع أن تقدم نموذجًا يحتذى به إذا حافظت على هذا الخطّ من الاعتدال والتوازن، وهي قادرة على ذلك بما تتمتع به من سمعة طيبة، وشعب عريق يتمتع بذكاء عالٍ، كل ذلك جعلها في فترة من فترات التاريخ تهيمن على مقدرات الإنسانية وتحتل مكانة مهمة في تاريخ العالم الإسلامي”.
وتابع: “كثير من الدول، وخاصة في القارة الأفريقية وبعض بلدان العالم الإسلامي، تنظر إلى مصر نظرة احترام وتقدير وتتخذ منها نموذجا يقتدى به. لذا أظنّ أن القيادة المصرية بما تتمتع به من نضوج، قادرة على خلق طاقة جماعية تؤدي إلى تحقيق تعاضد وتساند بين هذه الدول كافة، إذا واصلت سيرها على هذا الدرب”.
واختتم فتح الله جولن، ملهم حركة الخدمة، حواره مع نشأت الدهي بقوله: “لكن المشهد المزري الراهن للمسلمين، الذين ذاقوا مرارة هزائم متتالية منذ عدة قرون، لا يبدو قابلاً للإصلاح والتقويم دفعة واحدة، بل قد يحتاج إلى ثلاثة أجيال كي يستقيم. أتمنى أن نبذل جهدنا لإصلاح أحوالنا وأوضاعنا في غضون هذه المدة”.
–