المصالحة مع القوى العالمية
إن قادة حزب العدالة والتنمية قد بنوا رؤيتهم السياسية على مفهوم “التوافق” الذي يتمثل في المصالحة مع القوى العالمية الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وإسرائيل والمؤسسة العسكرية والقوى المدنية في الداخل وأصحاب الرأسمال الكبار ويبررون سياستهم هذه بأن تجربة انقلاب 28 فبراير (1997م) المريرة أثبتت استحالة الصعود إلى سدة الحكم بـ”عقلية أربكان” التي تتبنى سياسة مستقلة عن الولايات المتحدة والاستقلال عن النظام الاقتصادي العالمي، والطريق الوحيدة لاستمرارية الحكم هو التوافق والمصالحة مع العناصر المذكورة أعلاه، واللافت للنظر في هذا الأمر أنه عندما قرر قادة حزب العدالة والتنمية اتباع سياسة توافقية لم يلبث الإعلاميون المؤيدون للزعيم الإسلامي الراحل “أربكان” أثناء انقلاب 28 فبراير والذي عُرف إعلاميًّا بانقلاب ما بعد الحداثة أن أعلنوا تخليهم عنه، والوقوف إلى جانب حزب العدالة والتنمية الذي انفصل عن “حزب الرفاه” الذي يتزعمه “أربكان”.
تحذير لم ينتبه إليه أحد
ومنذ اليوم الأول الذي أعلن فيه حزب العدالة والتنمية تبنيه مبدأ التوافق وأنا أحاول سواء في عمودي في جريدة “زمان” التركية أو في مناسبات عدة توضيح أن هذه الرؤية تحمل في صميمها كوارث فادحة لتركيا، حيث إن القوى التي يصبو الحزب إلى التوافق معها هي التي تُعتبر السبب الأساسي في المشاكل التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط بما فيها تركيا، ولذا سوف تسعى هذه القوى بعد فترة للتخلص من الحزب وذلك عندما تشعر بانتهاء مصالحها الشخصية معه، لكن لم يُصغِ إليّ أحد في ذلك الوقت بل اتهموني بـ”التخلف العقلي” كـ”أربكان”، وهكذا انطلق كثير من رفقاء دربي في الاتجاه الذي سلكه الحزب الحاكم.
مساندة النظام العالمي
وفي الحقيقة أن هذه الرؤية مغرية جدًّا وتبشر بالوصول إلى سدة الحكم، وفي النهاية أسس الحزب ليحتل مكانه من بين الأحزاب السياسية معلنين عن تبنيهم لخطة “كمال درويش” في المسار الاقتصادي وخارطة طريق الاتحاد الأوروبي في الإصلاح والتعديل، الأمر الذي أدى بالدول الأوروبية إلى الاصطفاف على شكل طوابير ليلتقوا بالسيد “أردوغان” الذي لم ينتخب بعد كنائب في البرلمان التركي، وفي السياق نفسه التقى الرئيس الأمريكي السابق بوش الابن بـ”أردوغان” في مقابلة استغرقت ساعتين في البيت الأبيض، وهكذا أزِفَت ساعة تنفيذ الخطة التي عبر عنها الرئيس الأمريكي الأسبق “بيل كلينتون (BillClinton)” في أمريكا في وقت سابق: “تركيا ستكون لها دور فعّال في القرن الواحد والعشرين”.
وفي الحقيقة أن كلًّا من الولايات المتحدة الأمريكية والغرب يرغبان في ذلك الوقت التوجه نحو الشرق الأقصى حيث يُتوقع أن تقع فيه لاحقًا صراعات كبرى قد تصل إلى حروب على نطاق واسع، وأما الشرق الأوسط فما زال يشكل بالنسبة لهما فراغًا لم يستطيعا بسط سيطرتهما بالكامل عليه، وهذا لا يعني أن هاتين القوتين الكبيرتين تنويان التخلي عن المنطقة، فكان أمام هاتين القوتين نموذجان في هذه الفترة:
وكان النموذج الأول يتمثل في المحافظين الجدد الذين يتبنون استخدام القوة من أجل ترسيخ النظام في المنطقة، وأما النموذج الثاني يتمثل في الديمقراطيين الذين يهدفون إلى تغيير مسار المنطقة عن طريق القوة الناعمة مثل الحركات النسائية، ومؤسسات المجتمع المدني، والديمقراطية، والفلسفة الليبرالية، والتعليم، ومسلسلات التلفزة … إلخ.
وكانت تركيا التي يحكمها العدالة والتنمية تحمل في بنيتها كلا النموذجين في حين أن الأنظمة الأخرى كانت بمثابة الدواء الذي انتهت مدة صلاحيته.
وكانت القوى العالمية -بما في ذلك اللوبيهات اليهودية الخالية من ذات التوجهات الليكودية – لديها ثلاثة مبادئ رئيسية تسعى لتحقيقها في الشرق الأوسط في تلك الفترة:
أولها: أن تكون إسرائيل دولة إقليمية مرسومة الحدود مستقرة الأوضاع.
ثانيها: يتم تأمين مصادر الطاقة والخطوط الناقلة للطاقة.
وأما ثالثها: تُمنَع المجموعات الإسلامية الراديكالية من استلام الحكم.
ولما كانت إعادة تنظيم المنطقة لا تتم إلا عن طريق إيران وتركيا ومصر في تلك الفترة فقد كلفت القوى العالمية تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية بمهمة إعادة تنظيم المنطقة شريطة ألا تدخل في صراع مع إيران، لأن مثل هذا الصراع سيزيد قوة إيران التي اتبعت سياسة العداء ضد الولايات المتحدة وإسرائيل منذ تولي “الخميني” سدة الحكم في البلاد، وبمرور الوقت سوف تتقارب تركيا وإيران، وتسوي مشاكلها مع سورية وتقربها من الغرب ثم تنظيم المنطقة بالتعاون مع مصر.
ولأن دور البطل في هذا السيناريو كان قد أعطي لتركيا، تم الشروع في إعادة ترميم شامل، وفي هذا الإطار؛ تم تحويل وجهة الرأسمال العالمي ناحية تركيا حيث بدأت الاستثمارات تجري نحو تركيا كالسيل، كما تم تعزيز تركيا بدعم خارق في العلاقات الدولية على الصعيد السياسي، وكذلك تم الضغط على “الاتحاد الأوروبي” من أجل تفعيل وتسريع وتيرة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي، وفي السياق نفسه تم دعم تركيا في الداخل للقضاء على العصابات العسكرية التي كانت تقوم بانقلابات عسكرية بصورة منتظمة في تركيا، وبالتالي تم “إيقاف” نظام الوصاية العسكرية، علمًا بأن هذا الدعم لم يكن يستهدف القضاء على الوصاية العسكرية في تركيا بشكل تام، بالإضافة إلى ذلك سعت تركيا لإقامة علاقات اقتصادية وسياسية قوية مع دول الجوار وبالأخص المملكة العربية السعودية ودول الخليج، إلى جانب ذلك تم تأسيس شبه مجالس وزراء مشتركة وفقًا لسياسة “تصفير المشاكل مع دول الجوار”، كما تمت إقامة جسور التواصل المشتركة مع الدول الأفريقية سياسيًّا واقتصاديًّا.
أردوغان يختار أجندته الشخصية
ولكن عندما وصلنا إلى عام (2011م) انقلب كل شيء رأسًا على عقب، إذ إن السياسة الخارجية التركية فشلت في قراءة التحولات التي وقعت في العالم العربي مؤخّرًا، كما أن النجاحات التي أنجزتها تركيا بدعم خارجي أثارت لدى كبار رجال السياسة بالحزب الحاكم الشعور بالاستقلالية والثقة الزائفة بالنفس، وعندما أعلنت تركيا عن مشروع “العثمانيين الجدد” وأعربت عن نيتها في بسط هيمنتها على الشرق الأوسط العربي كما كان في الماضي، والدخول في التنافس مع إيران؛ تحركت القوى العالمية للحيلولة دون ذلك؛ لأن هذا المشروع الذي أعلنه الحزب الحاكم مخالف للشروط المتفق عليها مسبقًا مع الحكومة التركية.
بقلم: علي بولاج
المصدر: مجلة نسمات