تقرير: محمد عبيد الله
إسطنبول (زمان التركية) – أدلى رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داود أوغلو يوم الخميس الماضي بتصريحات صادمة في قضايا مختلفة، أبرزها كان فيما يتعلق بعملية إقالته من منصب رئيس الوزراء في مايو 2016، حيث قال: “كان يجب إبعادي من رئاسة الوزراء من أجل تنفيذ سيناريوهات من قبيل انقلاب 15 تموز 2016، وتحقيق نقل تركيا من النظام البرلماني إلى نظام رئاسي مغلوط”.
https://twitter.com/KararHaber/status/1151760396610613248?s=20
جاءت تصريحات داود أوغلو في حوار مع ثلاثة صحفيين معروفين في تركيا، وهم إسماعيل صايماز وعاكف بكي وياوز أوغهان، عبر قناةٍ على يوتيوب، نظرًا لأن الإعلام التركي بشقيه الرسمي وغير الرسمي يفرض حظرًا شبه كامل على أي صوت معارض أو صوت من داخل الحزب الحاكم ينتقد ممارسات الرئيس أردوغان، مثل داود أوغلو وويزر الاقتصاد الأسبق علي باباجان الذي استقال من حزبه مؤخرًا.
تصريحات داود أوغلو، الذي ترأس الحكومة وحزب العدالة والتنمية بين عامي 2014 و2016، سلّطت الأضواء على أهمّ الأحداث التي شهدتها تركيا منذ عام 2016، على وجه الخصوص، وكشفت الستار عن خلفيات كثير منها، حيث أكد أن الرئيس أردوغان طالبه، من خلال اللجنة العليا للإدارة واتخاذ القرار بالحزب، أن يبدو في صورة “رئيس الوزراء دون أن يمارس سلطاته وصلاحياته”، بمعنى أنه خيّره بين أن يكون “دمية” ينفذ فقط الأوامر الصادرة منه أو الإقالة من منصب رئيس الوزراء.
وأعاد داود أوغلو للأذهان اضطراره إلى إعلان استقالته من منصبه في مايو 2016، عقب بيانٍ وجه له عديدًا من الاتهامات، بينها “العمالة لصالح ألمانيا”، نشرته “مجموعة البجع” (بليكان)، التي يترأسها “سرهاد ألبيراق”، شقيق وزير الخزانة والمالية “برات ألبيراق”، صهر أردوغان، ويتولى الصحفي صهيب أويوت الشؤون التنسيقية لها، في حين تتولى زوجته الصحفية هلال كابلان آلييتها الداخلية، بحسب اعترافات عضو سابق في هذه المجموعة.
ومن اللافت أن داود أوغلو وصف لأول مرة مجموعة البجع هذه بـ”العصابة”، ثم علّق عليها بقوله: “لقد كنت أظنّها في البداية مجموعة مصلحية طامعة مكونة من عدة أشخاص، لكن تبين لي مع مرور الوقت أن وراءها آلية أكبر وأعمق”، دون الإشارة إلى الرئيس أردوغان بشكل مباشر.
بل تحدث داود أوغلو أكثر من ذلك عندما أشار إلى التحالف الذي عقده الرئيس أردوغان مع كل من زعيم حزب الوطن دوغو برينجك، الذي يعتبر من أهمّ قادة تنظيم “أرجنكون” الإجرامي، وزعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي، حيث لمّح إلى أن هذا التحالف مَنْ يقف وراء المرحلة التي دفعته إلى إعلان استقالته من رئاسة الحكومة، إلى جانب مجوعة البجع، مستشهدًا على ذلك بما قاله برينجك قبل نحو أسبوع مستهدفًا إياه: ” أحمد داود أوغلو وعبد الله جول وعلي باباجان.. هؤلاء يشكلون الذراع السياسية لمنظمة فتح الله جولن”، على حد تعبيره.
وتطرق داود أوغلو إلى أسباب خضوعه لضغوطات أردوغان المباشرة وغير المباشرة من أجل التخلي عن رئاسة كل من الحكومة وحزب العدالة والتنمية قائلاً: “لو لم أترك منصب رئيس الوزراء بعد بيان هذه المجموعة، وقررت التوجه لمؤتمر عام لاختيار رئيس جديد للحزب، لتعرض حزبنا لانقسامات داخلية، وهو الأمر الذي لم أرغب فيه. طلبوا مني أن أكون رئيس وزراء هزيل الأداء ومنزوع السلطات والصلاحيات، وهذا كان مخالفًا لطبعي، الأمر الذي قادني إلى الاستقالة من منصبي”.
وذكر داود أوغلو أنه كان يدعم نظامًا برلمانيًّا قويًّا يمثّل كل التيارات السياسية ويحمل تركيا إلى آفاق المستقبل، وأنه عرض على أردوغان ترسيخ وتدعيم هذا النظام بدلاً من البحث عن أنظمة أخرى، ثم كشف عن السبب الحقيقي الذي دفع أردوغان وحلفائه إلى إقالته من رئاسة الوزراء قائلاً: “كان يجب إبعادي من رئاسة الوزراء من أجل تنفيذ سيناريوهات من قبيل انقلاب 15 تموز 2016، والدفع بالبلاد إلى انتخابات متتالية، وتحقيق نقل تركيا من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي المغلوط.. والدفع بالبلاد في نهاية المطاف إلى أحضان تحالفات علنية وسرية..”.
وكشف داود أوغلو المقصود من التحالفات السرية قائلاً: “لا تظنوا أن مجموعة البجع هي التي تقف وحدها وراء عملية القتل المعنوي التي تعرضتها لها بدهف إبعادي من وظيفتي، وإنما فريق الحزب الذي لا تتجاوز نسبة تأييده الشعبي 1%، بل أقل بكثير من ذلك، هم الذين أطلقوا وأداروا هذه العملية ضدي”، في إشارة منه إلى زعيم حزب الوطن دوغو بريجك، الذي اتهمه مؤخرًا بأنه أحد الأذرع السياسية لـ”منظمة فتح الله جولن”.
جدير بالذكر أن ناجيهان آلتشي، الصحفية المقربة من السلطة، أدلت مؤخرًا بتعليق مثير للجدل، حيث قالت: “إن تحالفًا سريًّا، يضم الزعيم اليساري دوغو برينجك وزعيم حزب الحركة القويمة دولت بهجلي، إلى جانب الرئيس أردوغان، يتولى حكم تركيا”.
تصريحات داود أوغلو هذه، التي من شأنها أن تساعد الرأي العام في الاطلاع على خلفيات وخبايا ما سماه أردوغان “الانقلاب الفاشل”، وما سمته المعارضة “الانقلاب المدبر”، أعادت للأذهان التغريدات التي نشرها رئيس تحرير موقع خبردار، الصحفي المخضرم سعيد صفا في عام 2017، حيث قال فيها: “عندما نتمكن يومًا من الحديث عن خلفيات خطة انقلاب 15 تموز 2016، والكشف عن أنه كان انقلابًا مدبرًا، فإننا سنعتبر تاريخ إقالة أحمد داود أوغلو من منصب رئاسة الوزراء ميلادًا لهذا الانقلاب”.
وتابع صفا الذي يتمتع بعلاقات وطيدة مع ممثلي التيار الإسلامي في تركيا، ويطلع على كواليس حزب العدالة والتنمية قائلاً: “لو كان داود أوغلو ظلّ رئيس الوزراء لاطّلع بشكل أو بآخر على خطة “الانقلاب المدبر”، ومنع تنفيذها مهما كلف الأمر.. كان (أردوغان) بحاجة إلى رئيس وزراء مثل بن علي يلدريم، الذي لا يفهم من مجريات الأحداث، وإن علم بالخطة فيما بعد لا يستاء من ذلك، من أجل تنفيذ هذا الانقلاب”
تصريحات داود أوغلو اللاحقة سلّطت مزيدًا من الأضواء على حقيقة ما حدث قبيل الانقلاب الفاشل أو المدبر الذي فتح المجال أمام التدخل العسكري في سوريا، حيث أعلن أنه كان يشاطر الفكر ذاته مع أردوغان حول ضرورة التدخل العسكري في سوريا – انطلاقًا من أسباب مختلفة -، ثم أضاف قائلاً: “عناصر الجيش المرتبطة بمنظمة فتح جولن (حركة الخدمة) كانوا يعارضون التدخل العسكري في سوريا ورفضوا أمرنا في هذا الصدد.. بالإضافة إلى وجود رفض دولي لمثل هذا التدخل”.
صحيح أن ملهم حركة الخدمة فتح الله جولن كان يعارض منذ البداية انتقال الإدارة في سوريا عبر أي ثورة عشوائية غير معروفة نتائجها، تحت أي غطاء كان، ويدعم علاقات تركيا السلمية والاقتصادية مع دمشق، ويدعو إلى انتقال تدريجي إلى النظام الديمقراطي فيها، كما حدث في تركيا، لكن ما قاله داود أوغلو من أن “عناصر الجيش المرتبطة بمنظمة فتح جولن (حركة الخدمة) كانوا يعارضون التدخل العسكري في سوريا” لا تعكس الصورة بكاملها، ذلك لأن الاعتراض على التدخل العسكري في سوريا لم يكن مقتصرًا على من يُتّهمون اليوم بالانتماء إلى منظمة فتح الله جولن، بل إنه كان رأي العسكر كمؤسسة، وذلك بدليل أنه لما زادت ضغوطات أردوغان على الجيش للتدخل العسكري في الأزمة السورية رفض رئيس أركان ذلك الوقت “خلوصي أكار” ذلك بصورة قاطعة في فبراير/ شباط 2016، أي قبل 5 أشهر من الانقلاب، معلنًا استحالة هذا الأمر ما لم يكن هناك قرار صادر من الأمم المتحدة.
وكان الجنرال آكين أوزتورك، قائد القوات الجوية وعضو مجلس الشورى العسكري سابقاً، المتهم بأنه “رقم أول” للانقلاب المزعوم، على رأس القادة المعارضين للتدخل العسكري في سوريا، حيث أعلن أنه قال قبل شهور من الانقلاب: “لن أسمح بدخول جنودي في مغامرة سوريا ولن أسمح بتقسيم تركيا.. وإذا ما أعلنوني يومًا خائنًا للوطن فاعلموا أنهم سيقحمون جيشنا في سوريا”.
ومع أن رئيس الأركان خلوصي أكار أعلن في البداية أن الجيش التركي لن يدخل في سوريا ما لم يكن هناك قرار من الأمم المحدة، إلا أن الجيش أطلق عملياته على الأرضي السورية في عهده، بعد تصفية كل القادة المعاضين لذلك، بحجة الانقلاب في 15 يوليو 2016، لذلك يقول الجنودُ المتهمون بتدبير محاولة الانقلاب إن خلوصي أكار، الذي تسلمّ منصب وزير الدفاع فيما بعد، تواطأ مع السلطة السياسية بقيادة أردوغان ودبّر انقلابًا مصممًا على الفشل، من أجل تأسيس “النظام الرئاسي”، الذي يقول داود أوغلو إنه كان يجب تصفيته من أجل تحقيق ذلك.
كما أعرب داود أوغلو عن استيائه من تحميله الأخطاء المرتكبة في سياسة تركيا الخاصة بسوريا، ووصفه بـ”غير الأخلاقي”، معلنًا أنه مستعد لممارسة النقد الذاتي في هذا الصدد، واستدرك قائلا: “لكن سياسة سوريا تشكّلت في ضوء القرارات المشتركة التي اتخذها كل من وزارة الخارجية ومجلس الوزراء، ورئاسة الأركان، والمخابرات الوطنية، ورئيس الوزراء ورئيس الجمهورية”، على حد تعبيره.
كما نوّه بأن مقولة “سنسقط الأسد خلال أشهر، وسنؤدي صلاة الجمعة في الجامع الأموي”، لا تعود إليه، وأضاف قائلاً: “الجميع يعرف من قالها حينها”، في إشارة منه إلى أردوغان.
وأكد داود أوغلو أنه واصل، بعد استقالته من منصبه، تقديم انتقاداته وآراءه للرئيس أردوغان حول النظام السياسي الجديد وغياب حرية التفكير والقانون والدستور، والأضرار التي لحقت بحزب العدالة والتنمية جراء تحالفه مع حزب الحركة القومية، لكنه شدّد على أن نصائحه لم تجدِ نفعًا، بل تفاقمت الأوضاع والمشاكل بعد الانتقال إلى النظام الرئاسي عقب انقلاب 2016، الأمر الذي دفعه إلى اتخاذ قرار بالتحدث إلى الرأي العام بشكل صريح، بعدما يئس من أردوغان ولاحظ انهيار الهيكل المؤسسي لحزبه.
هذا ويشير مراقبون إلى أن داود أوغلو مع أنه يفكر في تأسيس حزب جديد إلا أنه يفضّل البقاء في حزب العدالة والتنمية حتى حين، حتى يتمكن من التأثير في نواب العدالة والتنمية وقاعدته الشعبية، لكنه يتجنّب استهداف الرئيس أردوغان في تصريحاته بشكل مباشر مخافة التعرض لحملة تشويه تقضي على كل نفوذه داخل الحزب وقاعدته.