(زمان التركية)ــ ما زال أولئك الذين لا يؤمنون بالله والقرآن والرسول ﷺ ينتقدون البيانات القرآنية المتعلقة بالحقائق العلمية، كما كانوا يطعنون في جوانبه الاجتماعية والتربوية، فلو أن هؤلاء تأملوا في آيات القرآن بدقّة ودرسوها بعنايةٍ لَتبيَّن لهم أن ما ينتقدونه لا يتناقض بتاتًا مع العلم، بل لانبهروا أمام ما ينجلي لهم فيه من الدلالات والإشارات الإجمالية إلى الحقائق العلمية.
ولزيادة الأمر وضوحا فلْنربط الموضوع بقضيةِ خلق الإنسان؛ فالله تعالى يجلب الأنظار في آية كريمة إلى خلق الإنسان، وينبِّه إلى أن منشأه ماء يخرج من بين الصلب وعظام الصدر:
﴿ فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ*خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ [أي عظامه] وَالتَّرَائِبِ ﴾(سورة الطَّارِقِ: 86/5-7).
المركز العصبي اللازم لإثارة المني وقذفِه هو -كما تشير إليه الآية بهذه العبارات الوجيزة-بين الصلب والترائب.
الرد على الطاعنين في القرآن
ومن المثير للانتباه أن هذه الآية من الآيات التي تعرضت لانتقادات بعض التعساء الذين تصدّوا لطعن القرآن الكريم.
أجل، إن القرآن الكريم يقول: إن هذا الماء﴿ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴾أي يخرج من بين عظام الظهر وعظام الصدر، وهم يقولون بـ”أن الحيوان المنوي الذي يدخل رحم المرأة إنما يخرج من خصيتي الرجل، فهناك تناقض بين الحقائق العلمية وبين بيان القرآن الكريم، وهذا من أخطاء القرآن الكريم، فلو كان الخالق موجودًا -سبحانه- وكان القرآن كلامَه لما كان هناك تناقض بين هذا البيان وبين ما كشفه العلم”.
فهذا النقد منهم يدلّ بوضوح على عدم فهمهم للتعبيرات القرآنية فهمًا صحيحًا، وأنهم لم يَدرسوه دراسة جيدة؛ لأن كلمة “الصلب” اسم للعظام الخلفية التي تبدأ من العنق إلى العَجُزِ.
بالإضافة إلى أن هناك من القواميس الحديثة من يفسره بـ”الكربون”، “الكربوهيدرات” و”المغنسيوم”، وعلى هذا فاختيار كلمة “الصلب” في الآية التي تتحدث عن منشإ الإنسان له مغزى كبير، حيث إن المخلوقات الصغيرة التي نسميها: الحيوان المنوي، والبويضةَ هي من الخلايا المحتوية على هذه المواد.
وأيضًا يمكن أن يُفهم من الناحية التشريحية من تعبير “الصلب” منطقةُ الحوض التي تتلاحم فيها عظام العمود الفقري بشكل قوي، ويفهمَ من كلمة “الترائب” الفقرات الصدرية.
اختيار كلمة “الصلب” في الآية التي تتحدث عن منشإ الإنسان له مغزى كبير، حيث إن المخلوقات الصغيرة التي نسميها: الحيوان المنوي، والبويضةَ هي من الخلايا المحتوية على هذه المواد.
مصدر الحيوانات المنوية
وقوله تعالى:﴿ يَخْرُجُ [أي الماء الدافق] مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴾لافتٌ للنظرِ جدًّا؛ حيث يشير إلى أن هذا الأمر ينشأ عن تنبيهات تبدأ من المركز الذي يحتوي على أعصابٍ تخرج من بين الفقرات القَطَنِيَّة التي تقع بين العجز والفقرات الصدرية؛ حيث إن النتائج التشريحية الحديثة تدل على أن الأعصاب المتعلقة بمركز تدفق المني تقع في منطقة النخاع الشوكي (T10-L2) التي هي بين فقرة الظهر العاشرة وبين الفقرة القطنية الثانية.
ومع أن الخصيتين والغدد التي تُنتج المني هي في الأسفل ولكن المركز العصبي اللازم لإثارة المني وقذفِه هو -كما تشير إليه الآية بهذه العبارات الوجيزة-بين الصلب والترائب.
وهناك مَن فَهِم من الآية بناءً على المعطيات العلمية القديمة أن المني ينشأ من الدم الذي ينتجه ما في داخل الفقرات من المخ، ولكن هناك حقيقة وهي أن إنتاج الدم لا ينحصر في العمود الفقري فقط، بل إنه يَنتُج من غيرها من العظام، كما أن الدم لا تقتصر مهمته على إنتاج الحيوانات المنوية، بل يتعدى ذلك إلى تأمين الغذاء لسائر خلايا الجسم أيضًا، ولذلك فإن تفسيرَ ما يخرج من بين الصلب والترائب بالأعصاب المخصَّصة لهذه المهمة قد يكون أليق بالوجه الإعجازي للقرآن الكريم من تفسيره بالدم.
وعند تحقيق القضية بهذا الشكل، يظهر جليًّا مدى استعجال الذين يحاولون مناقشة الآيات القرآنية على نحو سلبي، كما ينجلي مدى انحيازهم لأفكار مغلوطة مسبقة.
المصدر: فتح الله كولن، البيان الخالد لسان الغيب في عالم الشهادة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2017م، صـ428/ 429/ 430.