وكرر في المقابلة إصراره وعزمه الذي لا يلين للقضاء على ما أسماه بالتنظيمات الإرهابية، وحددها في (حزب العمال الكردستاني الكردي، وحدات حماية الشعب الكردية بسوريا، حركة “الخدمة”)، رغم عدم وجود أي وجه للمقارنة بين التنظيمات الثلاث، فحركة الخدمة منظمة مجتمع مدني تنشط في 160 دولة حول العالم، والتنظيمين الأول والثاني تنظيمات انفصالية لها أجنحة سياسية وعسكرية.
بيد أن “أردوغان” أصر على محاربتهم والقضاء عليهم جميعا. وأكد في المقابلة أنه استنفذ كافة وسائله لإقناع الولايات المتحدة الأمريكية بتسليمه ملهم حركة “الخدمة” المفكر الإسلامي التركي “فتح الله كولن”، وبرر ذلك بوجود نفوذ قوي جدا داخل واشنطن للأستاذ “كولن” الذي يدعمه ويؤيده الملايين خارج تركيا، وأبدى الرئيس التركي دهشته من ذلك واستخدم عبارة “إنهم يعبدونه!”.
نفى كولن وجود أي تعارض بين الإسلام والديمقراطية، بل إن الإسلام أول دين سماوي يأمر بالشورى بين صناع القرار وهو أهم مبدأ في المبادىء الديمقراطية.
نفس هذا الإصرار على محاربة الخدمة كرره “أردوغان” في مقابلة ثانية بثت له يوم في منتصف فبراير 2019. ورغم أن الرئيس التركي قد أعلن من قبل عن قرب القضاء على الحركة وأعضاءها داخل تركيا، إلا أنه عاد ليؤكد أنهم منتشرون وسيسعى للقضاء عليهم أكثر.
وهذا مؤشر على قيامه بشن حملات اعتقال عشوائية جديدة بحق مواطنيين أتراك، وكذلك داخل صفوف الجيش التركي قبل وبعد الانتخابات المحلية المقبلة 31 مارس آذار 2019. الأمر الذي يطرح عددا من التساؤلات أبرزها .. لماذا هذا الإصرار الشخصي من قبل “أردوغان” في القضاء على “الخدمة”؟ ألم يكفه سجن واعتقال وتشريد نصف مليون موظف حكومي من كافة الفئات (مدنيين، عسكريين، صحفيين، أكاديميين، سيدات ورجال وأطفال) ؟! ولماذا يُقدر الناس داخل وخارج تركيا الأستاذ “كولن”؟ ولماذا يصدقونه؟ لماذا مازال هناك من يدافع عنه؟ ولِم لَم يقتنع أحد خارج حدود بلاد الأناضول بأن الأستاذ هو من دبر الانقلاب العسكري الفاشل في 15 يوليو 2016، وأنه المسؤول عن التراجع التركي السياسي والاقتصادي على المستوى القومي والإقليمي؟
للإجابة على هذه التساؤلات نؤكد على أن:
– “أردوغان” فشل فشلا ذريعًا في إقناع المجتمع الدولي بأن حركة الخدمة إرهابية، رغم أنه يشن حربًا ضروس ضدها منذ خمسة أعوام وأكثر، بالرغم من أنها واحدة من أنجح حركات المجتمع المدني على المستوى العالمي، وتعد الوحيدة التي اتخذت من المشروعات التعليمية رمزا مميزا لها، فالحركة تلهم مدارس وجامعات في 160 دولة بالعالم. ولهذا رفضت جمعية البرلمان الأوروبي دعوات أنقرة المستمرة لتسجيل الحركة كتنظيم إرهابي، وطالبت بالحصول علي أي دليل قانوني يدين الحركة وهذا غير موجود. وأكدت العواصم الأوروبية دومًا أن الحركة لها العديد من الإنجازات داخل دولها.
دعا الأستاذ كولن إلى العودة للحكم الديمقراطي في تركيا من خلال الحكم التشاركي الذي لا يسمح لأي مجموعة بالسيطرة على الآخرين.
وكذلك رفضت واشنطن مطالبات أنقرة المستمرة بتسليم الأستاذ “كولن” لتتم محاكمته في تركيا لاسيما في ظل التقارب التركي الأمريكي الأخير بفعل العلاقة الشخصية بين “أردوغان” ونظيره الأمريكي “ترامب”، مما يؤكد عدم اقتناع الإدارة الأمريكية بتورطه في الانقلاب الفاشل وإدانته.
-لماذا يصدق الناس الأستاذ “كولن”؟ السؤال المحير الذي لم يجد “أردوغان” إجابة عليه رغم أن إجابته مباشرة وبسيطة جدا وتتلخص في كلمة واحدة هي “الصدق”، فالأستاذ “كولن” صادق ومتمسك بمبادئه ومخلص لها منذ خمسين عاما، لم يغير فكرة أو دعوة أو تفسير قدمه لجمهوره من القراء، لم يغير مواقفه على مدار تاريخه ولن يغيره الآن، الأستاذ يدافع عن الإنسان دون النظر لدينه وعمره أو موطنه، الأستاذ يعلي من قيمة الإنسان وحقه في حياة كريمة وتعليم جيد وثقافة مرنة تعترف بالآخر، لم يستغل دينه الإسلامي الحنيف في حشد مؤيديه، أو جمع الأموال أو اعتلاء مناصب سياسية.
بعكس “أردوغان” الذي يعد مرجعًا في السياسة البراجماتية التي تعتمد الدفاع عن مصالحه بأي ثمن وضد أي طرف دون التمسك بأي مبدأ يذكر، فالرئيس التركي منذ توليه السلطة التنفيذية كرئيس للوزراء في 2002 بتركيا ثم رئيس للبلاد في 2014 غير مواقفه مئات المرات، ففي 2010 شن حربًا سياسية على إسرائيل بعد حادثة “مافي مرمرة” وهو يتعاون معها سرا، وأطلق ملايين الوعود الانتخابية البراقة ولم ينفذ منها شىء، تحالف مع دول إقليمية ثم انقلب عليها وأعلن معاداته لها، فتارة يتحالف مع موسكو وأخرى مع واشنطن ثم ينتقد الاتحاد الأوروبي ويعود للمطالبة بالانضمام له. كما أنه استغل قضايا حقوق الإنسان والملف الفلسطيني وقضية ميانمار وملف اللاجئين لحشد الأصوات الانتخابية له ولم يقدم أي جديد لحل هذه الملفات الشائكة. والأمثلة لا تنتهي على تغير مواقف “أردوغان” على الصعيدين الداخلي والخارجي، مما أفقده مصداقيته وضاعف من التحديات الداخلية والخارجية أمام تركيا التي باتت تواجه أزمة اقتصادية صعبة وفق كافة التقارير الدولية.
“أردوغان” فشل فشلا ذريعًا في إقناع المجتمع الدولي بأن حركة الخدمة إرهابية، رغم أنه يشن حربًا ضروس ضدها منذ خمسة أعوام وأكثر.
ومازال الأستاذ “كولن” متمسكًا بمبادئه رغم حملة الاغتيال المادي والمعنوي التي يتعرض لها، وبلغت حد تدبير صهر “أردوغان” خطف الأستاذ من الولايات المتحدة الامريكية وإرساله لأنقرة، بيد أن ذلك لم يؤثر على عزيمة وإصرار الأستاذ “كولن” الذي يتحدى كافة العقبات الشخصية كالمرض والاستهداف الشخصي له، ويصر على الاستمرار بالعمل الذي كان آخره مقاله الهام الذي نشر في صحيفة “لوموند” الفرنسية الواسعة الانتشار يوم 25 فبراير 2019 حول التجربة الديمقراطية التركية، وقدم فيه الأستاذ توصيفا رائعا للمشهد السياسي التركي حيث .. نفى وجود أي تعارض بين الإسلام والديمقراطية، بل إن الإسلام أول دين سماوي يأمر بالشورى بين صناع القرار قبل اتخاذ أي قرار وهو أهم مبدأ في المبادىء الديمقراطية، ووصف الأستاذ الوضع التركي الحالي بأنه انزلاق نحو الاستبداد أثر سلبًا على تركيا، ونزع عنها ثوب “النموذج الديمقراطي المثالي” الذي كانت تطمح إليه معظم الدول الإسلامية في المنطقة. لأن نظام “أردوغان” أصبح يمثل خيانة صارخة للقيم الإسلامية الأساسية.
لأن القيم الإسلامية لا يمكن اختزالها في نمط من اللباس أو شعارات دينية معينة. فالقيم الإسلامية أوسع من ذلك، فهي تشمل سيادة القانون، واحترام استقلال السلطة القضائية، ومحاسبة السلطة التنفيذية، وحماية الحقوق والحريات الأساسية لكل مواطن. ولذلك ففشل التجربة الديمقراطية التركية لم يكن نتيجة للتمسك بالقيم الإسلامية، بل نتيجة لخيانتها. ودعا الأستاذ إلى العودة للحكم الديمقراطي بتركيا من خلال الحكم التشاركي الذي لا يسمح لأي مجموعة بالسيطرة على الآخرين. وحدد الاستاذ “كولن” خطوات إعادة تركيا للمسار الديمقراطي عبر ..
–مراجعة المناهج الدراسية، فمواضيع كالمساواة بين جميع المواطنين أمام القانون، والحفاظ على الحقوق والحريات الأساسية للفرد يجب أن تدرس للتلاميذ منذ السنوات الأولى من التعليم، حتى يصبحوا هم من يحافظ عليها عندما يبلغوا سن الرشد.
رفضت جمعية البرلمان الأوروبي دعوات أنقرة المستمرة لتسجيل الحركة كتنظيم إرهابي، وطالبت بالحصول علي أي دليل قانوني يدين الحركة وهذا غير موجود.
-إعادة صياغة دستور لا يعطي الفرصة لسيطرة وهيمنة أقلية أو أغلبية على الآخرين، ويحفظ الحقوق الأساسية للإنسان كما هو منصوص عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان للأمم المتحدة. ويجب على المجتمع المدني والصحافة الحرة أن يحظيا بالحماية من طرف هذا الدستور حتى يتمكنا من لعب دور الرقابة والضبط للسلطة التنفيذية إذا خرجت عن إطار صلاحياتها.
– منح قادة الرأي العام ورموز المجتمع مساحة حرية للإعلاء من شأن القيم الديمقراطية في خطاباتهم وكتاباتهم وممارساتهم.
من يتمسك بهذه المبادىء لا يمكن أن يحرض على الإرهاب ويدير منظمة إرهابية كما يتهمه “أردوغان”، بل يظل مثل الأستاذ “كولن” منارة للعلم والمعرفة والثقافة، ونموذج إنساني فريد يحتذى به دوما، ويدافع عنه كل من قرأ له أو شاهده أو سمع عنه، فمنذ 15 يوليو 2016 تضاعف عدد محبي ومؤيدي الأستاذ ولم تنجح كافة المحاولات في القضاء عليه أو على حركة “الخدمة”.