تقرير: ياوز أجار
أنقرة (زمان التركية) – قال فيكتور زولوتوف، قائد قوات الحرس الوطني الروسي “الخبير” في قمع الأحداث المجتمعية، إنه أجرى زيارة لما يسمى في تركيا بـ”غرفة الكوزميك” السرية في مقر رئاسة الأركان الواقعة في العاصمة أنقرة، وهي بمثابة الصندوق الأسود الذي يحتوي على كل ملفات وأسرار الجيش والدولة التركية.
وخطورة الأمر تكمن في أن هذه الغرفة التي تتضمن كل الأسرار الخاصة بما أطلق عليه إعلاميًّا “الدولة العميقة في تركيا”، لا تفتح إلا لعدد محدود جدا من كبار القادة العسكريين، ولا يمكن للمدنيين الدخول إليها، بما فيهم الرؤساء ورؤساء الوزراء.
وأوضح زولوتوف أنه تفقد نظام جمع المعلومات الخاصة بالأحداث الجارية في تركيا والإمكانات والقدرات التي تتمتع بها المؤسسة أثناء إدارة الوحدات العسكرية والقوات الخاصة.
وخلال حديثه مع وكالة سبوتنيك الروسية، ذكر زولوتوف في إجابته عن سؤال حول الهدف من زيارته إلى تركيا أنه توجد مؤسسات معادلة تؤدي مهام ووظائف الحرس الوطني الروسي في العديد من بقاع العالم، مشيرًا إلى إجرائه عددًا من اللقاءات المثمرة مع مسؤولي وزارة الداخلية وقوات الدرك أثناء زيارته إلى تركيا، وعلى رأسهم وزير الداخلية التركي سليمان صويلو، وقائد قوات الدرك التركية عارف شتين.
وأفاد زولوتوف أنه شاهد المراحل التي مرت بها عملية تشكيل وحدات خاصة في تركيا، وأنه يتوجب على القوات الخاصة التركية حل المشكلات الأمنية التي تعاني منها على نطاق واسع، مثلما فعل الحرس الوطني الروسي، مضيفًا: “توجد في كل مراحل إعداد هذا النوع من الوحدات والقوات الخاصة مجالات ومساحات للتعاون والتدريب المشترك بين تركيا وروسيا لتنفيذ عمليات خاصة في شتى الظروف في البر والبحر والمناطق الجبلية”.
وأعلن زولوتوف أنه اتفق على إجراء اجتماعات مشتركة لتبادل الخبرات والتجارب بين قيادة قوات الدرك التركية والحرس الوطني الروسي خلال لقائه مع وزير الداخلية التركي سليمان صويلو، وقائد قوات الدرك التركية عارف شتين.
يرى بعض المحللين أنه من الملفت للنظر قيام زولوتوف بزيارة المراكز الحساسة في تركيا، ويوضحون أنه من المحتمل أن الرئيس أردوغان أو حلفائه “المؤقتين” من قادة تنظيم أرجنكون “الأوراسي”، يسعى لشن عملية مشتركة مع روسيا في وقت أمهلته الإدارة الأمريكية أسبوعين ليحسم قراره بشأن شراء الصواريخ الروسية المخالفة لمنظومة دفاع الناتو.
جدير بالذكر أن المستشار الخاص للرئيس الروسي، ألكسندر دوجين، قد أجرى زيارة إلى تركيا أيضا قبيل أيام من وقوع المحاولة الانقلابية في عام 2016، التي أسفرت عن تصفية ضباط موالين لحلف الناتو بذريعة مكافحة “الكيان الموازي” أو “منظمة فتح الله كولن”، وتعيين ضباط جدد موالين للمحور الروسي.
تاريخ غرفة الكوزميك السرية
غرفة الكوزميك السرية في مقر رئاسة الأركان بالعاصمة أنقرة التي ذكرت بأسماء عديدة، منها مجموعة التعبئة التكتيكية (Tactical Mobilisation Group) وشعبة التعبئة التكتيكية، وشعبة الحرب الخاصة ودائرة العمليات الخاصة، شكّلها حلف شمال الأطلسي الناتو ضمن وحدة القوات الخاصة للجيش التركي بشكل سري، مثلما شكل نظائرها في جميع الدول الأعضاء أثناء الحرب الباردة (1947 -1991) لتكون سدًّا منيعًا أمام أطماع الاتحاد السوفيتي التوسعية.
وبحسب تصريحات أدلى بها الجنرال المتقاعد “كمال ياماق” الذي تولى رئاسة هذه الغرفة أو الوحدة في سبعينات القرن الماضي، فإن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تقدم لهذه الوحدة مليون دولار سنويًّا عبر البعثة العسكرية الأمريكية المشتركة لمساعدة تركيا (JUSMMAT) في العاصمة أنقرة، لكنها قطعت هذه المساعدة بعد أن اتخذت قرارًا بتصفيتها بعدما لم تندلع أي مواجهات علية بين المحورين الغربي والشرقي.
ظلت دائرة أو وحدة العمليات الخاصة سرًّا لا يعرفها أحد إلا من أسسوها وعدد قليل جدا من رجال الدولة، لكن عقب قرار الناتو بتصفيتها وقطع واشنطن المعونات السنوية منها، بدأت تعاني من مشكلة تمويل. واطلع رئيس الوزراء الأسبق بولند أجاويد “اليساري” (1974 – 1979) على هذه الدائرة السرية عندما طالب رئيس الأركان العامة آنذاك “سميح سانجار” (1973 – 1978) الحكومة بتقديم أموال من الميزانية السرية للدولة. ولما تساءل أجاويد عن سبب طلب هذا القدر من الأموال والمجالات التي ستُنفق فيها اضطر رئيس الأركان تزويده بمعلومات عن طبيعة هذه الدائرة، وهو الذي كشف لأول مرة أن الوحدة تضمّ عناصر مدنية أيضًا، الأمر الذي جعله يتعرض لمحاولة اغتيال على يد عناصر هذه الوحدة.
من الأطلسية إلى الأوراسية
ومن المفارقة أن شعبة التعبئة التكتيكية / شعبة الحرب الخاصة مع أنها شُكّلت أساسًا في مواجهة الاتحاد السوفيتي الشيوعي، إلا أن الأمر انقلب رأسًا على عقب بالكلية حينما قطعت الولايات المتحدة تلك المساعدات وسعت إلى حلّها وتصفيتها منذ ثمانينات القرن المنصرم. حيث تدخلت هنا “يد سرية” أو “كيان أعلى” ومنعت تصفية هذه الوحدة بشكل كامل، مع تغيير في أيديولوجيتها ومفهوم عدوها، فأصبحت روسيا المأوى والحامي الجديد، فيما صارت الولايات المتحدة العدو والمستهدف الجديد، كما أن أيديولوجيتها أو هويتها تحولت من القومية المحافظة إلى القومية الطورانية العلمانية المتطرفة.
وقد ذُكرت هذه الوحدة السرية بألقاب مختلفة كـ”الكيان العميق” و”كونتر غريلاّ” قبل تسعينات القرن الماضي، وعصابة “أرجنكون” بعد هذا التاريخ حتى اليوم. وقد تسللت عناصر هذه الوحدة السرية إلى مواقع حساسة في أجهزة الدولة، خاصة في المؤسسة العسكرية، من أجل تكوين قوة تمكنها من “الانفلات من قيود الدستور والقانون” و”الحصول على امتيازات خاصة”، و”تبرير أعمالها المارقة”، من خلال استخدام أساليب مافيوية، من قبيل التهديد والوعيد والقتل والاغتيال والابتزاز والضغط والفوضى والبلبلة وغيرها.
لكن بالتزامن مع زيادة أنشطة العصابة عقب خروجها عن الإطار القانوني بالكلية، خاصة بعد الاغتيالات الصاخبة وآلاف الجنايات مجهولة الفاعل في شرق تركيا ذات الأغلبية الكردية، أبدى كثير من السياسيين والعسكريين والبيروقراطيين انزعاجهم منها، وعلى رأسهم رئيس حكومة حزب اليسار الديمقراطي “بولنت أجاويد”، ورئيس حكومة حزب الوطن الأم “طرغوت أوزال” الذي قتل مسمومًا، والقائد العام لقوات الدرك الجنرال “أشرف بتليس” الذي اغتيل في تسعينات القرن الماضي، ورئيس شعبة مكافحة الإرهاب في جهاز المخابرات “هرم عباس” الذي كان يقود مشروع “إضفاء الطابع المدني على المخابرات” بأمر من أوزال، وقضى نحبه إثر عملية اغتيال أيضًا على يد هذه الوحدة. بل أبدى رئيس الأركان العامة الأسبق “كنعان أفرين” الذي انقلب على الحكومة في 1980 استيائه من أنشطتها كذلك، إذ كتب في مذكراته أنه بعد أن تسلّم رئاسة الأركان العامة وجه دائرة العمليات الخاصة المذكورة للقيام بوظيفتها الأصلية، وأكد للمشرفين عليها أنه لا يريد أن يسمع مرة أخرى حديثًا عن تنيظم “كنتر غيريلا”، الاسم الذي كان أطلق في ذلك الوقت على هذه الوحدة.
وكان المدعي العام مصطفى بيلجيلي أول من دخل “من المدنيين” إلى هذه الغرفة السرية في عام 2010 من أجل التدقيق والبحث عن وثائق وملفات تتعلق بالتحضير لاغتيال نائب رئيس الوزراء الأسبق بولنت أرينتش في إطار قضية تنظيم أرجنكون المتهم بالتخطيط للانقلاب على حكومات أردوغان السابقة، الأمر الذي أثار ضجة كبيرة للغاية في الأوساط السياسية والعسكرية.
لكن تعرضت قضية أرجنكون، التي كانت تهدف إلى تصفية الدولة من العناصر المافيوية وترسيخ دولة القانون في تركيا، للانقطاع بعد أن تحالفت حكومة أردوغان مع أعدائها السابقين، عقب فضائح الفساد والرشوة في 2014، التي وضعتها في زاوية ضيقة، ثم خرج حوالي 400 ضابط عسكري، إلى جانب عدد محدود من المدنيين، من السجن، بمجوب اتفاقية بين الطرفين، ثم عادوا إلى الجيش مرة أخرى بعد الانقلاب الفاشل في عام 2016.
وكان زعيم حزب الوطن “دوغو برينتشاك” المحكوم عليه سابقًا في قضية أرجنكون أكد في اجتماع عقده مع كبار المسئولين الإيرانيين في طهران حول التصفيات الشاملة في الجيش وأجهزة الدولة الأخرى بعد الانقلاب الفاشل أنهم مَنْ أعدوا قوائم الأسماء التي تمت تصفيتها، وأنهم استطاعوا تصفية “30 ألف جنرال/عسكري كانوا موالين للناتو” بعد الانقلاب بحجة انتمائهم إلى ما سماه “منظمة فتح الله كولن”.