ومن المعلوم أن للمفاهيم دور هام في تقدم الأمم أو انحطاطها باعتبارها الوعاء الذي يحوي ثقافتها وفكرها، فبمجرد استعارة مصطلح من ثقافة معينة أو من حقل معرفي آخر، ثم يتم تداوله على أساس التطابق والتماثل مع المصطلح الأصل، يبدأ الخلل يتسرب إلى النظام الفكري والثقافي للأمة، وإن بقي هذا الزيغان المفاهيمي مستمرًا سيتآكل جسدها إلى أن تنهار أصولها وثوابتها وأركانها التي قامت عليها، وبعد ذلك سننتقل من حالة تسرب المصطلح من ثقافة أخرى، إلى حالة ترسب مضمون ذلك المصطلح الوافد على ثقافة الأمة، ومن ثم تلحق مفاهيمها عدة أمراض من قبيل الميوعة والغموض والتشويه..
وقد عرف المصطلح القرآني تحولات مختلفة على مدى أربعة عشر قرنًا، حيث أُفرغ من محتواه القرآني وحمل دلالة تاريخية في كثير من الأحيان وصارت هي الموجهة للأمة بدل الدلالة القرآنية، وصارت المصطلحات والمفاهيم مقيدة ومؤطرة بما أنتجه التاريخ من تقنينات مدرسية ومذهبية، وغابت عنها الدلالة القرآنية التي تتسامى عن محددات الزمان والمكان والإنسان، الشيئ الذي نتج عنه تخلف في فهم الآيات القرآنية علمًا وعملاً.
ومن التعثرات الأخرى التي أصابت المفاهيم الإسلامية سيطرة المفاهيم الغربية على العقل المسلم، مما جعله يدخل في صراعات عقيمة منعته من مواصلة الإبداع والبناء المعرفي، مما أدى إلى تخلف على مستويات عدة انعكست نتائجها على المستوى الحضاري.
ولا سبيل إلى تصحيح الصورة والمسار إلا برد الاعتبار لكتاب الواحد القهار، وتحكيمه في الواقع، انطلاقا من الوعي بأنه مصدر كلي للمعرفة الكونية في أبعادها المختلفة، ولا يتأتى ذلك إلا بالبدء بتنقية المفاهيم – باعتبارها مفتاح الدخول إلى رحابه – وإزالة ما علق بها من أوهام الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ثم إعادة بنائها بناء قرآنيًا يتجاوز الترسبات التاريخية المحيطة بها من كل حدب، ومن ثم فهم القرآن حق الفهم وتدبره حق التدبر، لإعادة إحياء الأمة بالقرآن، باعتباره حبل الله المتين وهداه المستقيم، المتضمن لنبأ من قبلنا، وخبر ما بعدنا وحكم بيننا، فمن تغافل عن المحددات والخصائص الموجود في آياته وسوَره وابتغى الهدى المعرفي والمنهاجي من خارج سُورِه، أضله الله، ومن تركه بالجملة قصمه الله.
وهذا البناء المعماري للمفاهيم من صميم عمليتي التدبر والتذكر، بالإضافة إلى اتسامه بالانضباط المنهجي، الذي لا يجعله يتوقف في الصياغة النظرية بل يتعداها إلى مرحلة التطبيق والتأويل في الواقع، فالمفهوم القرآني لا يدور فقط في إطار الدلالة اللفظية، بل يمتد ليشكل صياغة جوهر الوعي وتحقيق الحيوية الحضارية، التي تؤثر في البناء المعرفي وفي السياق الفكري والحضاري حسب الدلالة المودعة فيه، وهذا ما يضفي على ألفاظ الوحي واقعا تفاعليا وحركيا. وإن أعظم فرية وأكبر مرية هجران القرآن وبيانه أثناء محاولة تأصيل المفهوم وبيانه، فالأصل عدم الاستغناء عن الأصل كمصدر تأسيس في عملية بناء المفاهيم، لاحتوائه على المنهج الفصل.
وبما أن المشكلة تكمن في غياب منهج في التفاعل مع القرآن والانفعال به، سيتم تناول لفظ (التدبر) لكونه من الألفاظ الحاوية لمنهج قراءة الوحي حق القراءة، ولانطوائه على غايات عميقة، وهذا يستدعي استكشاف دفائنه، واستكناه مقاصده، واستنباط أبعاده ودلالاته، المعرفية منها والحضارية على السواء.
ونجد أن القرآن الكريم نفسه هو الذي بين منهج التعامل مع المصطلحات والمفاهيم وعدم الخلط بينها ، مع ضرورة إدراك الفروق بينها ، يقول الله عز وجل) قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ((الحجرات:١٤)، ففي هذه الآيات وجهنا الله تبارك وتعالى إلى استبدال ألفاظ بألفاظ وكذا إلى حسن الدقة والتمييز بينها؛ وأيضًا في الحديث النبوي الشريف نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكد على ضرورة تسميات الأشياء بمسمياتها، فعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ” لاَ تُسَمُّوا العِنَبَ الكَرْمَ ، وَلاَ تَقُولُوا : خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْر”،ُ ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تُسَمَّى المغرب العشاء، فقال:”لاَ تَغْلِبَنَّكُمُ الأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلاَتِكُمُ المَغْرِبِ”، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي”.
على ضوء هذا المنهج تجند العلماء من مختلف الأمصار والعصور، وبذلوا وسعهم وطاقتهم من أجل كشف معاني ألفاظ القرآن الكريم، وتنوعت تلك الجهود بتنوع توجهاتهم ومذاهبهم.
الخصائص المنهجية والمعرفية في مقاربة المصطلحات القرآنية
إن طبيعة اللفظ القرآني تجعل الدارس له بين أمرين هامين: فأما الأول فهو الخطورة المنهجية في مقاربة مفرداته ونجومه، حيث يَفرض على مُستَنطِقه المنهج الذي من خلاله يلج إلى أبوابه لاستكناه أسراره، أما الأمر الثاني فهو الضرورة المعرفية، حيث تقتضي إعادة القرآن الكريم إلى مركزيته في تأسيس المعارف والعلوم، ومن ثم تحقيق شهود الأمة الحضاري، من خلال رؤيته الشمولية المحددة لمعالم ومنطلقات استخلاف الإنسان في هذا الكون.
وبطبيعة الحال فإن خصائص لسان القرآن تستدعي أولاً اكتشافها، ثم تفعيلها أثناء مقاربته لمصطلحاته وتثوير آياته، حتى تكون سياجا يحمي الدارسين من الخروج عن دائرة القرآن، أو أن يتعامل معها بمنهج لا يقبله القرآن.
“وهذه الخصائص تتنوع وتعدد بتعدد زوايا النظر، وتنوع المتدبرين، وهي غير قابلة للحصر؛ لأن القرآن مطلق، والإنسان نسبي، وليس من شأن النسبي أن يحيط بالمطلق، أو يحصر صفاته وخصائصه المطلقة، ولكل متدبر لآيات الكتاب الكريم نصيب، فكل متدبر يأخذ بالخصائص التي يقارب القرآن المجيد من زاوية النظر إليها”.
ومن الخصائص التي ينبغي أن يتخذها الباحث في القرآن الكريم عمومًا، والدارس المصطلحي خصوصا ما يأتي :
ربانية المصدر
إن المتعامل مع القرآن الكريم لابد أن يستحضر أنه كلام الله جل ثناؤه، أي أنه رباني المصدر، قال تعالى(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا)(النساء: ١٧٤)، وقال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)(يونس: ٥٧) وقال أيضًا(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(الشورى: ٥٢)، وغير ذلك من الآيات التي تدل على مصدرية القرآن الكريم، وأنه وحي من عند الله عز وجل؛ من ثم ينفرد عن غيره ويتميز عن سواه، يقول الدكتور فريد الأنصاري:”إن الكلمات العربية في القرآن شموس، وهي في غير القرآن، من الخطاب البشري أقمار تدور حولها، طوعًا أو كرهًا. وإنما وظيفة الأقمار أن تعكس ضياء الشموس، فتصبح ماهيتها بها نورًا. أو بعبارة أدق: الكلمات في القرآن هي عين المثال فلها دلالة مطلقة على الكمال الإلهي، لكنها في سائر الكلام البشري محاولة امتثال ذلك المثال، ومن ثم –فإنه إذا نظرنا إلى المصدر المرجعي للفكر الإسلامي- المتمثل في الوحي، وتعاملنا معه في سياق النص؛ فإنه يتعين علينا مراجعة المدلول المعنوي والحقل المفهومي للمصطلح على نحو يخرجه من الأطر الوضعية التي تختزل وتقلص، وتخلط وتُسوي، ولا تميز بين النص الموحى، والنص البشري؛ من مدونات، ومؤلفات، ومحفوظات يتناقلها أهل العلم وأرباب الصناعة الحضارية، وتهيمن عليها النسبية البشرية”.
التنزيل
على الرغم من أن نزول القرآن قد انتهى، فإن التنزيل ممتد عبر زمن التكليف، ولاستنباط الهدى والمعرفة من أي مصطلح قرآني يقتضي الأمر مراعاة سياق النزول واستحضار مناسبته لما قبله وبعده، وهذا ما أكده الشاطبي في المسألة الحادية عشرة من موافقاته بقوله: “المدني من السور ينبغي أن يكون منزلاً في الفهم على المكي، وكذلك المكي بعضه مع بعض، والمدني بعضه مع بعض، على حسب ترتيبه في التنزيل، وإلا لم يصح، والدليل على ذلك أن معنى الخطاب المدني في الغالب مبني على المكي، كما أن المتأخر من كل واحد منهما مبني على متقدمه، دل على ذلك الاستقراء، وذلك إنما يكون ببيان مجمل، أو تخصيص عموم، أو تقييد مطلق، أو تفصيل ما لم يفصل، أو تكميل ما لم يظهر تكميله”.
فدراسة أي مصطلح قرآني لابد من التأكيد على مراعاة خاصيتي الإنزال باعتبار القرآن الكريم نزل نجومًا عبر ثلاث وعشرين سنة، وخاصية التنزيل لكون القرآن الكريم لا تحصره حدود الزمان والمكان والإنسان، بل يساير زمن التكليف والاستخلاف.
الكونية والاستيعاب
إن من أهم مظاهر إعجاز القرآن الكريم خطابه العالمي، المستوعب للإنسان والمكان والزمان، يقول الله عز وجل (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)(الفرقان: ١)، فتجاوز القرآن العظيم الجغرافية القُطرية لينفتح ويخاطب العالمين، بمختلف شرائحهم وأجناسهم وألوانهم، حيث لم يقتصر خطابه على فئة معينة كما هو شأن الكتب السابقة، بل جاء للناس كافة، بهدف توجيههم وإمدادهم بمقومات الاستخلاف، وتتجلى كونية القرآن في كونية مفاهيمه، فهي “نسق مفتوح غير منغلق، ولهذا استطاع الإسلام عندما جاء أن يستوعب كل الفضائل وكل المفاهيم التي لها صفة إيجابية في التراث الجاهلي العربي، أو حتى في تراث الأمم المخالفة للإسلام. إذ ليس هناك مشكل في الثقافة الإسلامية وفي المفاهيم الإسلامية أن تستوعب مفاهيم أجنبية على أساس أن تصبح لهذه المفاهيم الأجنبية وظيفة أخرى داخل النسق القرآني أو داخل النسق الإسلامي عمومًا”.
الهيمنة والتصديق
جاء القرآن الكريم مهيمنا على الكتب السابقة ومصدقا عليها، قال تعالى(قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)(البقرة: ٩٧)، وقال(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ)( آل عمران: ٣)، وقال(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ )(المائدة: ٤٨)، وقال: (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ)(فاطر: ٣١) وقال(قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ )(الأحقاف: ٣٠).
والمتدبر لهذه الآيات ، يجد للتصديق والهيمنة وجهتان :
“الأولى: إزاء الكتب السالفة؛ فهناك تصديق لما صح من هذه الكتب، ثم هيمنة عليها في تكامل تام معها. والوجهة الثانية إزاء ما يمور ويعتلج في حياة الناس وارتفاقاتهم من ممارسات وما هو مستقر فيها من أعراف.
والتصديق في هذه الوجهة عبارة عن إقرار الصالح من كل ذلك بالسكوت عنه أو الثناء عليه، وتغيير الطالح بالحديث عنه وكشف مساوئه” وفي السنة النبوية، نجد الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يشبه النبوة كلها بالبناء المكتمل ، الذي وضع لبنته الأخيرة، فتحقق بذلك تمام النبوة والرسالة:”إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ”.
“وتعد العالمية أحد مقتضيات الخاتمية، والهيمنة من لوازمها، فمجيئ الرسالة خاتمة للرسالات يقتضي الهيمنة على غيرها من الرسالات ، وهذا يلزم منه عدم حصرها في أمة دون أخرى ، والقرآن الكريم ينص على ذلك ويقرره موجهًا نداؤه للناس كافة) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)(سبأ: ٢٨(؛ فالعالمية هنا “تضفي طابع الشمول والاستيعاب وامتداد الأمة في علومها ومعارفها كامتداد رسالتها، بدل الفكر الطائفي والفرقي الذي لا ينتج إلا لنفسه وفي محيطه.. وهذا ما يفسر دقة استيعاب الأجيال الأولى للرسالة واستنفارهم للتبليغ والأداء والتفاعل مع المحيط العالمي”، “فرسالته صلى الله عليه وسلم ليست لفئة من الناس دون غيرها، وإنما هي للناس كافة؛ العرب منهم والعجم والأحمر والأسود )قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا((لأعراف: ١٥٨)”.
وعلى هذا الأساس “فلا يمكن لأي مفهوم من هذه المفاهيم أن يتحيز في مرحلة زمنية معينة أو ينحاز إلى فئة دون أخرى، لأن المفهوم القرآني وإن كان واحدا فهو يسمد إطلاقيته من الوحي نفسه”، “إذ القرآن الكريم خطاب إلهي شامل لجميع طبقات الجن والإنس، ولكل العصور، والأحوال والظروف كافة”، ومعانيه “معان شاملة كلية وعامة لا تقتصر على طائفة معينة أو على معنى جزئي، بل يقدم أطيب الأغذية وألذها طعمًا إلى ألوف الطبقات المتباينة من الجن والإنس، فيوفي حاجة أفكارهم ويشبع عقولهم ويغذي قلوبهم وينمي أرواحهم، كل ما يليق به؛ وذلك لأنه وحي سماوي وخطاب صمداني يخاطب الله سبحانه جميع طبقات البشر المصطفين خلف الأعصار، فيجيب عن أسئلة واستفسارات جميع الطوائف ويلبي حاجاتهم كلها؛ فلا غرو أنه كلام رب العالمين، صادر من أرفع مراتب الربوبية المطلقة”، وله “جامعية خارقة من خمس جهات: في لفظه، في معناه، في أحكامه، في علمه، في مقاصده”، “ونزل مهديًا وموصلا ًلغايات إرشادية متدرجة متفاوتة مع كمال الاستقامة والموازنة والنظام كأن المقصد واحد”.
“فالقرآن بخصائصه -ولا مصدر سواه- يستطيع أن يقوم بالتصديق والمراجعة ثم الهيمنة على سائر المناهج المطروحة، وإعادة صياغتها ضمن منهجه الكوني. والقرآن -وحده- وبتصديقه وهيمنته قادر على استيعاب تلك المناهج وإصلاحها وتنقيتها وترقيتها ثم تجاوزها إيجابيًا دون الوقوع في شراك خصومة لاهوتية سلبية”.
وبهذه الخصائص –العالمية والهيمنة والتصديق- تكون ألفاظ الخطاب القرآني معادلاً للوحي الإلهي وبديلاً عنه في مرحلة ختم النبوة، وهذا يقتضي “أن يكون لدى الباحث وضوح في القضايا التي يريد أن يستنطق بخصوصها القرآن المجيد في علاقته بالهيمنة، إذ حين اتضاح هذه القضايا فإنها تكون بمثابة التضاريس الفكرية والنفسيية والوجدانية التي من شأنها أن تمكن الدارس من التقاط ما يتعلق بالموضيع المبحوث فيها من إشارات؛ وإلا فسوف تغلب على البحث العمومية والسطحية.
وهذا “مفاده وجوب تتبع المصطلحات قيد الدراسة في كل مواطن ورودها ، واعتبار السياقات التي يتم فيها هذا الورود قبل أي تعريف لهذه المصطلحات”.
الاكتناز المعرفي أو “الإنتاجية”
نقصد هنا بالإنتاجية استمرارية النص في العطاء والإمداد، قال جل شأنه (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)(الإسراء: ٢٠)، سواء من حيث بيان ما في هذا النص وتنزيله في الواقع، أو استنباط معارف متجددة تخدم مسار الإنسانية ، “فللمصطلح القرآني في دلالته على المعاني أبعادًا واسعة تزيد بكثير عن دلالات الألفاظ البشرية، فلألفاظ القرآن من هذه الجهة تفردها المطلق وكمالها الإلهي العظيم الممتد في الغيب نفسه قال عز وجل( قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا)(الكهف: ١٠٩) وقال سبحانه(وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(لقمان: ٢٧) فللمصطلح القرآني القدرة “على الاستجابة لكل ظرف تاريخي مهما كانت خصائصه، أو سقفه المعرفي، فيستوعبه، ويستمر في تجاوزه باتجاه المستقبل بعد أن يقوم بتلبية احتياجاته من الهداية والحقائق والنور. والقارئ التالي المتدبر بعد التحاق المتلقي الأول محمد صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، هو الإنسان الباحث عن الحق، الطالب للهداية.بحيث كل مصطلح قرآني عبارة عن نسق مفتوح فيه من المعاني والمقومات ما يصلح لتدبير الإنسانية، مما يستلزم مدوامة التدبر في ألفاظه المفسرة للوجود والمعادلة للكون.
إذن فالقرآن الكريم “ينطوي على واقع ويستوعبه، وإن تجاوزه متساميًا منه وبه إلى غيره من مجالات واقع متجدد ومستحدَث، ومن ثم جاء نصًا مرشدًا معلمًا يحمل “معالم الإطلاق” دون أن يفقد قابلية التنزل استجابة لدواعي النسبية في مواقف تحكمها حدود المتناهيات فيستوعبها ويتجاوزها”.
النسقية القرآنية
من المعلوم أن تضافر الألفاظ وتعاضدها داخل نسق واحد هو الذي يولد المعاني ويخرجها من سياجها وسجونها، ليحررها ويقودها إلى عالم البيان والإفادة، فإذا اختل تماسكها وتغير ترتيبها الذي به تشكل ذاك المعنى، انتقلت من تمام البيان إلى زنزانة الهذيان، وقد يصبح لتلك الألفاظ مدلولات أخرى في أحسن الأحوال، وللجرجاني كلام نفيس في هذا الباب حيث يقول:”الألفاظ لا تُفيد حتى تُؤلَّف ضرباً خاصّاً من التأليف، ويُعْمَد بها إلى وجه دونِ وجهٍ من التركيب والترتيب، فلو أنك عَمَدت إلى بيت شعرٍ أو فَصْل نثرٍ فعددت كلماته عَدّاً كيف جاء واتَّفق، وأبطلت نضدَهُ ونظامه الذي عليه بني، وفيه أفرغ المعنى وأجري، وغيّرت ترتيبه الذي بخصوصيته أفاد ما أفاد، وبنَسَقِه المخصوص أبان المراد”.
إذا كان هذا ينطبق على أي كلام فما بالك بالكلام الذي فُصِّل أحسن تفصيل وأحكم أحسن إحكام، وكل لفظ له مكانه، إذ لا يقبل أن يَحْتلَّ لفظ آخر ذلك الموضع، وبذلك ينفرد القرآن عن غيره، فهو “منفصل عن سائر الكتب المنزلة وغير المنزلة، متفوق عليها -جميعًا- بخصائصه ومزاياه، ونظمه وبلاغته وفصاحته، وهو في الوقت ذاته واحد في داخله بهذه المزايا والخصائص، تنتظم حروفه وكلماته وآياته وسوره في سلك واحد. والقرآن واحد في كونه متفردًا من تلك الحيثية، ومن حيث الأهداف والمقاصد والغايات والآثار حتى ليبدو في ذلك –كله- كما لو كان كلمة واحدة، أو جملة واحدة؛ لأن الواحد –في الحقيقة- ما لا جزء له البتة؛ فلا يقبل “التعضية” أي : التقسيم إلى أعضاء قابلة للانفصال ، ولا يقبل التحويل والتغيير والتبديل فيما يتألف منه”.
فالقرآن في بنائيته الحرفية يماثل البنائية الكونية بحيث إذا تفلت نجم عن موقعه اختل النظام الكوني كله، ولهذا قابل الله بين البنائية الحرفية للقرآن ومواقع النجوم ، فلم يقسم –سبحانه- بالنجم ولكن أقسم بمواقعها في سياق تعريفه بخصائص القرآن البنائية.
نفهم من هذا أن القرآن الكريم”كون تحكمه بنائية في غاية الانضباط المنهجي.. فكما تخضع البنائية الكونية الطبيعية لضوابط المجموعة الشمسية كلها، فإن خرج نجم عن مداره واصطدم بغيره اختلت موازين الأجرام كله، فكذلك القرآن، بنائيته منضبطة إلى مستوى الحرف وإعرابه وتشكيله، (فلا أقسم بمواقع النجوم). وعلى هذا الأساس يجب التعامل مع الكونية القرآنية. وهذا ما يميز الاستخدام الإلهي للغة عن الاستخدام البشري”.
وهذا الانضباط المنهجي على مستوى الكلمة والحرف هو الذي يجعل مفردات القرآن الكريم في تعاضد وتماسك، بحيث لكل مفردة دورها الوظيفي داخل النسق الكلي للقرآن الكريم، ولا يمكن العروج إلى المعنى المقصود بالاستغناء عن أحد ألفاظه، لأن المعاني تنتسق داخل النظم القرآني كما “تنتسق الحُجُرات في البينان لا، بل إنها لتلتحم فيها كما تلتحكم الأعضاء في جسم الإنسان، فبين كل قطعة وجارتها رباط موضعي من أنفسهما، كما يلتقي العظمان عند المفصل ومن فوقهما تمتد شبكة من الوشائح تحيط بهما عن كثب، كما يشتبك العضوان بالشرايين والعروق والأعضاء؛ ومن وراء ذلك كله يسري في جملة السورة اتجاه معين، وتؤدي بمجموعها غرضًا خاصًّا، كما يأخذ الجسم قوامًا واحدًا، ويتعاون بجملته على أداء غرض واحد، مع اختلاف وظائفه العضوية”.
إذن فكل مفهوم قرآني له هذه الخاصية “ضمن المجموع النسقي للمفاهيم، يشتغل لذاته ولغيره في الوقت نفسه. وذلك أشبه ما يكون بعمل أعضاء الإنسان، فكل عضو له وظيفة خاصة لا يقوم بها غيره ووظيفة عامة يقوم بها مع غيره في شكل نظامي مطرد إذا تعطل وقع الخلل”.
فالمفاهيم القرآنية “ليست معزولة عن بعضها بعضا، وليست منثورة كيفما اتفق، وإنما هي فصوص في العقد الفريد للإسلام، منظومة نظما بديعا رائعا في نسق؛ إذا نظر إليها، وقد انتظمت أفقيا، تجلى نسقها التصوري الشامل الكامل، وإذا نظر إليها وقد تتابعت تاريخيا في التنزل، تجلى نسقها المنهاجي التنزيلي
وهي في الحالين معا لا تقبل المسَّ بما يخل بنسقيتها: لا تقبل زحزحة في المواقع أو تغييرا في الترتيب، ولا تقبل تغييرا للأحجام أو الألوان، وإلا صار الأمر إلى شيئ آخر غير الإسلام، وقد دخل من هذا الباب على المسلمين عبر التاريخ الطويل العريض شر طويل عريض، مس التصور والتنزيل معاً”.
وهكذا يتضح أن للمصطلح القرآني بعدًا بنائيًا داخل النسق القرآني الذي ينبغي مراعاته لبلوغ حقيقة المصطلح القرآني، إذ لا يجوز فصل المفردة القرآنية عن لسان القرآن وبنائيته وإعطائها مفهوما من خارج نسقية القرآن الكريم.
ومن خلال هذه المداخل المنهجية والمعرفية نستنتج أن مقاربة المصطلحات القرآنية تنفرد في دراستها عن غيرها لما لها من خصائص ينبغي أن يتمَثلها ويمتثِلها الباحث في دراسته للمفاهيم القرآنية، لكون القرآن الكريم خطاب كوني وعالمي يتميز بشموليته وأحاطته، واستمراره في العطاء على مر الأزمان، كما أن مصطلحاته تتعاضد في نسقية محكمة تمنع عنها التحريف والتبديل.