بقلم: عبد الله منصور
نعمت تركيا بفترة من الاستقرار السياسي لنحو عقد من الزمان، بدءا مع تولي حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم بتولي عبد لله جول رئاسة الحكومة في عام 2003، ثم انتقل المقعد الأهم في البلاد إلى رئيس حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان بعد رفع حظر المشاركة في الحياة السياسية الذي كان مفروضًا عليه، ليستمر الاستقرار حتى الربع الأخير من عام 2013.
في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2013، تعرض الاستقرار السياسي في البلاد لزلزال متوسط القوة من خلال الكشف عن فضائح الفساد والرشوة التي تورط فيها أربعة وزراء من حكومة حزب العدالة والتنمية، بالإضافة إلى شخصيات مقربة من أردوغان نفسه، ومن بينهم نجله بلال أردوغان. بعدها توالت تبعات الزلزال واحدة تلو الأخرى، وصولًا إلى محاولة انقلاب 15 يوليو/ تموز 2016.
خرج أردوغان وحكومته من محاولة الانقلاب المزعوم سالمين غانمين، فقرر توظيف نتائجها في إجراء تعديلات دستورية لتحويل البلاد من النظام البرلماني إلى نظام رئاسي مع توسيع صلاحياته بعد أن تولى رئاسة الجمهورية، ليصبح الآمر الناهي في البلاد، ويسيطر على السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية.
في يونيو/ حزيران 2018، واجه أردوغان منافسة قوية على منصب رئاسة الجمهورية، أمام مرشح حزب الشعب الجمهوري محرم إنجى، إلا أنه تمكن من أن ينتصر في الانتخابات من خلال اللجوء إلى طوق النجاة حزب الحركة القومية وحليفه دولت بهجلي.
وتيرة تسارع الأحداث كانت أسرع من المتوقع؛ كان في انتظار تركيا اختبار صعب للغاية، وهي انتخابات المحليات في 31 مارس/ آذار من عام 2019، التي خرج منها حزب العدالة والتنمية بخسارة مدوية في العديد من المدن الكبرى، على رأسها العاصمة أنقرة، والمركز السياسي والاقتصادي إسطنبول، وإزمير، وأنطاليا، وأضنة. لم يكن من السهل على أردوغان أن يخسر إسطنبول بالتحديد، التي يسيطر عليها منذ نحو ربع قرن منذ أن تولى رئاسة بلديتها في عام 1994، ومن تبعه من رؤساء للبلدية من حزبه.
قرر أردوغان الضغط على القضاء واللجنة العليا للانتخابات لتعاد الانتخابات على منصب رئاسة بلدية إسطنبول مرة أخرى في 23 يونيو/ حزيران الماضي، ولكن هذه المرة كانت الخسارة فاضحة بفارق قارب مليون صوت، بعد أن كانت في الجولة الأولى 13 ألفًا فقط.
الانشقاقات تهز الحزب الحاكم
خسارة إسطنبول كان لها معانٍ كثيرة، خاصة وأن الخسارة كانت في العديد من البلدات التي سيطر عليها لسنوات طويلة، وبالتحديد بلدية فاتح معقل التيار الإسلامي المؤيد لأردوغان. لم يمر هذا الزلزال مرور الكرام، وإنما كانت تبعاته أقوى منه، ليفاجأ أردوغان ورفاقه بإعلان وزير الاقتصاد الأسبق وأحد مؤسسي الحزب علي باباجان استقالته من الحزب، واتهامه لحزب العدالة والتنمية بالخروج عن مبادئه وقيمه التي أسس عليها، معلنًا تحضيره لتأسيس حزب جديد، ويقف في خلف الكواليس رفيق درب أردوغان رئيس الجمهورية السابق بعد الله جول، الذي أكدت الدائرة المقربة منه أنه يسعى للانتقام من أردوغان بعد أن أقصاه من المشهد السياسي تمامًا.
كان هذا الزلزال قويًا كافيا ليربك المشهد السياسي في أنقرة وداخل كواليس حزب العدالة والتنمية، خاصة وأن باباجان كان النجم الألمع في عصر النهضة الاقتصادية لحزب العدالة والتنمية، وانشقاقه جاء وسط حالة من الغضب العارم في الشارع التركي تجاه أردوغان وحزبه بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية وسيادة القانون يوما بعد يوم، بالرغم من الوعود المتتالية بعودة الأمور لنصابها. وسائل الإعلام الموالية لأردوغان بدأت حملة تشويه مبكرة لباباجان، حتى قبل أن يؤسس حزبه فعليًا؛ فنشرت جريدة “يني شفق” المقربة من حزب العدالة والتنمية على صدر عددها الصادر يوم الجمعة 26 يوليو/ تموز 2019، خبرًا بعنوان “رجل باباجان (محافظ البنك المركزي المُقال) من منع تخفيض الفائدة”.
وسائل الإعلام المقربة من دائرة اتخاذ القرار وكواليس الحزب المترنح تتحدث الآن عن أن إعلان باباجان تأسيس حزبه بشكل رسمي سيتبعه انشقاقات كبيرة في قيادات الحزب، من بينهم بشير أتالاي أحد المقربين للغاية من أردوغان، والذي كان في يوم من الأيام نائبًا له (2011-2014)، كما عمل قبلها وزيرًا للداخلية (2007-2011)، وسعد أرجون الذي شغل منصب وزير العدل في الفترة بين عامي 2011-2013، ونهاد أرجين الذي شغل منصبًا وزاريًا في حكومة أردوغان في الفترة بين عامي 2011-2013، بالإضافة إلى رئيس المحكمة الدستورية السابق هاشم كيليتش الذي حال دون إصدار المحكمة قرارًا بحل حزب العدالة والتنمية في عام 2008.
فوجئ أردوغان بزلزال آخر، وهو نية رئيس الوزراء الأسبق ورفيق دربه أيضًا أحمد داود أوغلو الانشقاق عن الحزب وتأسيس حزب جديد، خاصة وأنه يحظى بشعبية قوية في صفوف التيار الإسلامي المحافظ؛ بل وازدادت الصدمة حدة عندما بدأ الخروج عن صمته، ووجه انتقادات لاذعة وحادة للحزب، كان آخرها أن فترة توليه رئاسة الوزراء (2014-2016 أي فترة بداية ارتباك المشهد السياسي سواء داخليًا أو خارجيًا، وكذلك بداية تدهور الأوضاع الاقتصادية) لم يكن إلا مجرد صورة وأن أردوغان من كان يدير كل شيء، على تعبيره.
من بين الأسماء الأبرز داخل حزب العدالة والتنمية التي تتحدث الكواليس عن نيتها الانشقاق عن الحزب للانضمام للأحزاب الجديد، وزير المالية السابق محمد شيمشاك الذي تتحدث ادعاءات بأنه سينضم لحزب باباجان، والتقى به رئيس الجمهورية ورئيس حزب العدالة والتنمية أردوغان أكثر من مرة لإقناعه بالعدول عن هذه الخطوة. وفي حوار صحفي له أجاب عن سؤال عما إذا كانت هذه الادعاءات صحيحة، قائلا: “سنتحدث في الأمر عندما يحين وقته”، بعدها أكدت الدائرة المقربة من داود أوغلو أنه سينضم لحزبهم.
أردوغان يحاول إظهار عدم قلقه وخوفه من هذه التحركات التي تهدد حزبه، إلا أن تصريحاته المهاجمة لمؤسسي الأحزاب الجديدة كشفت مدى خوفه وفزعه من عواقب الأمر؛ حتى إنه قال في اجتماعه مع رؤساء الحزب في المدن: “لا تكترثوا بهذه التحركات. هؤلاء الخونة سيدفعون ثمن هذا باهظًا”، مهددًا داود أوغلو وجول وباباجان بشكل صريح.
تهديدات أردوغان رد عليها سلجوق أوزداغ، الذي كان في يوم من الأيام أحد نواب رئيس حزب العدالة والتنمية، قائلًا: “لا داعي لأن يستهدفنا بهذا الشكل. ولا داعي لأن يشغل نفسه بنا. لماذا يكون تأسيس حزب سياسي خيانة؟ لقد استخدم حقه الديمقراطي في تأسيس حزبه! منذ متى تحول تأسيس الأحزاب إلى جريمة وخيانة؟”. ويعتبر سلجوق من الأسماء الأبرز المنتظر انضمامها لحزب داود أوغلو في الفترة المقبلة كما تشير الدائرة المقبرة منه.
حزب الحركة القومية الحليف يترنح
بالرغم من انتهاء انتخابات المحليات، التي تحالف فيها حزب العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية اليميني، بخسارة مدوية، إلا أن أردوغان قرر استمرار التحالف، لكن رئيس الحزب القومي دولت بهجلي نفسه بدأ يقلق على منصبه رئيسًا للحزب الذي يسيطر عليه منذ عام 1997، بعد أن أعلن عضو الحزب البارز ندائي سافان ترشحه على منصب رئاسة الحزب، موجهًا انتقادات لاذعة لبهجلي، قائلًا: “المعارضة لا تعني أن تكون تابعًا للحزب الحاكم، كما يفعل السيد بهجلي. وإنما المعارضة تعني أن تكون حزبًا مراقبًا ومحققًا ومسائلا في إجراءات الحكومة. على حزب الحركة القومية ألا يكون درجة في سلم صعود الآخرين للسلطة، وإنما عليه أن يصعد هو نفسه لرأس السلطة. الأحزاب التي تعمل من أجل بقاء الأحزاب الأخرى في السلطة، عليها أن تصفي نفسها، وتنضم إلى الحزب الذي تريد بقاءه في السلطة”.
الخطر لم يقتصر على كرسي دولت بهجلي فقط، وإنما بات الحزب يرى شبح الانشقاقات مرة أخرى. المرة الأولى كانت في أكتوبر/ تشرين الأول 2017، عندما أعلنت القيادية في الحزب ميرال أكشنار الانشقاق عن الحزب وتأسيس حزب قومي جديد، لتقتطع جزءًا من القاعدة الشعبية له في الشارع التركي. هذه المرة، أعلن رفعت سردار، زعيم حركة “تشوبان أتاش”، التي خرجت منها أكشنار أيضًا، اعتزامه تحول الحركة القومية إلى حزب سياسي جديد، ليهدد حزب بهجلي بالمزيد من الانشقاقات المؤلمة.
كما أن المطلعين على كواليس تأسيس حزب باباجان الجديد يشيرون إلى أنه يتفاوض مع عدد من أعضاء الحزب الحاليين والسابقين، من بينهم نائب مدينة سامسون المستقل أرهان أوسطا، الذي فصل من حزب الحركة القومية بسبب معارضته لتحالف حزبه مع حزب أردوغان.
التيار اليساري أيضًا على موعد مع مفاجأة
يبدو أن عام 2019 سيكون عام المفاجئات في الساحة السياسية التركية، أو من الممكن أن نصفها بعدوى الانشقاقات؛ حزب الشعب الجمهوري المعارض المنتمي للتيار اليساري أيضًا يبدو أنه على موعد مع حزب وليد بين صفوفه.
الكواليس الخاصة بالحزب تتحدث عن تحركات سرية داخلية لتأسيس حزب جديد؛ وأن عضو الحزب المفصول ونائبه في البرلمان عن مدينة أرداهان، أوزتُرك يلماز، هو المتحدث الرسمي باسم الحزب الجديد.
يلماز أوضح أن الحزب الجديد سيكون تحت مظلة التيار اليساري، قريبًا قليلًا إلى الوسط المعتدل، مؤكدًا أنه سيركز على مبادئ الديمقراطية لجميع طوائف المجتمع.
وقال يلماز: “نحن الآن نجري تحركات كثيفة. لا علاقة لنا بالأخبار المتداولة في الإعلام. نحن نركز في عملنا. عندما نظهر أمام الأمة، سيدرك الجميع اختلافنا”.
أزمات اقتصادية
الارتباك في المشهد السياسي كان له تبعاته على الأوضاع الاقتصادية المتأزمة في البلاد منذ أشهر… الوضع ازداد صعوبة خاصة بعد إقالة أردوغان محافظ البنك المركزي مراد تشاتين قايا، بسبب عدم تنفيذ التعليمات بتخفيض معدل الفائدة، كما وجهه أردوغان، القرار انعكس بسرعة كبيرة على الليرة التركية المتدهورة لتنخفض 20 قرشًا أمام الدولار الأمريكي في ساعات قليلة. وبالفعل عين أردوغان نائب المحافظ السابق مراد أويصال محافظًا للبنك، ليقرر تخفيضًا بنحو 4.25% على معدل الفائدة في اجتماع لجنة السياسات المالية الذي عقد في 25 يوليو/ تموز الجاري، لتتراجع الفائدة من 24% إلى 19.75%.
عقوبات أمريكية وأوروبية
في 12 يوليو/ تموز الجاري، بدأت أنقرة استلام الدفعة الأولى من منظومة الدفاع الجوي الروسية S-400، بالرغم من التهديدات الأمريكية بفرض عقوبات عليها. أردوغان قرر التغطية على ارتباكه الداخلي بمزيد من التصريحات الاستفزازية في وجه الإدارة الأمريكية وأنه يسعى للانتقال إلى التصنيع العسكري المشترك للمنظومة مع روسيا. وعلى الجانب الآخر كانت التصريحات الروسية تزيد المشهد سخونة من خلال التلويح بإمكانية التصنيع المشترك مع تركيا، بالإضافة إلى التفكير في بيعها طائرات حربية متطورة، تعويضًا لتركيا عن عقوبات واشنطن التي أوقفت مشاركة تركيا في برنامج إنتاج الطائرة F-35 الأمريكية الأحدث، ومنحت طياريها وفرق الدعم الفني مهلة حتى نهاية شهر يوليو/ تموز الجاري لمغادرة البلاد.
المشهد السياسي الخارجي الملتهب، لم يقتصر على الأزمة مع الولايات المتحدة الأمريكية فقط، وإنما بدأت العلاقات بين أنقرة والاتحاد الأوروبي تشهد توترًا على خلفية إصرار تركيا على التنقيب على الغاز الطبيعي في محيط جزيرة قبرص المتنازع عليها، بالرغم من التحذيرات الأوروبية، التي ردت بتعليق الاجتماعات رفيعة المستوى الخاصة باتفاقية النقل الجوي الحر بين تركيا ودول الاتحاد، ووقف المساعدات المالية التي تحصل عليها ضمن برنامج تأهيلها لمفاوضات الانضمام للاتحاد، وأخيرًا تعليق بنك الاستثمار الأوروبي تقديم القروض للمؤسسات والشركات داخل تركيا.
تفريغ الغضب
القيادة السياسية في تركيا لم يعد أمامها العديد من الخيارات، خاصة مع زيادة الضغط عليها اقتصاديًا وسياسيًا سواء داخل البلاد أو خارجها؛ لذلك تحاول تفريغ غضبها في اتجاهات أخرى.
بدأ الحديث ينتقل إلى ضرورة إقامة المنطقة العازلة في شمال سوريا، خاصة مع زيارة مبعوث الولايات المتحدة الأمريكية جيميس جيفيري لأنقرة قبل أيام، ولقائه بوزير الدفاع التركي خلوصي أكار، ومن بعده قيادات بجيش سوريا الديمقراطية. لتصدر تصريحات من وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو عن أن الإدارة الأمريكية تتلاعب بأنقرة فيما يتعلق بهذا الملف.
الجارة العراق أيضًا، تشهد غضبًا في وجه أردوغان، ظهر في أزمة الحظر على بعض المنتجات التركية مثل البيض، والهجوم على القنصلية التركية في أربيل عاصمة إقليم كردستان شمال العراق، مما أسفر عن مقتل نائب القنصل التركي. في المقابل بدأت وسائل الإعلام التركية الحديث عن وجود استعدادات داخل الجيش التركي لشن عملية عسكرية “خاصة” في شمال العراق.
وفي السياق نفسه ترأس رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان اجتماع مجلس الأمن القومي الذي عقد يوم الثلاثاء 30 يوليو/ تموز، وأصدر قرارًا بإقامة “ممر آمن” تحت اسم “ممر السلام” على الحدود مع سوريا، بعد أن فشلت مفاوضاته مع الجانب الأمريكي لإقامة منطقة عازلة. وما مضى وقت حتى أعلن الطرفان الأمريكي والتركي توصلهما إلى ما سمياه “الاتفاق على إقامة مركز عمليات مشترك في شمال سوريا”.
كل هذه الأحداث السريعة وقت خلال أقل من شهر، مما يدل على الأيام القادمة حبلى لكنير من المفلجئات في الداخل التركي وخارجه.