تقرير: محمد عبيد الله
أنقرة (زمان التركية) – ساق رئيس أركان الجيش التركي الأسبق حسين كيفريك أوغلو (1998-2002) اعترافًا مثيرًا للغاية حول ما يسمى في تركيا تنظيم “أرجنكون” أو “الدولة العميقة”، التي أغلق الرئيس رجب طيب أردوغان كل التحقيقات الأمنية والقضائية الرامية إلى الكشف عن ذلك التنظيم الأخطبوطي، ليطلق بعد فضائح الفساد في 2013، والانقلاب الفاشل في 2016، حملة شعواء أسفرت عن تصفية كل “الديمقراطيين” أو “غير المرغوبين فيهم”، بالتهمة الجاهزة “الانتماء إلى منظمة فتح الله جولن“.
حسين كيفريك أوغلو اشتهر بتصريحاته المثيرة للجدل أثناء الانقلاب العسكري “الناعم” في 28 فبراير/ شباط 1997، الذي استهدف الحكومة برئاسة الراحل نجم الدين أربكان الذي خضع لضغوطات مجموعة عسكرية صغيرة في الحجم كبيرة في النفوذ مرتبطة بالدولة العميقة، ووافق على تطبيق ما سمي حينها “قوانين مكافحة الرجعية الدينية” التي كانت أضرارها على المجتمع المدني أكثر بكثير من أضرارها التي لحقت بالحكومة.
وكان الجنرال كيفريك أوغلو أكد أن “قوانين أو قرارات مكافحة الرجعية الدينية سيستمر تطبيقها في تركيا ألف سنة!”، في حين أعلن زعيم حزب الوطن اليساري العلماني المتطرف “دوغو برينجك”، في وقت لاحق، أنه من حرر نصوص 11 مادة من مواد تلك القوانين أثناء ذلك الانقلاب، ووقع عليها رئيس الحكومة آنذاك نجم الدين أربكان بإرادته المحضة، على حد قوله.
الدولة العميقة تجتمع مرتين في شهر
لقد عاد الجنرال حسين كيفريك أوغلو مرة أخرى إلى الواجهة، ليثير الجدل مجددًا من خلال تصريحاته التي أدلى بها لمجلة “الاتحاد” التي تصدرها جمعية الضباط المتقاعدين الأتراك. حيث اعترف بأن الدولة العميقة لا تزال نشطة في تركيا، وأن أعضاءها يجتمعون مرة أو مرتين كل شهر في اجتماع يسمى بـ”مجلس الأكاديميين (Encümen-i Daniş)، الذي يعتبر الهيئة الإدارية العليا لهذا التنظيم.
وأضاف كيفريك أوغلو الذي كان الاسم الأبرز للانقلاب الأبيض في 1997: “لدينا مجموعة خاصة بنا تعرف باسم أنجومان دانيش، نجتمع مع أعضائها مرة كل خمسة عشر يومًا لمناقشة قضايا الساعة”، موضحًا أن المجموعة تضمّ جنرالات سبق أن شغلوا مناصب رفيعة في المؤسسة العسكرية، وبرلمانيين سابقين، ووزراء، وأكاديميين، وولاة المدن، ومدراء الأمن.
لفت كيفريك أوغلو إلى أن المجموعة تجري مباحثات في تلك الاجتماعات، ثم تسجّل الملاحظات والاقتراحات التي تتوصّل إليها لعرضها على صناع القرار في تركيا، رغم أنه ليس لها قيد رسمي أو صفة قانونية داخل الدولة، وإنما تجتمع وتسيِّر أعمالها بشكل سري، ولا تشارك الموضوعات التي يتم مناقشتها في الاجتماع مع أي مؤسسة أو طرف ثالث. وأشار إلى أن المجموعة كانت تقدم نتائج الاجتماعات إلى الحكومة مكتوبة، ثم استدرك قائلاً: “لكن لما لاحظنا مع مرور الوقت أن الحكومة (أردوغان) لا تبالي بما نرسله من ملاحظات ومقترحات، وتلقيها في القمامة، توقفنا عن إرسالها مرة أخرى”.
كما تطرق كيفريك أوغلو إلى خلفية مقولته الشهيرة “قرارات 28 فبراير/ شباط 1997 الخاصة بمكافحة الرجعية الدينية سيستمر تطبيقها ألف عام”، قائلاً: “كان صحفيون سألوا رئيس الوزراء في ذلك الوقت بولنت أجاويد عما إذا كانت مدة قرارات عملية 28 شباط (الانقلابية) انتهت أم لا. وهو ردّ عليهم قائلاً: لقد أغلقنا ملف 28 فبراير/ شباط! وبعد هذه التصريحات بأيام، انعقد اجتماع لمجلس الأمن القومي، وأنا بدوري قلت للحضور تعليقًا على تصريحات أجاويد: قرارات 28 فبراير/ شباط لم تصدر من القوات المسلحة، وإنما صدرت من مجلس الأمن القومي. جاءت هذه القرارات في وجه الأنشطة الرجعية المخالفة للمادة الثالثة من الدستور. لذا ستستمر قرارات 28 فبراير/ شباط 1997 ما دامت الأنشطة الرجعية مستمرة. فلو استمرت الأنشطة الرجعية ألف عام فإن قرارات 28 فبراير/ شباط ستستمر ألف عام أيضًا”.
وأشار كيفريك أوغلو إلى أن اسمه أُدرج بناءً على تصريحاته المذكورة ضمن قضية 28 فبراير 1997، التي فتحتها النيابة العامة في أيلول 2013 بتهمة الانقلاب على الحكومة، ثم استدرك بقوله: “لكن عندما كشفتُ للقضاة عن خلفية وسياق تصريحاتي تراجعوا عن اتهامي بالمشاركة في أحداث 28 فيراير. ولما سألوني عما إذا كانت تلك الأحداث انقلابًا عسكريًا أم لا أكدتُ لهم أنه لا يمكن وصف ما حدث في ذلك الوقت بالانقلاب”.
هدف انقلاب 1997 الأبيض
أدلى محمد علي بيراند الراحل، أحد أكبر الصحفيين الأتراك، والذي أشرف على فيلم وثائقي عن انقلاب 1997، بتصريحات مثيرة للانتباه، لصحيفة “حريت” في 11 فبراير/ شباط 2012، زعم فيها أن “عملية 28 فبراير 1997 مهّدت الطريق أمام أردوغان ليصل إلى سدة الحكم في 2002.. ومع أن العسكريين الانقلابيين لم يخطّطوا لصعود أردوغان إلى الحكم بشكل مباشر، غير أن تدخّلهم في العملية السياسية بدعوى الحفاظ على العلمانية أخلّ بكل الموازين السياسية القائمة في البلاد”.
لكن الصورة تبلورت أكثر جلاء بتصريحات لاحقة صدرت من أسماء ذات صلة بانقلاب 1997. فبعد حوالي 20 عامًا على انقلاب 1997، خرج “دورسون جيجك”، رئيس دائرة “الحرب النفسية” في الجيش سابقًا، وأحد المتهمين في إطار قضية أرجنكون، وصرّح لصحيفة (حريت) في شهر مارس/آذار من عام 2016 أن “الهدف الأساسي من انقلاب 28 فبراير/شباط 1997 كان الرجعيةَ الدينية، والمقصود بها 80% حركة الخدمة، وباقي النسبة للحركات والجماعات الدينية الأخرى”.
ووما كتبه زعيم حزب الوطن برينجك، من أكبر المحرّضين على انقلاب 1997، بصحيفة “آيدينليك” في 25 يناير/كانون الثاني 2017 يؤكد ما قاله الجنرال جيجك: “عملية 28 فبراير/ شباط (الانقلابية) استهدفت تحالف تنظيم فتح الله كولن وحكومة تيشلّر (الائتلافية مع أربكان)”. وكذلك يصب في هذا الاتجاه أيضًا تصريحات نائب رئيس حزب الوطن نُصرتْ سنيم حيث قال: “قرارات 28 فبراير/ شباط (الانقلابية) لم تتخذ ضد نجم الدين أربكان. بل كان هدفها الحقيقي هو تانسو تيشلّر (زعيمة حزب الطريق القويم شريكة الحكومة الائتلافية مع أربكان) وحليفها تنظيم فتح الله كولن”، على حد قوله.
وسبق أن قال برينجك في تصريحات أدلى بها لمجلة “نقطة” الإخبارية الأسبوعية في عام 2015 إن الرئيس أردوغان تم الاستيلاء عليه من جانب “القوى الوطنية”. وهو يقصد بعبارة “القوى الوطنية” قادة وأنصار التيار القومي العلماني المتشدد (Ulusalcılar)، الذين ينتمون إلى حزبه الوطن (حزب العمال القديم) بصورة أساسية، والذين ينصبون أنفسهم ورثة مصطفى كمال أتاتورك؛ مؤسس الجمهورية التركية الحديثة.
تصفية المجتمع والجيش بحجة “جولن”
وكذلك أعلن برينجك، في حوارٍ أجراه معه موقع “روتا” الإخباري في عام 2015 أيضًا، أنهم من وضعوا “مشروع القضاء على حركة الخدمة” وليس حزب العدالة والرئيس أردوغان، وأكد أنهم يستهدفون القضاء على كل الجماعات الإسلامية أصلاً، لكن أولويتهم هي القضاء على حركة الخدمة. وشدّد على أن العمليات الأمنية، التي انطلقت عقب فضائح الفساد والرشوة في 2013، البيروقراطيين “النزهاء” في شتى المؤسسات، بتهمة الانتماء إلى “الكيان الموازي”، أو “حركة الخدمة”، يتمّ تنفيذها في إطار البرنامج الذي وضعوه. وأفاد بأن الرئيس أردوغان انضمّ إلى صفّه في مسألة فتح الله جولن، وأن أردوغان هو الذي تبنّى برنامجهم في هذا الصدد، وليسوا هم من ذهبوا إليه وتبنوا برنامجه.
برينجك الذي كان لعب دورًا مهمًّا في انقلاب 1997 الأبيض واعترف بأن هدفه كان القضاء على حركة الخدمة، ولعب دورًا مشابهًا له أثناء ما يسمى “الانقلاب الفاشل”، بحسب الرواية الرسمية، و”الانقلاب المدبر” بحسب المعارضة أيضًا، أكد في مقال نشرته صحيفة “آيدينليك” في 25 يناير/كانون الثاني 2017 أن “تركيا عادت بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016 إلى برنامج عملية 28 فبراير/ شباط (الانقلابية) عقب تعرضها للانقطاع”.
وهو يعني بعبارة “بعد محاولة الانقلاب الفاشلة” حركة التصفية الشاملة التي انطلقت ضد غير المرغوبين فيهم في صفوف الجيش والأمن والقضاء وكل فصائل الحياة المدنية، بالحجة ذاتها. والمثير أن برينجك اعترف بشكل صريح أنهم من أعدوا قوائم الأسماء التي قام أردوغان بتصفيتها بعد محاولة الانقلاب، مؤكدًا خلال مؤتمر صحفي في إيران أنهم تمكنوا من تسفية حوالي 30 ألف جندي موالٍ لحلف الناتو بتهمة الانتماء إلى منظمة جولن.
وكان رئيس الأركان العامة السابق “إيلكار باشبوغ” الذي سبق أن سجن في إطار قضية أرجنكون قال: “أردوغان كان أفضل شخصية لمكافحة تنظيم فتح الله كولن، لولاه لما قطعنا شوطًا بعيدًا في هذا الصدد”. في حين فسّر سبب ذلك الكاتب الصحفي من جريدة “آيدينليك” أيضًا صباح الدين أونكبار بقوله: “بغضّ النظر عن حبكم أو كراهيتكم للرجل، فإن أردوغان كان الترياق الشافي لسمّ تنظيم فتح الله كولن… ولا يمكن لأحد إطلاقًا أن يحل محله في هذا الأمر. تخيلوا أن الآلاف من النساء المحجبات من هذا التنظيم قابعات في السجون! لو لم يكن أردوغانُ الحاكمَ في تركيا اليوم لكانت هناك دعاية بأن هذه الخطوة هدفها معاقبة النساء المحجبات. لذا فإن الطريقة التي يتبعها أردوغان مهمة للغاية للنجاح في تصفية تنظيم كولن!”.
أردوغان والدولة العميقة
على الرغم من تفاخره سنوات عديدة بدعمه الصارخ لتحقيقات الدولة العميقة / أرجنكون، إلا أنه بعد ظهور فضائح الفساد والرشوة أنكر وجود هذه الدولة أو التنظيم، مدعيًا أن حركة الخدمة دبرت مؤامرة ضد ضباط أرجنكون، وألصقت بهم تهمة الانقلاب وهم براءاء عن ذلك، ليطلق سراح جميع المعتقلين منهم (حوالي 350 ضابطًا برتب مختلفة، بالإضافة إلى مدنيين). ومن ثم قدم هذه الحركة مسؤولة عن كل الجرائم البشعة التي كانت محسوبة على أعضاء الدولة العميقة، إلا أن الرأي العام لم يقتنع أبدًا بهذه الأطروحة في البداية على الرغم من تسخير آلة الإعلام العملاقة لذلك وتصفية الإعلام المعارض.
وكان جنرالات انقلاب 1997 من تنظيم أرجنكون ضغطوا على الحكومة في عام 2006 لكي توافق على مشروع قانون لإعلان حركة الخدمة “منظمة إرهابية غير مسلحة”، غير أن أردوغان منع صدور هذا القانون قائلاً: “هل يمكن منظمة إرهابية غير مسلحة؟”. لكن المفارقة أن إعلان حركة الخدمة تنظيمًا إرهابيًّا تحقق على يد أردوغان بعد عشر سنوات من رفضه ذلك، عقب محاولة الانقلاب التي تدل كل الوثائق والمستندات التي تتكشف يوميا أنها دُبّرت من أجل تصفية هذه الحركة، إلى جانب الجيش والمجتمع المدني، ليقعا مجددًا تحت رحمة تنظيم أرجنكون كما كان سابقًا.