شانلي أورفا (زمان التركية) – أوضح والي مدينة شانلي أورفا السابق عز الدين كوتشوك، أن واقعة العثور على الضابطين مقتولين في فراشهما داخل منزلهما في بلدة “جيلان بينار” عام 2015، لم يكن لها أي أبعاد سياسية، الأمر الذي يتناقض مع ما زعمه حزب العدالة والتنمية والرئيس رجب طيب أردوغان الذي اتخذ هذه الحادثة ذريعة لإنهاء مفاوضات السلام مع الأكراد.
كان أردوغان زعم حينها أن حزب العمال الكردستاني هو الذي يقف وراء عملية اغتيال الضابطين في فراشهما، وتذرع بذلك ليطيح طاولة مفاوضات السلام بعدما أمر هو رئيس المخابرات هاكان فيدان بإجرائها في عام 2012 ويطلق المكافحة المسلحة ضد عناصر العمال الكردستاني بعد حوالي 3 سنوات من الهدنة بين الطرفين.
نائبة مدينة هكاري عن حزب الشعوب الديمقراطية ليلى جوفان، أوضحت أنها أجرت اتصالًا هاتفيًا مع والي مدينة شانلي أورفا السابق عز الدين كوتشوك، مشيرة إلى أنه قال لها خلال المكالمة: “الضباط كانوا ثلاثة أصدقاء. وكان هناك خصومة بين واحد مع الآخرين، وقام بقتلهما وذهب، لذلك فإن الواقعة ليست سياسية، وإنما جناية شخصية”.
كما أوضحت أنها أجرت اتصالًا بمدير أمن المدينة وشهدت المكالمة مشادة بينهما بسبب اعتقال بعض المواطنين من بيوتهم في بلدة جيلان بينار التي شهدت واقعة مقتل الضابطين، وتعرضهم للتعذيب من قبل قوات الأمن.
وأشارت إلى أن نص الحوار بينها وبين عز الدين كوتشوك كان كالتالي: “طلبت من والي مدينة أورفا التدخل؛ لأن ما يحدث من مدير الأمن من تعذيب لا يمكن الموافقة عليه ويعتبر جريمة. فرد الوالي: “يا سيدتي النائبة، إذا كان هناك أي تعذيب، سأتصل أنا بمدير الأمن وأعرفه حدوده. بالتأكيد يجب ألا يكون هناك تعذيب. أنا سأتابع الأمر بنفسي”. وأضاف: أود أن تعرفي جيدًا أن واقعة مقتل الضابطين ليس لها أي أبعاد سياسية. الضباط كانوا ثلاثة أصدقاء. وكان هناك خصومة بين واحد مع الآخرين، وقام بقتلهما وذهب، لذلك فإن الواقعة ليست سياسية. لقد كان يملك مفاتيح جميع الأبواب في هذا المبنى”.
“لعبة الإرهاب” بين داعش والعمال الكردستاني
يذكر أن بلدة جيلان بينار التابعة لمدينة شانلي أورفا شهدت، في 22 يوليو/ تموز 2015، واقعة مقتل ضابطين اثنين داخل منزلهما، واستغل أردوغان ونظام حزب العدالة والتنمية الواقعة لإنهاء مفاوضات السلام مع الأكراد والعودة إلى مرحلة الحرب مرة أخرى.
توظيف الإرهاب لإعادة الحكومة المنفردة
يشار إلى أنه في 22 يوليو/ تموز 2015 وقع هجوم انتحاري نسب إلى تنظيم “داعش” الإرهابي، استهدف شبابًا مناصرين للقضية الكردية بمركز ثقافي في بلدة سوروتش الحدودية مع سوريا، وأودى بحياة 32 شخصًا على الأقل. كما عثرت القوات الأمنية في صبيحة هذه الواقعة على شرطيين قتلا في فراشهما ببلدة “جيلان بينار”. ومع أن مظام أردوغان نسب حينها هذا الهجوم إلى العمال الكردستاني بادعاء الانتقام من شرطيين كانا على اتصال بداعش الذي قتل 32 كرديًّا أمس، إلا أن “ديمهات آجيت”، المتحدث باسم اتحاد المجتمعات الكردستاني نفى صحة هذا الادعاء. في حين نوّه الكاتب الكردي المعروف “أميد فرات” بأن الأسلوب المستخدم في قتل الشرطيين ليس من أساليب العمال الكردستاني المعهودة، مؤكدًا أن “الجهة” التي أمرت بتنفيذ الهجوم جعلت بعض المجموعات المرتبطة بالعمال الكردستاني تتبنى هذا الهجوم.
بعد أسبوع من هذين الهجومين المنسوب أحدهما لداعش والآخر للعمال الكردستاني، وعلى وجه التحديد في 28 يوليو/تموز 2015، أعلن أردوغان بشكل رسمي انتهاء مفاوضات السلام الكردية، مما يدل على أنه نجح في اختلاق الذريعة اللازمة للنكوص عن سياسته القديمة ليبدأ بعدها فترة جديدة مليئة بالاشتباكات الدموية.
ومن اللافت أيضا في هذا الصدد ما قاله يالتشين أكدوغان، كبير مستشاري أردوغان لصلاح الدين دميرتاش عقب تحديه أردوغان ودخوله البرلمان وعرقلته تشكيل حكومة منفردة: “إذا قلتم إننا لن نسمح لك بفرض النظام الرئاسي، فإنه لا يمكن أن يحدث غير ما حدث اليوم! فليس بمقدور حزب الشعوب الديمقراطي بعد اليوم إلا أن يصوّر فيلمًا سينيمائيًّّا بعنوان مسيرة السلام الكردية فقط”.
ولما فقد أردوغان دعم الأكراد احتاج إلى موجة قومية ليعوِّض خسارته هذه بالحصول على أصوات القوميين الأتراك، كما عوّض خسارته دعم الليبراليين والديمقراطيين بالتحالف مع أرجنكون التركي والكردي والإسلاميين من قبلُ.
وبعد الإطاحة بطاولة مفاوضات السلام الكردية اتخذ أردوغان قرارًا بالعودة إلى العمليات المسلحة ضد العمال الكردستاني، لكن الفارق هذه المرة أن العمليات الأمنية الجديدة لم تقتصر على المناطق الجبلية فقط وإنما وسع أردوغان نطاقها لتشمل المناطق والبلدات المأهولة بالسكان “المدنيين” من المواطنين الأكراد.
وفي أعقاب عودة النزاع المسلح بين الطرفين مرة أخرى تحولت كل أنحاء تركيا إلى ساحة دماء بسبب الهجمات المنسوبة للعمال الكردستاني والتي حصدت أرواح أكثر من ألف فرد من عناصر الأمن وحوالي 10 آلاف من عناصر العمال الكردستاني، بالإضافة إلى مئات المواطنين المدنيين.
ولا شك أن استئناف أردوغان للعمليات الأمنية وتحويل شرق تركيا إلى ساحة حرب فيما يشبه العقاب الجماعي للأكراد جميعًا بسبب عدم تصويتهم له في انتخابات 7 يونيو/ حزيران السابقة أسهم في ترسيخ الانفصال الذهني والعاطفي لدى الأكراد؛ كما ساعدت هذه العمليات في الوقت نفسه على توجه القوميين بقيادة حزب الحركة القومية إلى دعم حزب العدالة والتنمية.
وفي 10 أكتوبر / تشرين الأول 2015 شهدت العاصمة أنقرة أكبر مجزرة إرهابية دموية على مدى تاريخ تركيا نسبت إلى داعش أيضًا، استهدفت عشرات الآلاف من المشاركين في تظاهرة بعنوان “العمل والسلام والديمقراطية”، مما أدى إلى مقتل أكثر من 110 أشخاص وإصابة المئات، أغلبهم من الأكراد. وكشفت التحقيقات أن منفذ العملية هو المدعو “يونس أمره آلاجوز” شقيق “الشيخ عبد الرحمن آلاجوز” الذي نفذ هجوم سروتش قبل 3 أشهر من هذا الحادث وقتل 32 شابًا كرديًّا أيضًا. لكن زعيم حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرتاش اتهم “الدولة” حينها بالوقوف وراء هذا الهجوم.
كما كشفت وثيقة “سرية للغاية” أعدها مركز الاستخبارات التابع للاتحاد الأوروبي، ونشرها موقع “أحوال تركية”، أن الهجوم الإرهابي الذي وقع بالعاصمة أنقرة عام 2015 وحصد أرواح أكثر من 100 مواطن مدني تم بـ”تكليف خاص” من حكومة حزب العدالة والتنمية نفسها لعناصر داعش.
استعادة الحكومة المنفردة بأصوات القوميين
رغم أن أردوغان هو من أمر بوقف العمليات الأمنية ضد عناصر العمال الكردستاني، لبدء مفاوضات السلام في عام 2012، وهو نفسه الذي استأنف العمليات العسكرية ضدها بعد فقدانه دعم الأكراد في 2015، فإنه حمّل الجيش فاتورة مئات القتلى من المدنيين والعسكريين في هذه الاشتباكات والعمليات الإرهابية، مما أثار استياء القوات المسلحة من هذه المواقف، ودفع قياداتها إلى التصريح مرارًا بأن مسؤولية مفاوضات السلام ونتائجها مسؤولية السلطة السياسية وحدها ولا دخل للجيش فيها، كما ورد سابقا على لسان رئيس الأركان.
آتت “لعبة الإرهاب” بين داعش والعمال الكردستاني أكلها وحققت “المطلوب” منها لحزب العدالة والتنمية وهو توجه أصوات القوميين إلى حزب العدالة والتنمية، فأعلن أردوغان عن انتخابات برلمانية مبكرة في الأول من نوفمبر / تشرين الثاني 2015 واستعاد حزبه تشكيل الحكومة منفردًا على طبق من ذهب بعد أن حصد دعم نصف الناخبين، بفضل أصوات القوميين، وهو ما فعله مجددًا قبل الاستفتاء الشعبي حول النظام الرئاسي حيث عقد تحالفًا مع حزب الحركة القومية، وأطلق أولاً عملية درع الفرات في الأراضي السورية لإثارة موجة قومية جديدة في الداخل، ثم حصل على موافقة الشعب على هذه التعديلات الدستورية بشكل أو بآخر عام 2017، ثم نفذ عملية “غصن الزيتون” العسكرية في شمال سوريا ضد مقاتلي حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي السوري، وأعلن في 18 أبريل/ نيسان 2018 عن انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة في 24 يونيو/ حزيران 2018 استطاع من خلال تحالفه مع القوميين أيضا أن يصبح “رئيس الدولة” في ظل النظام الرئاسي الذي يوسع من صلاحيات الرئيس، ليضمن مستقبله ومستقبل حلفائه في ظل هذه الصلاحيات شبه المطلقة.