هكذا تستقبل القارة الهندية ضيفها المبارك
قبل قدوم رمضان، تحديدا في رجب وشعبان، تستعد الأمهات والجدات في تنظيف البيوت وفي تنظيف كل ما تملك الدار من الأدوات المنزلية، من غسالة وثلاجة وخلاط وسخان، ينظفن كلها بدقة وعناية كبيرة، ويحددن لهذه العملية الرمضانية يومًا، حتى يشترك فيها الأطفال والرجال والنساء، فلكل دلوه ليدلي به في هذه المهمة المباركة، وهذه العادة تختلف دقتها وعنايتها حسب اختلاف المناطق، لا سيما في المناطق التي تتميز بأغلبية المسلمين أمثال بنغال وأوتار برديش وكيرالا وآسام، لا يبعد منها الكوخ والقصر، ولا يمنعها الغنى والفقر، وهذا مظهر جميل ليجسد فيك نكهة روحية صافية، ليحيي في رئتي عباداتك أنفاس الصفاء والوفاء للشهر.
ثم المهمة التالية هي تجهيز أدوات الأطعمة ولوازمها من الدقيق والقمح والأرز، يعني الكل يصر على أن تكون في بيته أيام رمضان أشياء جيدة وجديدة وطيبة، احترامًا وتوقيرًا لهذا الشهر العظيم، وهذه العمليات كلها تجري تحت إدارة نساء البيوت، وأما الرجال والشباب مهمتهم وخدمتهم تتركز في ترميم المساجد والمدارس، وفي تنظيفها وتفريشها، وفي تنظيم الدروس الدينية والمحاضرات القرآنية والمسابقات التي تعد الفائزين المتفوقين جوائز مالية وهدايا كريمة، ولا نخطئ لو قلنا إن هذا الشهر يشهد نشاطات اقتصادية عملاقة في جميع المناطق التي يسكن فيها المسلمون، ولا يضن أحد في إنفاق ما لديه لتطريز هذه الأيام المباركة، فتكون مهمة الخطباء الدينية والوعاظ استنهاض همم السامعين الراكدة، وشغل أفكارهم بحجم المسؤولية الموكلة عليهم، وتذكريهم وتوعيتهم عن فضائل رمضان، وعن الدروس التي لا بد للمسلم الاعتناء بها.
ثم إذا جاءت ليلة التاسع والعشرين من شعبان، كانت أعين الجميع ترمق نحو السماء، في وجوههم يبرز مدى الشوق الذي يخامر روحهم ويمتزج قلبهم، يبحثون عن كسرة قمر تحييهم بقدوم ضيف الرحمان، فإذا لم يستطيعوا الرؤية هذه اللحظة النادرة لجأوا إلى أفواه القضاة والحكمة الشرعيين، فالهند معظم مسلميها يعتمدون على القضاة الشرعيين التي لهم الحق في إعلان بداية الشهر الجديد، وأحيانا تثار الخلافات بين من يدعون أن الحساب الفلكي يغني عن رؤية الهلال وبين من يثبث ويدحض حجته بواجبية الرؤية بالعين وإلا بإتمام الشهر بثلاثين، وقد حدثت واقعات غريبة في أرض الهند، إذ اختلفت الفئتان حتى صام واحد وترك الآخر، وهذه المشكة إنما يكبر حجمها في تحديد يوم العيد، حتى أدت إلى بعض الخلافات، على أي حال لو تم إعلان رمضان رسميا من القضاة المقبولين بدى في محيا الشعب الهندي مظهر البهجة والسرور التي تثيرها الوجدانيات.
ترحيب حكومي بالشهر الفضيل
والشرف الكبير لدولة كالهند -ملتقى الثقافات ومفترق الحضارات وحاضنة الطقوس والعادات- ينبع من جانب الحكومة نفسها، إذ الحكومة تتشرف بالتوافق والتعاضد مع رعاياها المسلمين، وكذلك ترى إقبالاً كبيرًا من زعماء الأحزاب السياسة المختلفة، حتى بينهم من ينتمون إلى حزب هندوسي متطرف يحتفلون بعظمة هذا الشهر ويهنئون الشعب به، والأكثر من ذلك قيام الأحزاب رغم فكرها المخالف موائد رمضانية وتدعو إليها جموع المسلمين، وهذه المظاهر النادرة حكر على الهند.
ولا ينكر أحد دور المسمين في تصميم حضارة الهند وفي تعميرها حاضرًا وماضيًا، ودورهم الفاعل في بناء المدن ورعايتهما أمثال دهلي وحيدر آباد وآغرا وكلكاتا، وممباي، فلأجله ترى الجو الرمضاني في هذه المدن بارزًا متألقًا، قناديل معلقة وفوانيس وضاءة توحي إليك بنور الأمل، وتبعث بين جوانحك أشواقًا متلهفة نحو حياة من جديد، وأناشيد تدوى وتعلو أصواتها الخافتة من المقاهي، وأغاني هادئة تنبع من شفتي المسحراتيين، لديهم دفوف، يضربون عليها وشفاههم رطبة بأنشايد توقظك وتنسيك همك وكسلك، وإلى جانبه هيئات دينية وجمعيات خيرية مختلفة، تتبنى أفكارًا مختلفة تتنافس في إقامة موائد رمضان لاستقبال ضيوف الرحمان، وتنفق عليها أموالاً باهظة، وتسعى في مواساة الفقراء ومساندة الملهوفين.
وأما من جانب الأطعمة الرمضانية فالقائمة طويلة تزكم أنفك بروائح فيَّاحة، قائمة طويلة تتضمن فيها أقداح القهوة والشاي والهريس والبرياني والغنجي، وأطباق الحلوي الطازجة والعصائر الممتزجة بلباب البرتقال والتفاحة والتمر والجوز، فالأطعمة الهندية تمتاز بتوابلها الحارة التي هي ألوان من الفلفل والكركم، والتمر الهندي، والقرفة وغيرها التي تذهب بك إلى أطعمة حرفية، وقد استطاعت هذه التوابل المثيرة لتسحر أعين العرب منذ أن صدروا من بلاد الهند فلفلاً وزنجبيلاً.
وهناك بون شاسع في اختيار الأطعمة بين شمال الهند وجنوبها، فبينما يختار شمال الهند طعامًا يليق بجوه الذي يتردد بين حار وبارد، فجنوب الهند لعتدال جوه يميل إلى التوابل والحلويات ويكثر استخدامها بحد كبير، لا سيما في منطقة مليبار التي تقع شمال كيرالا، وتختص بعدة خصائص مهمة، إذ مناطقها معروفة بالحلويات واللحوم، وتجهيز أطعمة من الأرز بشتى الألوان والعناوين، ونساء مليبار لهن ملكة راسخة في تدبير المطاعم الرمضانية، وليس للرجال فيها أي دور يذكر.
أطفال رمضان
ومن أجمل مظاهر رمضان الهند أطفالها الذين لا يملكون التصنع، يتقاذفون نحو المساجد مثل الجراد المنتشر، وينجذبون إلى صلواتها الخمس والتراويح جماعة، وأحيانا يقوم بعض الأثرياء بتوزيع الهدايا والجوائز للأطفال الذين واظبوا وتعودوا المساجد تشويقًا وتحفيزًا على أداء الصلوات والعبادات، وأحيانا تجري منافسات بينهم في ممارسة الصوم في سن مبكر، ومن لا يصم يشعر بالخجل أثناء الطعام والشراب أيام رمضان رغم أنهم لم يصلوا إلى سن الوجوب احترامًا وتكريمًا للشهر الكريم، وأكثر حديثهم يدور عن عدد ما صاموه من أيام الصيام، “أنا صمت اليوم”، “أنا سأصوم غدا”، هكذا تجري محادثات صافية مصقولة، أصيلة.
وأما الأمهات فلهن اليد الطولى في تربية الأولاد والبنات على الصوم، ولا يقصرن في أداء هذا الواجب الديني، وتظهر هذه القوة النسوية في تربية أولادها ومنعها من متابعة المسلسلات والأفلام، وكأن التلفاز سينحى من الحياة أو كأنه في إجازة شهرية.
شهر السلم الاجتماعي
وأما من الجانب الاجتماعي فللصوم هيمنة كبيرة في كبح جماح العنف والاختلاف، يتناسى الجميع ويدفن المشاجرات والخصومات، ويسعون في نسج علاقات جديدة تنشأ من الود والوفاء، يبتعدون عن الشتم واللوم، مع أن الهند شأنها وعادتها مضطربة أي اضطراب لا سيما في المجال الديني، فللاختلاف فيه أثر كبير في تجريح الآخر وتبريحه، لكن إذا جاء رمضان هدأ الغبار وابتعد النفار والشرود، فتبسم الوجوه التي كانت ضامرة من العنف والوجد، وتشرق الشموس التي كانت كاسفة البال، وتنقشع الغمام عن البدر المنير الذي كان يختفي في عمق القلوب.
فتلك مظاهر هندية تليدة، فقط تبنيها أيام رمضان، فقط تحميها أحلامه ولا يقتصر جو رمضان في سماء الهند على مساجد معمورة بالقرآن ومضاءة بالقناديل ولا على موائد باسمة بألوان الأطعمة بل تسري نكتها سريان الكهرباء في الحديد، وتنتشر أجنحتها لتفيئ الشعب الذي يقطن في ظلال التنوع والتعدد، فالهند لها نكهتها الخاصة، بتوابلها الحارة ومساجدها المعمورة.
بقلم/ صبغة الله الهدوي
المصدر: مجلة حراء