منى سليمان*
“أردوغان” يعيد التوتر للعلاقات التركية الأوروبية بورقة اللاجئين و”ماكرون” يصعد ضد أنقرة .. المؤشرات والأبعاد
منح الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” دول الاتحاد الأوروبي المعنية بقضية اللاجئين السوريين مهلة أسبوعين لتقديم دعم فوري لأنقرة، وجدد تهديداته بفتح الأبواب أمامهم وترحيلهم إلى الشواطىء الأوروبية لأن تركيا التي تستضيف أكثر من 3 ونصف مليون لاجىء سوري لن تتمكن من إستقبال موجات جديدة منهم لاسيما بعد حركة النزوح التي صاحبت بدء معركة إستعادة السيطرة السورية على مدينة إدلب معقل المعارضة المدعومة من قبل أنقرة، وجاءت تهديدات “أردوغان”غداة إنتهاء القمة الثلاثية لضامني الآستانة التي إستضافها بأنقرة في 17 سبتمبر2019 وحضرها نظيره الروسي “فلاديمير بوتين” والإيراني “حسن روحاني”، كما دعا “أردوغان” الدول الأوروبية لدعم خطته لإقامة منطقة آمنة في شمال سوريا وشرق الفرات بإشراف تركي لتتمكن أنقرة من ترحيل اللاجئين إليها. وهذه التهديدات تمثل إبتزاز تركي للدول الأوروبية التي بدأ تعاني من التداعيات الاجتماعية والاقتصادية السلبية لاستقبالها اللاجئين السوريين مم اأدى لصعود اليمين الاوروبي المتطرف وحصول على نسب مرتفعة في انتخابات البرلمان الاوروبي الاخيرة، كما ان هؤلاء اللاجئين يتسلل بينهم عناصر ارهابية من “داعش” والتنظيمات المتطرفة المتواجدة بسوريا والعراق مما يمثل تهديد مباشر للأمن القومي الأوروبي. ولذا فإن تهديد “أردوغان” أثر سلبًا علي العلاقات التركية الأوروبية التي تشهد العديد من من القضايا الخلافية تتصدرها الخلافات الفرنسية التركية، والتي بلغت حد فرض عقوبات أوروبية بدعوة من باريس على أنقرة إثر الاعتراض على التنقيب التركي عن الغاز بشرق المتوسط، فضلا عن قرار وقف التفاوض بين أنقرة وبروكسل حول إنضمام الأولي للإتحاد. مما ينذر بتصاعد التوتر في العلاقات التركية الأوروبية، والذي سيكون له العديد من التداعيات السلبية على التعاطي التركي مع كافة دوائر السياسة الخارجية.
أولا: تصاعد القضايا الخلافية:
مرت العلاقات التركية الأوربية منذ الإنقلاب الفاشل بتركيا في 15 يوليو 2016 بمرحلة توتر استمرت قرابة عامين وأنتهت بزيارة هامة أجراها الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” لألمانيا في نهاية سبتمبر 2018 استمرت ليومين، بيد إن “أردغان” سرعان ما عاد لإفتعال الأزمات مع دول الأتحاد كافة وتصدرت خلافاته مع فرنسا المشهد التركي الأوروبي، كما تفاقمت القضايا الخلافية بين أنقرة والإتحاد الذي لجأ مؤخرا لفرض عقوبات على الأولي لتحذيرها من تداعيات سياساتها في شرق المتوسط، وكان من أبرزها ما يلي ..
1-قضية اللاجئين:
تعد قضية اللاجئين أبرز القضايا الخلافية بين أنقرة ودول الإتحاد الأوروبي لاسيما في السنوات الأخيرة. حيث تخشى دول الاتحاد من تداعيات تدفق اللاجئين السوريين إليها عبر الحدود التركية الأوروبية، ولذا فقد وقعت أنقرة والأتحاد الأوروبي إتفاقًا في مارس 2016 لمكافحة “الهجرة غير الشرعية وتهريب البشر”. تقوم تركيا بموجبه بإستقبال اللاجئين الواصلين للجزر اليونانية ممن تأكد انطلاقهم من تركيا وتتخذ الإجراءات اللازمة من أجل إعادة المهاجرين غير السوريين إلى بلدانهم، بينما سيجري إيواء السوريين الذين أعيدوا في مخيمات بتركيا. وفي المقابل تدفع دول الاتحاد 6 مليار دولار لتركيا، على أن تذهب تلك الأموال لدعم مشاريع يستفيد منها اللاجئون السوريون في تركيا. وتنفي أنقرة إنها حصلت على هذا المبلغ وتؤكد أنها حصلت على مليار و850 ألف يورو فقط. بينما تكلفت أكثر من 40 مليار دولار لإستضافة 3,5 لاجىء سوري منذ 2011. وفي مسعى منه لإحتواء تهديدات أنقرة أكد وزير الخارجية الألماني “هايكو ماس” يوم 17 سبتمبر 2019 إلتزام بلاده بإتفاق اللاجئين مع تركيا، لاسيما بعدما أكدت أثينا وصول أكثر من 26 ألف مهاجر لجزر بحر إيجة اليونانية، وهو أعلى عدد من اللاجئين يصل إليها منذ توقيع الاتفاق مع أنقرة.
ولذا يستغل “أردوغان” هذه المخاوف الاوروبية ويستخدم ورقة اللاجئين مرة أخرى للضغط على دول الإتحاد بغية الحصول على الدعم الأوروبي لخططه المستقبلية في سوريا، حيث يسعى لإنشاء منطقة آمنة بعمق 32 كم شمال شرق سوريا تحت إشرافه يبني فيها مساكن للاجئين السوريين ويتم تسكينهم فيها. وربما يكون محقا في مخاوفه حيث إن اللاجئين أصبحوا يشكلون أزمة مركبة .. فهم يمثلون تهديد للأمن القومي التركي من خلال تسلل الإرهابيين والعناصر الإجرامية بينهم، وكذلك يشكلون أزمة إجتماعية عبر المشكلات التي تحدث بصفة مستمرة بينهم وبين المواطنين الأتراك مما يخل بالسلم الإجتماعي للبلاد، فضلا عن العبء الإقتصادي الذي لا يحتمله الإقتصاد التركي في ظل تباطوء نموه وتراجع سعر الليرة. ولذا يسعى “أردوغان” الي إيجاد حل عاجل وناجع لأزمة اللاجئين ولعل إعلانه بقرب تنفيذ عملية عسكرية جديدة بشمال سوريا لإقامة المنطقة الآمنة وتسكين للاجئين السوريين فيها هو الحل النهائي لتلك الأزمة من وجهة نظره، والعائق الوحيد هو الرفض الأمريكي لأي تحرك عسكري تركي منفرد بسوريا.
2-التنقيب عن الغاز شرق المتوسط:
مثل قرار المجلس الأوروبي بفرض عقوبات ضد تركيا يوم 16 يوليو 2019، على خلفية تنقيبها عن الغاز في المنطقة الاقتصادية الخاصة بقبرص شرق البحر المتوسط، سابقة في العلاقات بين أنقرة والإتحاد الذي تسعى للإنضمام إليه منذ خمسين عاما، حيث نص القرار علي تخفيض التعاون مع أنقرة من خلال وثيقة تضم 5 بنود، تصدرها أسف المجلس لمواصلة تركيا عمليات التنقيب بمياه قبرص رغم دعوات الاتحاد الأوروبي المتكررة إلى وقفها. وأكد المجلس أن تلك “العمليات غير الشرعية تؤثر بصورة مباشرة على كامل العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا”، وجدد دعوته إلى تركيا بالتخلي عنها والعمل على نحو يتماشى مع روح حسن الجوار واحترام سيادة قبرص وحقوقها السيادية بموجب القانون الدولي. وطالب المجلس بترسيم الحدود بالمناطق الاقتصادية الخالصة والجرف القاري عبر الحوار والمفاوضات العادلة، وشملت العقوبات تخفيض المساعدات الاقتصادية المقدمة لتركيا لعام 2020، ودعا “بنك الاستثمار الأوروبي” لمراجعة أنشطته لإقراض تركيا، وحذر المجلس من توسيع العقوبات حال استمرت أنقرة في التنقيب عن الغاز في غير حدودها البحرية. ليس هذا فقط بل أن تنقيب تركيا عن الغاز آثار مخاوف موسكو وواشنطن اللتين حذرتا غير مرة من ارتفاع حدة التوتر بشرق المتوسط وتأثره على دول الجوار، ودعتا الي وقف النشاطات الاستفزازية والتحلي بضبط النفس والالتزام بالحوار لحل هذه الخلافات.
بيد أن هذه العقوبات لم تردع أنقرة التي أكدت استمرار تنقيبها وحقها القانوني في ذلك دفاعا عن القبارصة الاتراك، حيث أكد نائب الرئيس التركي “فؤاد أقطاي” في 11 أغسطس 2019 أن أنقرة ستواصل بعزم أنشطة التنقيب في البحر المتوسط، حيث أرسلت ثلاث سفن للتنقيب هي (ياووز، فاتح، بربروس) وتعتزم ارسال سفينة راعبة هي “أوروغ ريس” قريباً إلى المتوسط. وأوضح أن تركيا تواصل موقفها المبدئي والحازم في حماية حقوق القبارصة الأتراك، فضلاً عن حماية حقوقها في غاز شرق البحر المتوسط. وهذا التعنت التركي ينذر بفرض المزيد من العقوبات علي أنقرة وتفاقم الأزمة في المستقبل القريب، والدافع الرئيسي لهذا التعنت هو حرص انقرة على الحصول على حصتها في احتياطات الغاز الطبيعي قبالة قبرص التي تقدر بنحو 227 مليار م3، وبالطبع هذا سيمثل ثروة قومية لانقرة التي تستورد كافة حاجتها من المحروقات وتعاني من تراجع في أداءها الاقتصادي بصفة مستمرة.
3-الخلاف القبرصي اليوناني:
تتعدد الخلافات بين أنقرة وأثينا منذ إنقسام جزيرة قبرص عام 1974 رغم المحاولات المستمرة من الدولتين العضوتين في حلف الناتو إلا أن التوتر هو السمة الغالبة علي علاقاتهما، فقد انتقد رئيس الوزراء اليوناني السابق “ألكسيس تسيبراس” تركيا لانتهاكها المجال الجوي لبلاده أكثر من 99 مرة منذ مطلع عام 2019، هذا فضلا عن الاعتراض اليوناني القبرصي علي التنقيب التركي عن الغاز والانتهاكات التركية المستمرة ببحر ايجه والخلاف على عدد من الجزر المتنازع عليها هناك، وقد أكد “تسيبراس” منتصف يونيو 2019 أن الاستفزازات التركية ليست أزمة ثنائية بين أثينا وأنقرة وإنما تتعلق بكافة الدول الأوروبية. وذلك خلال مشاركته في القمة السادسة لدول جنوب الاتحاد الأوروبي (يطلق عليها اسم قمة ميد) في مالطة وتضم كلا من (اليونان، قبرص، مالطا، فرنسا، إيطاليا، إسبانيا، والبرتغال)، وأكد أن الأنشطة التي تقوم بها تركيا في المنطقة الاقتصادية الخاصة ببلاده مخالفة لمبادئ الاتحاد الأوروبي والقوانين الدولية. وألمح الى ان حال استمرار الاستفزازت التركية في المنطقة الاقتصادية لقبرص الجنوبية، فإن الاتحاد الأوروبي يبحث عدد من التدابير التي من الممكن اتخاذها، والتي ستشمل عقوبات اقتصادية وفق القانون الدولي.
وفيما يخص تهديدات “أردوغان” الاخيرة بشأن السماح للاجئين بالعبور للحدود اليونانية، فقد دعا رئيس الوزراء اليوناني الجديد “كرياكوس ميتسوتاكيس” الرئيس التركي للتاكد من أنه لا يمكنه تهديد الاتحاد الأوروبي واليونان من أجل توفير مزيد من الموارد لحل أزمة اللاجئين، وأكد أن أوروبا قدمت لأنقرة 6 مليار يورو خلال السنوات الأخيرة وفق اتفاقية اللاجئين التي وقعت لصالح كل من أوروبا وتركيا.
4- إنضمام تركيا للإتحاد الأوروبي:
رغم محاولات أنقرة المستمرة منذ 7 عقود للإنضمام للإتحاد الأوروبي إلا أن الأخير مازال يراها غير مؤهلة لعضويته، حيث أقر البرلمان الأوروبي بأغلبية كبيرة تقريرا حول تركيا يتضمن تعليق مفاوضات انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. وصوت يوم 13 مارس 2019 على “تقرير تركيا 2018” المعد من قبل النائبة الهولندية “كاتي بيري” 370 عضوًا بالجمعية العامة للبرلمان الأوروبي مقابل رفض 109 أصوات، وامتناع 143 نائبًا عن التصويت. واحتوى التقرير الذي يحمل صفة توصية وغير ملزم، على العديد من النقاط التي تثير استياء تركيا. وتضمن التقرير انتقادات ضد تركيا بمواضيع “حقوق الإنسان، وسيادة القانون، وحرية الصحافة ومكافحة الفساد”، كما أنه تناول أطروحات القبارصة الروم واليونان بشكل كبير في الجزء المتعلق بالقضية القبرصية. وانتقد سياسات تركيا حيال قبرص، وطالب بإنهاء الوجود العسكري التركي فيها. وقد اعتبرت أنقرة القرار باطل.
وبخلاف القرار الاوروبي فإن القادة الاوروبيين يرون انقرة اليوم تبتعد عن قيم الاتحاد، حيث دعا الرئيس الفرنسي “إيمانول ماكرون” لإقامة شراكة استراتيجية مع تركيا بدلا من عضويتها الكاملة في الاتحاد الأوروبي. وكذلك أكد وزير الخارجية الألماني السابق “سيجمار جبريال” “أن تركيا لن تتمكن أبدا من نيل عضوية الاتحاد الأوروبي طالما حكمها الرئيس رجب طيب أردوغان”. وكذلك جددت المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” رفضها حصول تركيا علي عضوية كاملة في الاتحاد الأوروبي. وهو نفس الموقف الذي تتخذه خليفتها رئيسة الحزب المسيحي الديمقراطي الألماني “أنيجريت كرامب-كارنباور” حيث ترى أن هناك فرصا قليلة لحدوث مزيد من التقارب بين تركيا والاتحاد الأوروبي. ولعل أهم العوامل الغير معلنة التي تدفع القادة الاوروبيين لرفض انضمام انقرة للاتحاد هي العامل الديمغرافي؛ إذ إن معدل النمو السكاني في تركيا يتجاوز 80 مليون نسمة وسيصل 100 مليون خلال السنوات القليلة المقبلة وغالبيتهم ينتمون للدين الاسلامي؛ مما سوف يزيد من وزن تركيا في عملية التصويت حال دخولها البيت الأوروبي، وهو ما قد يُمثل خصماً من وزن ألمانيا وفرنسا.
ورغم هذه المواقف الاوروبية الواضحة والرافضة للمزيد من التقارب مع أنقرة في ظل السياسات الداخلية الغير ديمقراطية والسياسات الخارجية التوسعية المهددة لدول الجوار والمنافية للقانون الدولي التي يتبعها “أردوغان” إلا أن الأخير يصر علي أن هدف تركيا هو الحصول على عضوية كاملة في الإتحاد الأوروبي.
ثانيا: دوافع تصاعد التوتر التركي الفرنسي:
منذ مطلع العام الحالي وتشهد العلاقات التركية الفرنسية توترًا متصاعدًا، إثر تعارض السياسات الخارجية للدولتين في عدد من القضايا الهامة، فباريس تتخذ موقفا داعما بقوة للقضية الكردية، وتنتقد بشدة الانتهاكات ضد الديمقراطية والحريات الصحفية وحقوق الإنسان في تركيا، كما قررت باريس الاستغناء عن توظيف الأئمة الأتراك في مساجد فرنسا منعا لتغلغل أكبر للإسلام السياسي ولفكر الإخوان المسلمين في المجتمع الفرنسي المسلم بدعم تركي، كما رفضت باريس محاولات أنقرة للإستغلال السياسي لقضية الصحفي السعودي المعارض الذي قتل باسطنبول في أكتوبر 2018 “جمال خاشقجي” وتصدّت لها ومنعت تدويل القضية. هذا بالإضافة لمُعارضة فرنسا الدائمة سعي تركيا الانضمام لعضوية الاتحاد الأوروبي. فضلا عن الموقف الفرنسي الداعم للقضية القبرصية، والرافض للتنقيب التركي عن الغاز شرق المتوسط بل ان الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” قد حث قادة قمة (ميد) الاوروبية لاتخاذ قرارات ضد أنقرة. وهذه الخلافات سيكون لها العديد من التداعيات السلبية علي الأخيرة التي تسعى للانضمام للاتحاد الاوروبي منذ سنوات دون جدوى، كما سيؤثر علي العلاقات التركية الاوروبية، بشكل عام لاسيما بعد عامين من أزمة مماثلة بين تركيا وهولندا تبادلت فيها أنقرة وأمستردام سحب السفراء، ورغم أن التوتر التركي الفرنسي لم يصل لتلك الدرجة، إلا أن تفاقم الخلافات حول عدد كبير من القضايا يرشحه للتصعيد. ومن بين القضايا الخلافية ما يلي..
1-الملف السوري ..
كشفت مصادر فرنسية رفض باريس سيطرة تركيا على المنطقة الآمنة المزمع إنشاءها بشمال سوريا، وحددت أهداف باريس في سوريا بعد القضاء علي تنظيم “داعش” الإرهابي في هدفين هما .. ضمان عدم عودة “داعش” بشكل أو بآخر أو أي تنظيم إرهابي آخر لسوريا، وتجنُّب الفراغ الأمني الذي من شأنه منع الأتراك من إجتياز الحدود التركية السورية، ومنع قوات النظام من إجتياز نهر الفرات. ولذا أعلنت باريس منذ مطلع العام الحالي بقاء قواتها بسوريا حتى بعد القضاء تمام على “داعش” وتقدر تلك القوات الفرنسية بنحو بمائتي جندي يتمركزون بمحافظة الحسكة شمال سوريا، الامر الذي اعترضت عليه أنقرة ورفضته لاسيما وأن الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” يرغب في سيطرة بلاده فقط على المنطقة الآمنة بشمال سوريا ويرغب في أن تمتد لعمق 32كم. مما عمق التوتر القائم بالفعل بين باريس وأنقرة، وسيكون له تداعيات جمة على مجمل العلاقات التركية الأوروبية.
2- ملف الاكراد ..
ثمة دعم فرنسي مستمر للحقوق الكردية في العراق وسوريا، ولا يمر شهر دون زيارات من وفود كردية لباريس، حيث استقبل “ماكرون” أكثر من مرة الرئيس المشترك لمجلس سوريا الديموقراطية، الذراع السياسي لـِ “قسد” “إلهام أحمد” وجدد دعم بلاده لقسد. وأعلنت باريس دعمها الكامل لحصولهم على حقوقهم قبل تسوية الملف السوري بشكل نهائي، كما قمت جماعات المجتمع المدني الفرنسية دعما كيبرا لاقليم كردستان العراق في سبتمبر 2017 وقت مساع الاقليم للانفصال عن دولته المركزية. وبالطبع هذه السياسات تتناقض مع نهج أنقرة المعادي لكل أكراد الشرق الاوسط بل والعالم حيث شنت الاخيرة عدة عمليات عسكرية للقضاء علي الوجود الكردي بشمال العراق وسوريا ومنها (المخلب 1،2,3) بالعراق و(درع الفرات، غصن الزيتون) بسوريا. كما تقدم باريس دعما لوجيستيا وعسكريا لقوات “سوريا الديمقراطية- قسد” وهي القوات الكردية التي ساهمت في هزيمة تنظيم “داعش” وتصنفها أنقرة بإعبتارها “تنظيم إرهابي”. كما أعلنت باريس في فبراير 2019 عن حصول رئيس حزب الشعوب الديمقراطي الكردي السابق والمعتقل حاليا داخل السجون التركية “صلاح الدين دميرتاش” على جائزة Montluc الفرنسية للنضال والحرية عن أول رواياته “السَّحَر” التي نشرها في عام 2017. وطالبت بالافراج عنه الا ان انقرة رفضت وانتقد الموقف الفرنسي.
وقد بدأت الخلافات بين انقرة وباريس حول الدعم الفرنسي للأكراد مرحلة جديدة ربما تواجه فيها أنقرة حرجا دبلوماسيا بالغا. فقد أعلن القضاء الفرنسي يوم 16 مايو 2019 عن تورط الاستخبارات التركية بقتل الناشطات الكرديات الثلاث في باريس أوائل عام 2013، وطالب حزب “العمال الكُردستاني” باريس اتخاذ إجراءاتٍ فعلية ضد أنقرة. للتحقيق العدالة في هذه القضية. لاسيما بعد وفاة المتهم الوحيد بمقتلهن “عمر غوني”، كما يشكك الكردستاني في الرواية الفرنسية لحادثة القتل ويؤكد أن المخابرات التركية هي التي قامت بقتلهن لاسيما وأن أحدى القتيلات كانت صديقة وموضع ثقة للزعيم الكردي المعتقل منذ 21 عام “عبدالله أوجلان”. وقد اتهمت باريس في 2013 “غوني” بقتلهن وهو مواطن تركي كان يحمل أفكاراً “قومية متطرّفة” ويعمل في مطار شارل ديجول الدولي بباريس، وتوفي في سجنه نتيجة مرض القلب في ديسمبر 2016 وفق المصادر الفرنسية ثم تم إلغاء المحاكمة التي كان من المقرر إجراؤها في عام 2017. وفي الذكرى السنوية لقتلهن ينظم الأكراد بفرنسا وعدد من الدول الكردية تظاهرات تندد بالحادثة وتكتب علي اللافتاتٍ “تركيا قاتلة وفرنسا مشاركة” وتندد بفشل الحكومات الفرنسية في التحقيق بـ “جريمة قتل سياسيّة” ارتكبت على أراضيها من قبل “مخابراتٍ دولة أجنبية” وهي تركيا. والناشطات الثلاث اللواتي تسببن باندلاع خلافاتٍ كبيرة بين باريس وأنقرة نتيجة اغتيالهن، هن ساكينة جانسز وهي من مؤسسي حزب “العمال” ووُلدت بمدينة ديرسم في العام 1958 وتعرفت إلى زعيم حزب “العمال” عبدالله أوجلان في أواخر العام 1970. كما أنها قادت حركة احتجاجاتٍ واسعة اندلعت في سجن ديار بكر بتركيا في الثمانينيات من القرن الماضي. وقادت بعد ذلك مجموعة من المقاتلات الكرديات في معقل الحزب بشمال العراق بعد إطلاق سراحها، لتصبح لاحقاً مسؤولة للحركة النسائية في الحزب بأوروبا لغاية اغتيالها. بينما الثانية، فهي فيدان دوغان، ممثلة المؤتمر الوطني الكردستاني في باريس وكانت تشغل منصب المتحدث باسم حزب “العمال” في فرنسا. في حين أن الثالثة هي الناشطة ليلى شايلمز وكانت تعمل في مجال العلاقات الدبلوماسية كممثلة نسوية لحزب “العمال”.
3 – قضية الأرمن ..
أعلن الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” اعتبار يوم 24 أبريل من كل عام “يوما وطنيا لإحياء ذكرى الإبادة الأرمنية”. وذلك خلال العشاء السنوي للمجلس التنسيقي الأرمني في فرنسا، وكان “ماكرون” قد وعد خلال حملته الانتخابية بذلك. مما آثار رفضا تركيا وترحيبا من دولة آرمينيا والشعوب والجاليات الآرمنية في شرق أوروبا. وإبادة الآرمن هي مجازر قتل الأرمن على يد القوات العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى (1915-1917) التي راح ضحيتها 1,5 مليون آرمني. ورغم أن هدف “ماكرون” من ذلك الاعلان هو ارضاء فئة كبيرة من الشعب الفرنسي الغاضب وتهدئة تظاهرات “السترات الصفر”، إلا أنه آثار غضب أنقرة بشدة حيث إنها تنفي تعرض الارمن للابادة وتعادي أي دولة تضنف مجازر قتل الارمن على انها “إبادة جماعية”. وقد أكد المتحدث باسم الرئاسة التركية “إبراهيم قالين” أنه “لا يمكن لأحد اتهام تركيا بجرم لم ترتكبه وتشويه تاريخها”. حيث تؤكد أنقرة أن ادعاءات المذبحة هي كذبة سياسية لا أساس لها من الصحة ومنافية للحقائق التاريخية، واقترحت تأسيس لجنة تاريخية مشتركة فيما يخص ادعاءات المذبحة. كما اتهمت أنقرة باريس أنّها تسعى لتقويض عملية التطبيع بينها وبين أرمينيا.
وجدير بالذكر أن المحكمة الأوروبية قضت عام 2015 بأن إنكار عمليات القتل الجماعي للأرمن في عام 1915 خلال الحرب العالمية الأولى لا يشكل جريمة، وأن المجلس الدستوري الفرنسي في عام 2017 ألغى قرارًا سابقًا يجرم إنكار الإبادة الجماعية، ووصفه بأنه “غير ضروري وإعتداء غير مناسب على حرية التعبير”. وتقول أنقرة إن ما بين 300 ألف و500 ألف من الأرمن لقوا حتفهم، وتشير إلى أن ذلك جاء إلى حد كبير نتيجة للإضطرابات الناجمة عن الحرب العالمية الأولى، واستبعدت وصف ذلك بالإبادة الجماعية.
4-مخاوف من دعم تركي للاسلام السياسي:
أكد “ماكرون” في أبريل 2019 أن بلاده لن تتهاون في مواجهة “الإسلام السياسي”، وذلك إثر كشف عدد من وسائل الاعلام الفرنسي والاوروبي عن دور تركي متصاعد في دعم الجاليات الاسلامية بفرنسا بطرق غير مشروعة وتهدد الأمن القومي للبلاد. وتعهد “ماكرون” بإغلاق المدارس والمؤسسات الثقافية التي لا تحترم قوانين الجمهورية الفرنسية. وهو ما حدث حيث قررت حكومته اغلاق عدد من المعاهد والمدارس الدينية الاسلامية المدعومة من تركيا ، كما رفضت افتتاح مدارس ثانوية تركية على أراضيها، خشية من نشر أنقرة فكرها القومي وأيديولوجية تيار الإسلام السياسي إلى المجتمع الفرنسي. وكانت تركيا قد افتتحت أول مدرسة ثانوية لها في فرنسا، باسم مدرسة “يونس أمره الثانوية” في مدينة ستراسبرج عام 2015. كما تخشى باريس من الدعم التركي للأئمة المسلمين بفرنسا حيث ان 70% منهم ليسوا فرنسيين وأكثرهم أتراك، الامر الذي يمكن أن تستثمره أنقرة في تكوين لوبي ديني في الخارج من أجل خدمة مصالحها الاقتصادية والسياسية وتحقيق أجندتها.
5- تناقضات السياسة الخارجية:
ولا تقتصر الخلافات التركية الفرنسية علي ما سبق ذكره، بل أن هناك خلافات تتعلق بالسياسات الخارجية لكلا منهم لعل أبرزها المخاوف الأوروبية من التقارب التركي الروسي المتصاعد والذي بدأ في الملف السوري ثم اخذ صورا اقتصادية وعسكرية تقترب من التحالف لاسيما بعد حصول انقرة على صفقة صورايخ (اس 400) رغم وجود تركيا بحلف الناتو مما يمثل خرقا مباشر للأمن الأوروبي، فضلا عن تعارض الموقفين التركي والفرنسي بشأن الازمة الليبية حيث تدعم أنقرة ميليشيات طرابلس المسلحة وحكومة الوفاق الوطني برئاسة “فايز السراج” وهو ما يناقض الموقف الاممي الذي ينتقض أي دعم يقدم لتنظيم إرهابي أو تنظيم مسلح غبر الجيوش الوطنية التابعة للدول. وقد أعلنت فرنسا دعمها للجيش الوطني الليبي بقيادة المشير “خليفة حفتر” الذي بدأ حملة لاستعادة السيطرة الوطنية على طرابلس غرب ليبيا من قبضة الميليشيات. هذا بخلاف عدة تناقضات في السياسة الخارجية بين الدولتين فعلي سبيل المثال هناك دول تعد من حلفاء فرنسا وهي من أعداء تركيا والعكس، ومنها فنزويلا وإيران اللتين تدعمهما أنقرة بينما تنتقد باريس سياساتهما وتدعو لتغير ديمقراطي بنظام الحكم.
كما أن التقارب المصري الفرنسي والتوافق بينهما في عدد من قضايا الشرق الأوسط لاسيما في الأزمة الليبية وملف غاز شرق المتوسط والملف السوري والفلسطيني واللبناني، يمثل ضغطًا متزايدًا على السياسية الخارجية التركية التي تغرد منفردة في تلك الملفات.
وهذه التوترات المتصاعدة أدت لحدوث تلاسن علني بين “أردوغان” و”ماكرون” أكثر من مرة حيث اتهم الاول الثاني بانه “مبتدئ في السياسة لا يعلم تاريخ بلده!” على خلفية قرار إعلان باريس يومًا وطنيًا لإحياء ذكرى “الإبادة الأرمنية”، بينما اكد “ماكرون” أنّ تركيا “مُناهضة لأوروبا”. كما أنّ الصحافة الفرنسية لا تتوقف عن مُهاجمة أردوغان خاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان واضطهاد الأكراد والتدخل في دول الجوار وسعيه لتغلغل الإسلام السياسي في أوروبا، وكثيرا ما وصفت الرئيس التركي بـِ “الديكتاتور” و “هتلر الجديد”.
ولعل السبب الرئيسي لتصاعد حدة الخلافات التركية الفرنسية خلال العام الماضي، إنما يرجع لحدة التنافس الشخصي بين الرئيسين “ماكرون” و”أردوغان”، حيث يسعى كلا منهم للظهور كزعيم قوي يدير ملفات أقاليم عدة ويفرض إقتراحاته عليها ومنها (الشرق الأوسط، دول البحر المتوسط، شرق ووسط أوروبا)، ولذا يرى الرئيس التركي أن سياسة “ماكرون” الخارجية النشطة تجعله منافسا قويا له، فالرئيسان يطمحان في الزعامة الدولية، ولعل هذا التركيز على السياسة الخارجية مثل ضعف للسياسة الداخلية جعلت “ماكرون” و”أردوغان” يواجهان مشكلات داخلية حادة تهدد استمرارهما بمنصبيهما.
ومما سبق نرى أن العلاقات التركية الأوروبية مرشحة للمزيد من التوتر إثر تزايد فجوة الخلافات في مختلف القضايا الداخلية والخارجية بين أنقرة وعدد من الدول الأوروبية، بيد أن الاتحاد لن يقدم على اتخاذ خطوات أكثر صرامة وعقابية ضد تركيا نظرًا لرغبة دول الاتحاد لاسيما ألمانيا وفرنسا في التركيز حاليا علي ترتيب البيت الداخلي في ظل المشكلات البنيوية التي يواجهها الاتحاد ومنها خروج بريطانيا منه وتصاعد اليمين الاوروبي المتطرف، كما ان الاتحاد يحتاج للتفاهم مع انقرة حول أزمة اللاجئين. ولذا فقد عقدت المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” يوم 24 سبتمبر 2019 لقاءا علي هامش اجتماعات الدورة الـ 74 للجمعية العامة للأمم المتحدة ـمع الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” لبحث استمرار تطبيق اتفاقية اللاجئين بين أوروبا وتركيا، وذلك خشية من تنفيذ الأخير تهديداته بفتح الحدود أمام اللاجئين وإغراق أوروبا بهم، ورغم عدم الإعلان عن نتائج هذا الاجتماع إلا أن المواقف التركية المقبلة ستكشف عنها.
* باحثة وكاتبة مصرية في العلاقات الدبلوماسية الدولية