فكما أن بعض العبادات مثل صلاة الجمعة والطواف حول الكعبة والوقوف بعرفة تجمع الذين يسيرون إلى هدفٍ واحد ويحملون مشاعر وأفكارًا واحدة في المسجد أو المطاف أو عرفات؛ فكذلك وحدة الفكر والشعور هي التي تجمع محبِّي الخدمة حول فعاليات ومشاريع معينة؛ لأن بعض الأرواح المتفانية التي تجيش قلوبها بخدمة الإنسانية ويراودها حلم المستقبل المشرِق في حلّها وترحالها عندما ترى أيَّ تجمُّعٍ -ولو كان صغيرًا- يقوم بالخدمات التي يتصورونها ويحلمون بها؛ فإنهم يفكرون مباشرةً في ضرورة أن يكون لهم مكان ضمن هذا الأمر، ويشرعون في دعم الخدمات المبذولة.
لا سيما وأن الصدق والآمال والثقة والعشق والشوق الذي يحمله هؤلاء الذين انضمّوا إلى هذه القافلة المباركة من قبل وكرسوا حياتهم لها دون تشوّفٍ لأي منفعة؛ يجذب الكثيرين للانضمام إليهم، أي إن الخدمات التي يبذلها هؤلاء المتطوعون الذين يتمتعون بهذه الأخلاق الرفيعة وليس لهم هدف سوى خدمة الإنسانية تمثل مرجعًا مهمًّا للآخرين، وتشجعهم على الاشتراك في هذه الفعاليات ورعايتها.
علاوة على أنّ تقبُّلَ أصحابِ الثقافات والأعراق بل والديانات المختلفة لأنشطة الخدمة ودعْمَهم لها قد وسّع من نطاق الأمر، فرغم أنّ هذه الخدمات قد بدأت في أول الأمر على يد حفنةٍ من الرجال فإن العديد من الناس الذين لمسوا سلامة ونفع هذه الخدمات قد قاموا باستنساخ هذه المشاريع الخدمية في الأماكن التي يعيشون فيها؛ وبتعبير آخر: اجتمع العديد من الناس رغم اختلاف فلسفتهم الحياتية ورؤاهم العالمية حول منطقية الخدمة، وبينما تحمَّلَ بعضُهم المسؤولية في الأنشطة التعليمية والثقافية أو الحوارية مباشرة بدأ البعض الآخر في دعم هذه الأعمال ماديًّا ومعنويًّا.
فلو لم تكن هذه الأعمالُ سليمةً ومنطقيةً من حيث القيم الإنسانية العالمية وظروف الزمان الذي نعيش فيه لما كان من الممكن أن يتحرك نحوَ هذه الخدمات مثلُ هذا الكمّ الغفير الذي جاوز الملايين، ولكان من المتعذّر إقامة مئات المدارس في كل أنحاء العالم شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، ولمَا بذل رجال الأعمال كل ما بحوزتهم في سبيل رعاية الطلاب، ولما أقيمت جسورٌ للحوار بين الناس بمختلف الأفكار في بلاد مختلفة من العالم، فحتى يتحقق ذلك كان لا بدّ لهذه الأعمال والخدمات أن تكون من مقررات ومعاييرِ الدين الذي تتبعونه والعقلِ الذي تحملونَه والقيمِ التي تتبنونها.
إنني أرى أن العامل الأهم في نجاح هذه الخدمات هو عناية الله وإعانته سبحانه وتعالى، وإن كان البعضُ لا يُفكر على هذا المنوال إلّا أنني أؤمن بذلك، فالله تعالى يدلّل على عظمته أحيانًا بأن يوظِّف أناسًا صغارًا ضعافًا في أعمال شاقّة عظيمة، وهذا في رأينا ممكن أن نراه بوضوح عند النظر إلى الخدمات المبذولة، ولكن قد لا يبدو هذا الأمر منطقيًّا بالنسبة للجميع، غير أن الأعمال العظيمة التي قام بها فتيانٌ تخرجوا حديثًا في الجامعة، ليس بحوزتهم إمكانيات مادية كافية، ولا يحملون أي تجربة أو معرفة بالبلاد التي سيهاجرون إليها أو الأعمال التي سيقومون بها، ثم قيامهم خلال فترة يسيرة بإقامة المدارس في تلك الدول، وتقبّل شعوب هذه الدول لهم؛ لا يمكن تفسير هذا كله إلا أن عناية الله وإعانته كانت ترعاهم وتقف إلى جانبهم.
ولكن قد ينظر البعض إلى عظمة الأعمال المبذولة فقط، فيخطِئ في الاستنتاجات؛ لأنه لم يدرك عظمة الله تعالى من وراء هذه الأمور، ويتخيل وجود بعض البؤر الخفية؛ فبحسب معاييرهم المعوجّة لا بدّ من وجود عباقرة مثل “نابليون” أو “يوليوس قيصر” أو بعض المؤسّسات الفكرية وراء هذه المشروعات والخدمات، فيقومون بتشويش الأذهان عبر تساؤلهم الدائب عن مصدر هذه الخدمات أو تلميحهم إلى وجود بؤر خفية، ويواصلون النظر بارتياب إلى العديد من هذه الأعمال الجميلة؛ بسبب جهلهم وعدم إدراكهم لعناية الله، وكيف أن التضحية قوة كبيرة، والأدهى من ذلك أنهم يقومون بالهجوم ويركنون إلى الافتراء على الخدمة وأربابها.
وفي رأينا أن كل هذه الخدمات قد تحققت بمشيئة الله تعالى وعنايته أولًا، وبدعم وجهود القلوب الصادقة التي استوعبت معقوليّة هذا الأمر ثانيًا، وإننا على يقين بأن الله سبحانه وتعالى لن يتخلى عنا في سيرنا هذا طالما اقتربنا منه وتحركنا في سبيل مرضاته.
لا تتقرر الأحكام بناء على الأوهام والاحتمالات
أما النقطة الأخرى التي دعت هؤلاء لمهاجمة الخدمة وأربابها فهي تحرّكهم وفقًا للأوهام والاحتمالات ومقارنتهم رجال الخدمة بأنفسهم، فهؤلاء لما ظفروا بالقوة والنفوذ حاولوا من خلالهما تعزيز مناصبهم وإمكانياتهم المادية، واستغلالهما في القهر والتضييق على الذين لا يفكّرون مثلهم، وخافوا أن يفعل الآخرون الشيء نفسه، ونظرًا لأنهم نفذوا بأساليب ملتوية إلى مفاصل الدولة في فترة ما، وبعد ذلك فرضوا نُظمًا للوصاية من أجل التحكم فيمن لا يفكر مثلهم فقد فسروا المسألة بما يتوافق مع أفكارهم ومشاعرهم، وزعموا وجود بعض الأجندات السرية لدى رجال الخدمة الذين فتحوا صدورهم للجميع، ومن أن هؤلاء ذوي الكسبِ غيرِ المشروعِ هم شرذمة قليلون؛ إلا أنهم أثّروا في شرائح كبيرة من الشعب، وشوّهوا أذهانهم.
فمثلًا عزّ على البعض أن يتقلّد غيرُهم وينجح في القيام بمسؤوليات ووظائف مهمّة في الدولة، فراحوا يتحدثون عن نفوذ رجال الخدمة داخل أركان الدولة، وتشكيلهم كادرًا فيها، علمًا بأن الجميع مواطنون في هذه الدولة ومن نسيجها، ولكلٍّ الحق في الاشتغال بالوظيفة التي يرغبها بعد استحقاقه لها، وادعاء خلاف ذلك ضربٌ من التمييز.. ولقد ذكرتُ هذا من فوق المنبر قبل أربعين أو خمسين عامًا، قلتُ لجموع المصلين حينها: “لماذا يرسل المتدينون في هذه الدولة أولادهم إلى المعاهد الدينية، ومدارس الأئمة والخطباء، وكليات الإلهيات فقط؟ ألا توجد مدارس أخرى في هذه الدولة؟ لماذا لا تعلّمون أبناءكم في كلية الطب؟ ولا توجهونهم إلى كلية العلوم السياسية والقضاء والأمن والكلّيات العسكرية؟ هذه الدولة دولتنا، وهذه المدارس مدارسنا، فيجب أن يوجه مواطنو هذه الدولة أبناءهم إلى كل المجالات التي يرونها جديرة بهم ونافعة لهم”.
لقد ناديتُ قديمًا بكثيرٍ من هذه الأفكار جهارًا نهارًا، وبأريحيةٍ تامّة من على متن المنبر، ولو تكرر الأمرُ اليوم لذكرتُ الشيءَ نفسَه، ولكن رغم ذلك ما زال البعض يتحدث عن مسألة تسلل رجال الخدمة إلى مفاصل الدولة، علمًا بأن التسلل يعني نفوذ عنصر أجنبي إلى بنية الدولة في خفاء؛ فقد يتسلل بعض الأشخاص من أممٍ مختلفة إلى بنية الدولة للتحكم في مقدراتها، أما مواطنو الدولة فلا يُسمّى عملُهم فيها تسلُّلًا، بل التحاقًا، لأن الالتحاق حق من حقوقهم؛ فمن حق أبناء هذه الدولة الحقيقيين أن يتقلّدوا الوظائف في كل مناصب الدولة المهمة، وأن يكونوا من المقرِّرين لمستقبلها، وادعاءُ خلافِ ذلك هو عطبٌ فكري.
من جانبٍ آخر فليس من الصواب مطلقًا الانزلاق وراء أوهام وشبهات متعلقة بالمستقبل؛ لأنه لا بد وأن رجال الخدمة غدًا سيتحركون على نفس النهج الذي يسيرون عليه اليوم، فمن بين الدساتير المهمة عند هؤلاء: أن يتوجّهوا بالمحبة والشفقة إلى جميع الإنسانية، ويحتضنوا الجميع، ولا يتخلّون عن المروءة والإنسانية حتى إزاء أعدائهم الألدّاء، فإن كان لا بد من الحديث عن أجندة هؤلاء فإنني أقول: إن هذه الأجندة لا وجود فيها لشهرةٍ أو صيت، أو منصب أو موقع، أو أي سلطنة دنيوية؛ الشيءُ الوحيد الذي ينشدونه هو رضا الله تعالى، أما ما دون ذلك من مصالح وأطماع فقد أوصدوا كل الأبواب دونها.
دعكم من المناصب والسلطات الدنيوية، إن هؤلاء الرجال لا يرون من الصواب -أو لا ينبغي أن يروا- تعليق خدماتهم حتى على مصلحة أخروية؛ فمثلًا قد يتجرع الإنسان بعضَ المعاناة والآلام في سبيل الخدمة التي يبذلها إرضاءً لله، كأن يتعرض للملاحقات والتحقيقات والتهديدات والنفي والحبس وهجر الوطن، فلو أنه تمنى في نفسه الجنة مقابل ما يلقاه فقد طلب شيئًا زهيدًا للغاية، إذ كيف نطلب ما هو أدنى من رضا الله، طبيعيّ أن يسأل العبدُ اللهَ الجنةَ في دعائه والبعد عن النار، ولكن تعليق عمل الخير على هذا الأمر يعني طلب القليل رغم وجود فرص للفوز بمكاسب أفضل وأعظم.
والآن فإن لم تكن الجنة هي الهدف من هذه الفعاليات الجميلة التي تتحقق باسم الخدمة فإن أي سلطنة دنيوية -في رأيي- لا قيمة لها بجانبها، ولذلك فإذا كان جزاء هذه الخدمات رضا الله ومرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى، فلا نجعل من خدماتنا وسيلة للوصول إلى أي مقامات أو مناصب دنيوية.. ولذا فإن نيابة البرلمان، والوزارة، ورئاسة الوزراء، وغيرها من المناصب التي يُشار إليها بالبنان ويتهافت عليها الناس ويصفقون لأصحابها هي بعيدة كل البعد عنا، حيث إننا نراها تردّيًا عن الموقع الذي نتواجد فيه، فلا يصح لمن ظفر بالدخول إلى دائرة الحرم ومخاطبة السلطان أن يطلب ما يطلبه الذين يقفون في الممرات!
اختلاف عالمهم الفكري
ومِن المعلوم لدى الكثيرين ما قام به متطوعو الخدمة من تضحيات رائعة في تركيا أو في أنحاء مختلفة من العالم، ومَنْ تربطه بهؤلاء الفدائيين علاقةٌ قريبة فقد اطّلعَ قطعًا على تلك التضحيات، ولا شك أنهم تحدثوا مرات ومرات عن الخدمات التي قام بها هؤلاء الفتية الذين أنهوا جامعتهم حديثًا ورحلوا إلى بلادٍ وراء البحار يجهلون حتى اسمها وموقعها على الخريطة، فقاموا بوظائفهم هنالك وعملوا كالعمّال عند تشييد المدارس بأجورٍ زهيدة يتقاضونها أحيانًا ولا يجدونها أحيانًا أخرى.
إن تضحيات هؤلاء ليست متعلقة بزمن معين، فما زال العديد من متطوعي الخدمة رغم بلوغهم أرذل العمر يواصلون هذه التضحيات.
وهذا يؤكد لنا أنه من غير الممكن أن تتحقق هذه التضحيات من أجل قضاء باقي سنوات العمر في أريحية وهدوء، أو بغية الحصول على بعض المقامات والمناصب الدنيوية؛ لأن الحصول على بعض المنافع الدنيوية لا يجدر به كل تلك المعاناة وهذا القدر من الحرمان، إن الهدف الكامن وراء هذه التضحيات كما ذكرنا سابقًا هو نيل رضا الله وتحقيق السعادة الأخروية، وهذا يعني أن هذه القلوب المضحية لا تنشد إلا النجاح بمدِّ يد العون للآخرين، وتخليصهم من مستنقع الجهل والفقر والفرقة.
ولكن من المتعذر أن يفهم هذا أولئك الذين تربوا في محيطات ثقافية مختلفة عنكم ولا عِلْمَ لهم بعالمكم الفكري، إذ كيف لهم أن يستوعبوا معنى هذه التضحيات دون أن يخالطوكم أو يعرفوا خصائص الطريق الذي تسيرون فيه!
إن أولئك الذين لم يقوموا بأي تضحية في حياتهم إلا وفكّروا في المصلحة التي تعود عليهم من خلالها؛ إنما هم دنيويّون، يقضون كل أعمارهم في الركض خلف الدنيا الفانية، ولذا من المستحيل أن يفهموا الخدمات التي تحققت بروح التفاني ودون تشوّفٍ لأي غرض دنيوي؛ لأن هؤلاء لم يفكروا في مثل هذا، ولم يسمعوا عنه، ولم يشاهدوه، ولم يعيشوه.
أن نحسن التعبير عن أنفسنا
وإنني بهذا القول لا أقصد تبريرَ مخاوفهم وشكوكهم في هذه المسألة أو أبحث عن عذر لهم، بالعكس فإنني أقول هذا بغيةَ فهمِ ما يجري على الوجه الصحيح، وتحديدِ ما ينبغي عمله بشكل سليم، إذ علينا أن نواصل شرح المسألة وتوضيحها حتى وإن لم يفهموا، وأن نحاول الاقتراب منهم وإن كانوا بعيدين عنا، وألا نكتفي بالتبليغ مرة أو اثنتين أو ثلاثة، بل نواصل شرحنا وتوضيحنا كما كان يفعل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرة الرابعة والخامسة والسادسة…
وكلكم يعلم ما فعله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عمرو بن هشام المشهور بأبي جهل، وكيف أنه ذهب إليه يدعوه إلى الإسلام ربما خمسين أو مائة مرة، لقد كان أبو جهل بالفعل إنسانًا يصعبُ إقناعه بالإيمان باعتباره شخصًا مصرًّا على الكفر والضلالة، وكما كان عنيدًا إلى أقصى حدّ، كان أيضًا يرى نفسه أفضل من الآخرين، وينظر إلى الجميع من برج عاجيّ، كان -وهو سيدٌ من سادات بني مخزوم- يحلم باليوم الذي يرأس فيه مكة كلها، ولذا لم يستسغ ظهورَ إنسانٍ آخر يُدير هذا المجتمع ماديًّا ومعنويًّا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم صاحبُ الفطنة العظمى على علمٍ بهذا كله، ومع ذلك لم يكترث بالأمر، ومضى يواصل تبليغه، لأن التبليغ واجبُه، أما الهداية فهي من الله وحده.
ولهذا يجب ألا نقنع بما نفعله في سبيل تبليغ مشاعرنا وأفكارنا، ونواصل التعبير عن أنفسنا مرة بعد أخرى، ذات يوم جاءني شخص مهم وقال لي: “ما زال هناك العديد من الناس من شرائح مختلفة يجهلون روح الخدمة ومعناها”، وهذا يعني أننا قد ركنّا إلى الدعة والخمول، فلم نستطع أن نعبّر عن ذاتيتنا للآخرين بشكل صحيح، ولم نقم بما ينبغي، سواء بأقوالنا أو بأفعالنا، ولم نعط الآخرين فرصةً للتعرف علينا عن كثب، ورغم أن خدماتنا ارتقت عموديًّا فقد ظلّ تعريف الآخرين بهذه الخدمات يجري بشكل أفقي.
ومن ثَمّ ينبغي ألا نتكاسل أو نتباطأ في هذا الموضوع، ولو لزم الأمر يجب السير إلى أقدام هؤلاء فردًا فردًا كما كنا نفعل أثناء فعاليات الحوار في التسعينات من القرن المنصرم. أجل، إذا كنا نريد ألا تعترضنا المشاكل في طريقنا، فلا بد أن نوسّع المحيط الذي نتواصل معه بقدر ارتقائنا وتوسُّعنا في الخدمات، وإن كنا لا نريد أن يقطع طريقنا على التوالي هؤلاء الذين أُشرِبت قلوبهم بالحسد والغيرة والعداوات التي ورثوها عن الماضي، فيجب أن نواصل تجديد خطواتنا في سبيل تحطيم هذه العداوات وتهيئة البيئات وتكثير عدد المتعاطفين معنا وإقامة الصداقات.
ألَا تودّون أن يدرك الآخرون جمالياتكم ويشاركوكم دربكم ذات يوم؟! ألا ترغبون في أن يدافعوا عنكم ضد المفترين؟! إذًا يجبُ عليكم إذا رأيتموهم يخطِئون في التعرف عليكم بسبب اختلاف ثقافتهم وفكرهم ويتمادون في اتهامكم دون وجه حق؛ أن تواصلوا بإصرار وعزيمة التعبيرَ عن استغنائكم وإخلاصكم وصدقكم ومحبتكم وسماحتكم وعدم تشوّفكم لأي غرض دنيوي، وحتى يتسنى لهم التعرّف على حقيقتكم وإدراك ما تحملونه من مشاعر في سبيل خير الإنسانية؛ فلا بد أن تخالطوهم فترةً مديدة، واعلموا أن شكّهم وريبتهم فيكم ستستمرّ حتى تأتي اللحظة التي تحسنون فيها التعبير عن أنفسكم.
فإن كنتم تريدون أن يأتي الناس إليكم سائرين فاذهبوا إليهم راكضين متخلّقين بالأخلاق الإلهية، وإن كنتم ترغبون أن يفتحوا صدورهم لكم فابدؤوهم أنتم بفتح صدوركم لهم، وإن كنتم تترقّبون منهم البسمة فقابلوهم بوجه طَلْق، افتحوا قلوبكم للجميع حتى يفتح الآلاف قلوبهم لكم، انفذوا إلى أعماق القلوب حتى لا تلقوا أيّ ردّة فعل في أي مكان، واقتربوا من الجميع حتى يقتربوا منكم.
وإلى جانب كلِّ هذا إن أردنا أن يفهمنا الآخرون ويتعرفوا علينا بشكلٍ صحيح فعلينا أن نعامل الجميع بوضوحٍ وشفافية مطلقة، وأن نظهر دائمًا ما نكنّ لهم من مشاعر صادقة، ولكن يجب علينا عند فعل ذلك أن نراعي مستوى فهم الآخرين، ولا نقع في خطإ انتقاء الأسلوب الذي نعاملهم به.
فضلًا عن ذلك يجب أن نفعل ما نفعل بما يتوافق مع قوانين ولوائح البلاد التي نتواجد فيها، بل علينا قبل أن نخطو أي خطوة أن نتقابل مع المسؤولين في تلك البلاد، وأن نأخذ الإذن منهم في القيام بخدماتنا، وندعوهم إلى البرامج والفعاليات التي نقيمها، ونفتح مجالسنا للجميع حتى يتعرفوا علينا عن قرب، وأن نُظهر للجميع أننا جديرون بحفظ الثقة وصيانة الأمانة، ولا يمكن أن يأتي الضرر من قِبَلنا.
ومن ثَمّ يجب أن نتجنّب كلَّ فعلٍ أو سلوك يدعو الآخرين إلى التوجس خيفة منا؛ حتى لا نفتح المجال لأن يخطئوا في تفسيراتهم أو يراودهم حسٌّ بأننا نشتغل بأمور خفية من ورائهم، ويجب ألا تنسوا أن خطأكم في مثل هذه الأمور لن يضرّ فقط بخدمة أصدقاء دربكم الذين يعملون في الخدمة في كل أنحاء العالم، بل سيصعِّب أمر أصدقائكم المتعاطفين مع أفكاركم وأمرَ خلَفِكم القادمين من بعدكم.
ولا شك أن نجاحكم في هذا الأمر لن يتحقق في التوّ واللحظة، بل ستجدون صعوبة في البداية، ويظل الشك يساور هؤلاء نحوكم حتى اللحظة التي تستطيعون فيها التعبير عن أنفسكم بشكل صحيح، غير أن مخاطبكم بعد أن يجرّبكم سنوات طويلة ويرى أنكم أمناء ثقات سيشرع في الحديث عنكم لغيركم، ويقول: “إن هؤلاء موضعُ ثقة، لا يتأتى الضرر منهم ألبتة”، ولا شك أن حديثهم ودفاعهم عنكم سيكون تزكيةً مهمّة بالنسبة لكم، وسيَنتُجُ عنه تأثيرٌ أبلغُ من حديثكم عن أنفسكم.
لا مناص أن يتمخض الزمان عن أمثال أبي جهل وعتبة وشيبة، لكن صوت الرأي العام ونفَسه وحماسَه سيقطع أنفاسهم.
وجدير بالإنسان أن يفعل كل ما بوسعه للوصول إلى مثل هذه النتيجة؛ لأن ما نتحمله ولا نستسيغه اليوم سيأتي يوم ويُفرحنا، ولا ننسَ أن مهمتنا هي الاستثمار في الإنسان، أما نتيجةُ هذا الاستثمار فقد تستغرق على الأقل ربع قرن، وأحيانًا نصف قرن.
بقلم/ فتح الله كولن
المصدر: موقع فتح الله كولن