وهناك قصة جديرة بالتسجيل تساعد على تشكيل وتدعيم الوعي التشكيلي والجمالي للطفل، قدّمها الفنان العالمي “جون كلي” لتلاميذه، معتقدًا أن للخطوط وللنقاط وللملمس حياة. وعنون قصة “كلي” “فلنأخذ الخط إلى نزهة”، وعلى الرغم من بساطتها فإنها تدعم وعي الطفل التشكيلي والجمالي بالحدث وتطوره. وتنحدر عبقرية “كلي” في اختياره للخط كبطل ببساطة تعمل على تدعيم ملكة الملاحقة عند الأطفال، وعلى تحريك خياله التشكيلي ووعيه بالعناصر والجزئيات، وذلك مع عدم تعارضه مع طبيعة وعي الطفل الجمالي، ويحرض فيه القدرة على تكوين الصورة ذات المعنى الرمزي الذي يعبر عن شعوره الإنساني، وفي الوقت نفسه تعلّمه في حال كونه نواة فنان لإبداع أشكال أو صور رمزية تمثل الشعور الإنساني.
الإدراك التشكيلي
إن التعريف الأقرب للشمول، هو كونه إدراك حواس الطفل لوحدة العلاقات الشبكية بين الأشياء، بحيث يصبح الطفل قادرًا على التذوق أو الشعور أو الانتباه إلى القيمة الجمالية، أو الكيفية التشكيلية التي تتوحد في شيء ما، سواء أكان طبيعيًّا أو عاديًّا أو عملاً فنيًّا، وهذا الوعي بما فيه من قيم جمالية، على نحو متجدد دائمًا.
وقد أثبتت الدراسات المهتمة بنمو الطفل وارتقائه المعرفي -خصوصًا في السنة الأولى- أن هناك مجالات متعددة يرتقي الطفل من خلالها معرفيًّا، مثل جانب الإدراك، وجانب المعلومات، وجانب التصنيف، وجانب الذاكرة.. ويهمنا في الأساس هنا جانب الإدراك، حيث يكون الطفل قادرًا على إدراك الموضوعات وإدراك بعض خصائصها، كاللون، والخطوط، والأنغام، وغيرها.
أهمية اللغة الفنية
هناك عناصر أخرى مساندة للغة تعتبر عناصر للتجسيد الفني؛ كالأصوات والألوان والأنغام والرسوم. وعلى هذا، فإن الإنسان لا يستعين بلغة الكلام وحدها، بل يستعين بلغة أخرى ليست كلامية، حيث تساعده هذه الأخيرة على التصوير بشكل أكثر دقة ووضوحًا وتجسيدًا. وإذا كانت اللغة اللفظية وعاء الفكر، فإن اللغة غير اللفظية تعد وعاءً آخر له، حيث أتيح للإنسان بفضلها أن يفكر من خلال الأشكال والإشارات والأصوات والألوان والحركات.
والتجسيد الفني يتيح من جانب آخر للعمليات العقلية المعرفية الأخرى، أن تقوم بدورها في استقبال الرسالة الاتصالية وفهمها؛ فالأطفال عند استماعهم، أو مشاهدتهم، أو قراءتهم لمضمون لفظي تسانده الألوان أو الأضواء أو الحركات أو الرسوم، يتذكرون خبرات سابقة، ويتخيلون صورًا جديدة مركبة، فيكون إدراكهم وفهمهم أكثر دقة.
أهمية وسائل الإعلام
يجب أن يتم فعل قراءة الصحف والمجلات أمام الأطفال وعلى ملأ منهم، بما تحمله من أخبار جميلة ومعارف خاصة وعامة غريبة وطريفة. ويتم ذلك بشكل لا يحس الطفل فيه بأنه معني بالقراءة، بل يجب أن تكون قراءة الآباء جهرية يسمع الطفل تفاصيلها دون التوجه المباشر إليه.
وفي مراحل أخرى متقدمة، يمكن أن تكون للمطبوعات المصورة دور هام في حياة الطفل، وعلينا أن ندفعه إلى الاهتمام بها، والاشتراك بالمطبوعات الخاصة بالطفولة، واقتناء ما يناسبه منها؛ فمحتوياتها من الصور والرسوم، تسهم في رفع الحساسية الجمالية والمعرفية لديه بشكل تدريجي غير مباشر لكنه فعال.
لا بد أن نحشد كل الجهود التربوية لتنمية الوعي الجمالي عند الطفل بتوثيق صلته بعلم الجمال وفلسفة الفن، وإكسابه القيم الجمالية في الحياة، وتعويده على الترقي برؤيته التشكيلية ومواهبه الإبداعية ومشاعره الإنسانية.
أما الكتاب، فيؤدي دورًا آخر، إذ يتعرف الطفل إلى الكتاب عن طريق القراءة المشتركة التي يجب أن تظل أحد أهم اهتمامات الأسرة، في البدء القراء هم الآباء، ثم تنتقل هذه المهمة إلى الأبناء. والقراءة تساعد على توحيد الأذواق وتهذيبها وعلى السمو بها جماليًّا وفنيًّا وخياليًّا، وتعطي لهم من ثم حسًّا نقديًّا ومعرفيًّا عميقًا، ولكي يكون دور الكتاب كبيرًا في تنمية الحس الجمالي، يجب أن تكون مهمة الآباء معتمدة على:
1- مراقبة الانتقاء الجمالي والأدبي لشكل الكتاب ومضمونه.
2- تدريب الأطفال على القراءة والاستمتاع الجمالي بها.
3- دفع الطفل إلى العناية بالكتاب والحفاظ عليه نظيفًا ومتسقًا مع غيره من الكتب.
كما أن للسينما والمسرح دورًا آخر في مجال التربية المعرفية والفنية والجمالية، وهي تؤدي دورًا هامًّا في تنمية الحس الجمالي لدى الطفل، فجماليات المسرح المرافقة وإضاءته وديكوراته وصفوفه المنتظمة، كبير الأثر في الرقي بحسه الجمالي وتغذيته.
لطافة الحس الموسيقي
إذا تناولنا الحس الموسيقي لدى الأطفال، نجد أن الجانب الإيقاعي عنصر أصيل في فن العربية الأول، ذلك الفن الذي اختص بالغنائية والوزن والقافية، أبرز العناصر النمطية في حده المعروف، لذا يصبح الإحساس الموسيقي ضرورة ليس فقط في تذوقه وتعليمه، ولكن أيضًا في تنميته والتنبؤ به. ولأن الإيقاع سمة لصيقة بنفس الطفل وأكثر تأثيرًا في مشاعره، فإن الطفل غالبًا ما يعبر عن انفعاله في صورة “حس حركي” كالتصفيق والتنقير، أو التمايل والاهتزاز.
وإذا افتقد الطفل هذا الحس الموسيقي، افتقد الصلاحية لفن العربية الأول، ولعل في قصة الأصمعي مع مؤدبه، ما يدل على أنه كان وقتئذ مبتدئًا، وأن مؤدبه لما لحظه من افتقاده الأذن الموسيقية القادرة على ضبط النغم والتغني به، ألمح إليه أن تعلم العروض لا يغنيه، وصرفه عن صناعة الشعر إلى العلم بأدواته، فكان عالمًا شاعرًا وليس شاعرًا عالمًا. من هنا كان التغني مِقود الموهبة وأحد إرهاصات الطفل المترشح، وليس ذلك إلا لأن هذا الطفل لم يكتمل قاموسه اللغوي، وليس لديه خبرة معرفية أو أدوات لفظية تنهض للتعبير عن ذاته.
إن النمو الموسيقي لا يعتمد كثيرًا على النمو العقلي، فلا توجد علاقة مطردة بين العمرين الزمني والموسيقي، فقد يمتلك طفل في بداية نموه العقلي عبقرية موسيقية مبدعة، كما أن نمو هذه الموهبة قد يكون بقوة عوامل بيولوجية خاصة. وقد لوحظ نمو هذه الموهبة بقوة، فيما بين الثالثة والخامسة عشرة، وهي السن التي يتوقف فيها النمو البدني، ويكون هناك وقت كبير لنمو الملكات الذهنية. وأما الأمر الآخر فهو أن الموسيقى لا تستمد موضوعاتها من الطبيعة، ولا تعتمد على خبرة حياتية، لأن مصدرها وغناءها الرئيس يكمن في الفنان ذاته، وطبيعة الموسيقى المجردة أن تجعل مادتها بعيدة تمامًا عن عالم المحسوسات، وليس ثمة فن آخر يستمد مادة كلية من نفسه ولا يعتمد في نموه على الفنون الأخرى سوى الموسيقى.
الطفولة وعالم اللوحة الجمالي
كيف يقرأ الطفل الأثر الجمالي باللوحة، وإلى أيّ مدى تثير انتباهه واهتمامه؟ للإجابة على هذا، لا بد من تمييز الخصائص التالية في الطفل:
1- الحركة: إن الطفل تثيره الحركة، لذلك يتابع بشغف أفلام الكرتون المتحركة. والأثر الجمالي الحركي هو الذي سيكون فعالاً في استخدامه لتنمية الذوق الجمالي. وتعد الصور والرسوم المتحركة أوعية تعبير ذات أهمية كبيرة بالنسبة إلى الأطفال؛ فهم يعبرون عن أنفسهم بالرسوم منذ عمر مبكر، كما أنهم يستقبلون التعبير من خلالها، ويعنون بكثير من تفصيلاتها، وتنطبع في أذهانهم الصورة الذهنية الموحية. وتشير دراسات عديدة إلى أن الرسم أو الصورة أكثر إقناعًا من الكلمة في كثير من الأحيان. أما الحركات فهي عنصر آخر من عناصر الجاذبية والتشويق، وهي فضلاً عن ذلك تضفي على المواقف والأفكار أبعادًا جديدة.
2- العناصر الأساسية في اللوحة أو الرسم سواء كانت بشرية أم حيوانية، فإنها تثير انتباهه واهتمامه، وفي الغالب يستمتع أكثر بالأشكال الحيوانية، لأنها ليست تحت بصره ولا يراها إلا في الصور، وهذا بحد ذاته مفتاح جديد يمكن استخدامه في تنمية الحواس الجمالية عند الطفل، من خلال عرض النماذج الحيوانية الجيدة المرفقة بغابات وأشجار وعمائر وتشكيلات طبيعية، وهذا مجال واسع من المجالات التي تسهم في تطوير خياله، وتجعله في حالة استمتاع بصرية وتخيلية دائمة.
هناك علاقة كبيرة بين رسوم هذا الطفل ومدلولاتها، وبين قدراته الفنية ودرجات ذكائه، وما قد يظهره الطفل من قدرات في تعبيره الفني ومحاولة إيصال مفاهيمه عن طريق الرسوم والألوان.
3- اللون: إن عنصر اللون له أهمية كبيرة في اللوحة التي يراها الطفل، وذهب بعض علماء النفس وخصوصًا أولئك الذين ينحون منحى مدرسة التحليل النفسي، إلى تأكيد أهمية الألوان في النفس، خصوصًا وأن هناك اتفاقًا على أن الألوان تساعد في تقديم الأشكال بطريقة مؤثرة نظرًا لاتصال اللون بالحس، خصوصًا وأن الإدراك البصري يقوم على وقوع الموجات الضوئية على العين. وتلعب الألوان دورًا مهمًّا في تحقيق الانسجام والتوازن في الأشكال في عين الطفل وفي كسب انتباهه، وفي إرضاء ميله نحو ألوان معينة.
إن أكثر الألوان استحواذًا على اهتمام الأطفال صغار السن وجذبًا لأبصارهم، هي الألوان الأساسية الثلاثة؛ الأصفر، الأزرق، الأحمر، بشرط أن تكون زاهية ونظيفة ومفرحة. لذلك يجب أن يكون لهذه الألوان الأساسية الثلاثة، النصيب الأكبر في الرسوم المقدمة للأطفال صغار السن دون أن تمزج بينها، ودون أن تستخدم أية ظلال أو تدرجات في اللون الواحد، وذلك حتى لا يرتبك الطفل الصغير وينفر من الصورة، ويحسن أن تكون مساحات الألوان مفصولة بعضها عن البعض الآخر.
4- غرابة الموضوع وطرافة الفكرة: طرافة الموضوع تشد الطفل كثيرًا، فإذا جاء الموضوع عاديًّا، لن يلتفت الطفل إليه، لذلك نجد أكثر الرسامين الكبار الذين يرسمون لوحات تعرض على الأطفال، يجنحون إلى الخيال وإلى الغرابة وإلى الأسطورة، وإلى ما لا يصدق، سواء من حياة الإنسان أو الحيوان أو من جمع النوعين معًا.
أهمية الصورة
في كتب الأطفال، ينبغي أن ترافق الصورةُ دائمًا النصَّ، حيث العلاقة بينهما علاقة وثيقة، فالتصوير والرسم يجسد ما يقوله النص، والنص بدوره يشرح الصورة ويكملها، وبدون ذلك فإنها تصبح صورة ملتبسة المعاني متعددة الطروح، أي يجب أن تتولى الصورة نقل معاني النص وحكائيته، وبهذا تكون الصورة تجسيدًا للنص. ولقد لوحظ أن الصورة تسهل اتصال الطفل فيما بين الثالثة والسادسة بالكتابة، وتحفزه إذا كانت معبرة ناطقة على القيام ببعض الملاحظات حول الحكاية.
وبنظرتنا إلى رسوم الأطفال التي يقومون برسمها، نجد أن فيها فروقًا ظاهرة في التعبير عند الجنسين من الأطفال؛ فالصبيان وخصوصًا بعد سن الثامنة يميلون إلى التعبير الانفعالي التصويري المصحوب ببعض التفاصيل، ولكنهم يرسمون صورًا مبالغًا فيها وفق سعة الأفق ووفق تصور كل منهم، مثلاً يرسمون ضابطًا يعتلي دبابة، جسدُه في حجم الدبابة. أما الفتاة فنراها من خلال رسومها تميل إلي التعبير الزخرفي الممتلئ بالتفصيلات.
وإذا تتبعنا طفلاً لقياس ذكائه، نجد علاقة كبيرة بين رسوم هذا الطفل ومدلولاتها، وبين قدراته الفنية ودرجات ذكائه، وما قد يظهره الطفل من قدرات في تعبيره الفني ومحاولة إيصال مفاهيمه عن طريق الرسوم والألوان.
الذائقة الجمالية
إن تربية الذائقة الجمالية عند الطفل، تقتضي معرفة وثقافة غنية، سواء من لدن الأسرة أو من لدن المربين في المدرسة، أو مؤسسات التعليم الأولي، ويأتي في قائمة هذه المعارف، دراسة الطفولة، ومعرفة ميول الطفل، واهتماماته ودوافعه الشخصية، وما إلى ذلك، ثم تأتي بعد ذلك خطوات يمكن أن نجملها على سبيل المثال لا الحصر فيما يأتي:
1- إثراء بيئة الطفل بالمفردات الجميلة والملائمة لمداركه ومستوى نضجه.
2- تحقيق الجمال عمليًّا في محيط تفاعل الطفل مع ذاته ومع غيره -كالترتيب، التنسيق، التنظيم- وفق الإمكانيات المتاحة.
3- العناية بالمظهر الخارجي للإنسان، كالهندام والمأكل والحركة.
4- تعويد الطفل على الاهتمام بالتفاصيل والأجزاء.
5- تنبيه الطفل إلى أن الجمال يكمن أحيانًا كثيرة في العلاقات القائمة بين الأشياء، والتنويع المستمر في هذه العلاقات.
6- التأكيد على أن الجمال ينبع من الداخل أساسًا، بمعنى أن الجمال هو حالة داخلية مثل الفرح والحزن وغيرهما، وهو أيضًا استعداد قبل أي شيء آخر.
لذلك لا بد أن نحشد كل الجهود التربوية لتنمية الوعي الجمالي عند أطفالنا وتشكيله، من خلال جميع الوسائط، والتعامل مع ثقافة الطفل البصرية من خلال لغة التعبير التشكيلي، والتركيز على تنمية قدرته على الاستجابة للعناصر والعلائق البصرية، وإكسابه الخبرات الفنية من خلال معايير موضوعية بسيطة، بالإضافة إلى تنمية سلوكه الابتكاري، وتوثيق صلته بعلم الجمال وفلسفة الفن، وإكسابه القيم الجمالية في الحياة والارتباط بالبيئة وفهمها، وصقل ذوقه وتعويده على الابتكار والترقي برؤيته التشكيلية ومواهبه الإبداعية ومشاعره الإنسانية.
بقلم/ بركات محمد مراد
المصدر: مجلة حراء