بقلم : مايسترو
كنيسة القديس سيباستيان، في مدينة نغومبو بسيريلانكا بعد التفجير
(زمان التركية)-أعلن تنظيم ” داعش ” الإرهابي، الثلاثاء 23 أبريل الجاري مسؤوليته عن الهجمات الدامية التي استهدفت كنائس وفنادق بسيريلانكا، أوقع الهجوم مئات القتلى والجرحى، وذكر بيان منسوب لوكالة ” أعماق ” التابعة للتنظيم أن منفذي الهجوم الذي استهدف مواطني دول التحالف (الذي تقوده أمريكا) والمسيحيين في سيريلانكا يوم الأحد 21 الجاري هم من جنود داعش، حيث وقعت ثمان هجمات انتحارية بالتزامن مع احتفالات المسيحيين بـ “عيد الفصح”، وبلغت حصيلة ضحايا الهجمات 253 شهيدا؛ وما يزيد على الخمسمائة جريحًا، وذلك فق آخر بيانات رسمية صدرت أثناء كتابة هذه السطور؛ وكشفت السلطات السيريلانكية أن ضمن الشهداء 39 أجنبيا، من دول: الهند، بريطانيا، الدنمارك، الولايات المتحدة، الصين، فرنسا، تركيا، استراليا، سويسرا، السعودية، هولندا، إسبانيا، البرتغال، بنغلاديش، واليابان. وأسفرت تحقيقات الشرطة السيريلانكية أن الهجوم ارتكبه تسعة انتحاريين، تم تحديد هوية ثمانية منهم، وأعلنت السلطات اعتقال أكثر من 100 شخص على خلفية التحري حول التفجيرات، ولعل السؤال الذي يٌطرح على ذهن المتابع للأحداث بشكل تلقائي هو : لماذا تم استهداف سيريلانكا تحديداً ؟
بداية صرح ” روان ويجيورديني ” وزير الدولة لشؤون الدفاع في سيريلانكا أمام البرلمان أن التحقيقات الأولية كشفت أن ما حدث في سريلانكا كان رداً انتقامياً على الهجوم ضد المسلمين في “ كرايست تشيرش ” بنيوزيلاندا؛ حيث قتل 50 شخصاً في 15 مارس الماضي؛ وأضاف أن التحقيقات أظهرت أن جماعة محلية إسلامية متطرفة ومسلحة تدعى ” جماعة التوحيد الوطنية ” هي من تقف وراء الهجوم؛ وهذه الجماعة لها سوابق في استهدافها للطائفة البوذية، حيث قامت العام الماضي بتدمير تماثيل بمعابد بوذية.. وتشير معلومات أولية وجود صلات تجمعها وجماعة إسلامية متشددة في الهند لا يعرف عنها الكثير، وتقارير أمنية أخرى تؤكد وجود صلات قوية بين جماعة التوحيد وتنظيم داعش اعتباراً من 2016.
ولكن هل الربط بين استهداف المسيحيين والأجانب بسيريلانكا وهجوم نيوزيلاندا يعد ربطاً منطقياً ؟
لعلنا نتساءل هنا : لماذا لم يستهدف التنظيم إذن أستراليا لكونها الدولة التي يحمل الإرهابي جنسيتها، أو نيوزيلاندا باعتبارها الدولة التي ارتكب الحادث بها ؟؟؟ لذا فلنبحث عن تحليل يقودنا لفرضيات أخرى ربما تكون هي الأسباب الحقيقية وراء اختيار مسرح الأحداث ونوعية المستهدفين، وخلفية المشهد تتمثل في المعطيات الآتية :
* يبلغ عدد سكان سيريلانكا 22 مليوناً، وهناك تنوعاً دينياً وإثنياً للسكان؛ فالغالبية (71%) من أتباع البوذية، و(13%) هندوس؛ و(10%) من المسلمين ــــ معظمهم من أهل السنة ــــ و(9%) مسيحيين معظمهم كاثوليك.
* ويرصد المتابع للأحداث أن هناك توترات دينية وإثنية لا تزال تظهر خلال فترات متفاوتة، لها تداعياتها خاصة وأن البلاد خرجت من حرب أهلية ضروس لم يمض عليها سوى عقد من الزمان؛ وهذه الحرب بدأت في 23 يوليو 1983 وطرفيها الحكومة السيرلانكية من ناحية، وفئة من السكان عرفت بنمور تحرير التاميل التي تحمل نزعة استقلالية من ناحية أخرى، حيث طالب المتمردون بإنشاء دولة مستقلة في شمال وشرق الجزيرة؛ وبعد 26 عاما من الحملة العسكرية هزمت القوات المسلحة السيريلانكية نمور التاميل، وعلى الرغم من إعلان سريلانكا رسميًا عام 2009 انتهاء الحرب الأهلية على أراضيها فإنها لا تزال تخضع لحوادث عنف على أساس إثني وديني، ففي مارس من العام الماضي فرضت الحكومة السيريلانكية ــــ التي تهيمن عليها أغلبية سينهالية ــــ حظراً للتجوال في مدينة كاندي على إثر هجوم المتطرفين البوذيين على ممتلكات للمسلمين في المدينة، وأظهرت الهجمات عدم تعامل الحكومة بشكل فعّال مع تلك الهجمات؛ وفي نهاية المطاف أجبر سكان المنطقة على إخلاء منازلهم بسبب استمرار المتطرفين البوذيين بالتحريض على المسلمين عبر وسائل التواصل الاجتماعي.. .
* وخلال الحرب وقعت أسوأ أعمال عنف ضد المسلمين في سيريلانكا على يد متمردي التاميل، وبعد أن وضعت الحرب الدموية أوزارها بهزيمة المتمردين عام 2009، يبدو أن غضب الأغلبية البوذية وجد هدفاً جديداً في الأقليتين المسلمة والمسيحية.. فبين عامَي 2012 و 2013، تم الإبلاغ عن أكثر من 350 هجوماً عنيفاً على المسلمين، وأكثر من 150 هجوماً على المسيحيين في سيريلانكا؛ فكانت المساجد والكنائس هدفاً أساسيّاً لهذه الهجمات التي كانت نتيجة طبيعية لخطاب العنف والكراهية والتمييز الذي تبناه البوذيون، ولم يتحسن الوضع لاحقاً.. .
* وما من شك أن الهجوم الإرهابي الأخير هو هجوم منظم ومحكم، يحتاج لقدرات تنظيمية عالية من المؤكد أن جماعة ” التوحيد الوطنية ” تم دعمها مادياً وتدريبياً من تنظيم إرهابي قوي يملك تلك القدرات، وتَحمِل الهجمات بصمة تنظيم داعش؛ وقد تبنى التنظيم هذه الهجمات بالفعل.
* وأكد الهجوم أن قدرات أجهزة الأمن السيرلانكية من الضعف بما يضمن للتنظيم الإرهابي ومن ورائه نجاح الهجمات التي تم التخطط لها؛ رغم أن المخابرات الهندية حذرت سيريلانكا أكثر من مرة من مخاطر وقوع هجمات إرهابية، ولم تستطع الأجهزة الأمنية في سيريلانكا اتخاذ الإجراءات الأمنية الكفيلة بمنع هذه الهجمات، رغم أن التحذير كان سابقاً على الهجمات الإرهابية بوقت كاف.
* هذا وهناك أدلة دامغة على أن داعش كتنظيم إرهابي يُوَجَه من قبل أجهزة مخابرات غربية.. .
صورة نشرها موقع أعماق لجنود الخلافة الذي يَدَعي ارتكابهم للهجوم
وإذا كان ما سبق عرضه هو بمثابة معطيات للمشهد الإرهابي في سيريلانكا، فنرى ـــ من منظور تحليل أمني ـــ أن استهداف المسيحيين والأجانب في سيريلانكا يقودنا للنتائج الآتية :
* حال تأكد ضلوع داعش في هذا الدعم؛ فغالب الظن أن أجهزة مخابراتية دفعته لهذا الهجوم؛ تنفيذاً لاستراتيجية هدفها معاداة الإسلام من قبل مختلف الأديان والإثنيات الأخرى على المستوى العالمي؛ وهي استراتيجية تتبناها بحسب الأصل وتقودها دولة شرق أوسطية دينية استعمارية متطرفة.. تُحرِك للأسف قوى عظمى. وتلك الهجمات الإرهابية نراها شرارة من شأنها إشعال فتيل المواجهة بين المسلمين وغيرهم من الإثنيات والأقليات الأخرى في سيريلانكا.. وهي كافية لإحداث تأثيرات تتجاوز بالطبع حدود سيريلانكا، فيتوقع أن تنتقل تأثيراتها لدول أخرى.
* وجدير بالذكر أن قدرة أجهزة المخابرات على توظيف تنظيم إرهابي ديني لا يعني قدرتها على تجنب مخاطر قيام هذا التنظيم بتوجيه ضربات قاسمة لهذه الدول.. فعقيدة داعش مازالت تعتبر الغرب عدواً ورمزاً للكفر.. وإن كانت المصالح اقتضت الاستفادة من الدعم اللوجستي الذي توفره أجهزة المخابرات المشار إليها.. ومن المؤكد أن فروع التنظيم الخارجية تتمتع بالقدرة على تنفيذ هجمات كبيرة في بلدان مختلفة، فما تزال شبكاته وخلاياه الفردية النائمة وذئابه المنفردة تشكل خطراً على المصالح الغربية.
* هذا ولعل هجمات سيريلانكا تشير إلى تنامي جاذبية العنف المرتكز على الهُوية الدينية والإثنية؛ وما يرتبه من استقطاب لمقاتلين وأنصار جدد، وهو الهدف الذي ينشده داعش واليمين المتطرف في الغرب، ونلمح ثمة موجة عالمية متصاعدة من الإرهاب والعنف على أساس الهوية والفكر المتطرف، بينما تتراجع قيم التعددية والتنوع الثقافي، وربما يشهد العالم مزيداً من هذه العمليات المروعة.. لذا يجب على السلطات السيريلانكية أن تولي اهتماماً خاصاً في إدارتها للأزمة من زاوية التركيز على الجوانب الوقائية.. لتجنب تداعيات محتملة لحروب أهلية بين فئات الشعب؛ ولتتخذ من تجربة نيوزيلاندا نموذجاً ملهماً؛ فنرى أن رئيسة وزراء نيوزيلاندا جديرة بنوبل للسلام.. وليس أقل.
ولعل خير ختام لمقالي هذا استحضار تحذير المولى عز وجل من الفتن؛ حيث قال جل علاه غي كتابه الكريم ” وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ” الآية 191 البقرة؛ وفي آيةِ أخرى ” وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ” 217 البقرة؛ ولندع في نهاية المقال بقوله تعالى ” رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ” 5 الممتحنة.