بقلم محمد عبيد الله
برلين (زمان التركية) – يرى الكاتب الصحفي التركي المعروف بتوجهاته الليبرالية أمره أوسلو أن أكبر خيانة ارتكبها الرئيس رجب طيب أردوغان بحق تركيا والإسلام معًا هو قضاؤه على “النموذج التركي الذي أثبت إمكانية الجمع بين الإسلام والديمقراطية في سبيل ضمان مستقبله الشخصي فقط.”
وهذا لحق مبين.. إذ كان حزب العدالة والتنمية، بقيادة أردوغان “السابق”، فرصة كبيرة لتركيا، بل للمنطقة كلها، بل للعالم برمته، لو استمر على النهج الذي انطلق منه وسار عليه عقدًا كاملاً وحقق نجاحًا ملحوظًا في الداخل والخارج، ثم تخلى عنه لأسباب مختلفة. وإن أردنا تلخيص تلك الأسباب بجملة واحدة يمكن أن نقول: النكسة بدأت بتحويل أردوغان حزبه من حزب ديمقراطي محافظ إلى حزب يتبنى “الإسلام السياسي الراديكالي” أو “الإيدولوجية الإسلامية” على الصعدين الخطابي والعملي، عندما شعر بأنه تمكن من السلطة، الأمر الذي أفقده التوافق المجتمعي في الداخل، والشرعية الدولية في الخارج، الذيْن كان حققهما بفضل نجاحه في تقديم نموذج يجمع بين الإسلام والديمقراطية.
لقد رأى الجميع كيف أن زعيمًا أطلق مشواره السياسي بشعارات “الديمقراطية” و”حقوق الإنسان” و”الإدارة النزيهة”، في الداخل، وبالدعوة إلى الحوار بين الحضارات والأديان، مثل إطلاقه مشروع “تحالف الحضارات” مع إسبانيا، في المجال الدولي، إلى رجل دكتاتوري في نهاية المطاف قضى على كل المكتسبات السابقة التي حققها في فترته الأولى والثانية، وصيرورة تركيا “أداةً رخيصة” يتلاعب بها الجميع بينما كانت مرشحة لتكون “فاعلة” في منطقتها بل العالم أجمع.
والشعب التركي هو الذي أصيب بالصدمة الكبرى جراء تحول أردوغان من الديمقراطية إلى الدكتاتورية، حيث إنه كان حمل شعبه على قطار حزبه واعدًا إياه بأنه سيقوده إلى الاتحاد الأوروبي المنضبط بمعايير الديمقراطية والإدارة التشاركية وحقوق الإنسان، لكنه حوّل دفة هذا القطار في منتصف الطريق إلى دول العالم الثالث المنفلتة من كل القيود للأسف الشديد.
والواقع أن هناك كثيرا من الكتاب الإسلاميين، من أمثال عالِمَيِ الاجتماع المتخصصين في الدراسات الإسلامية وشؤون الشرق الأوسط الأستاذين علي بولاج وعلي أونال، لم يصنفوا حزب أردوغان حتى ضمن “الأحزاب الإسلامية” منذ البداية، انطلاقا من أسباب موضوعية، وازداد عدد من يرون ذلك بعدما شهدوا فساد الرجل على المستوى الديني والفكري والأخلاقي والسلوكي في وقت لاحق. واعتبر كثير من المحللين المحليين والدوليين، بينهم إسلاميون، نهج أردوغان في فترة حكمه الثالثة قائمًا على المصلحية الصرفة أخلاقيًا، والدكتاتورية إداريًّا.
وكذلك يرى محللون منصفون للحقيقة أن إرجاع الازدهار التركي في مجالات الديمقراطية وحقوق الإنسان والسلم الداخلي والاقتصاد، والانفتاح على العالم القريب والبعيد، إلى جهود السلطة السياسية بقيادة أردوغان خطأ كبير، بل حركة الخدمة كانت من أكبر المساهمين في هذه النجاحات، وأكبر دليل على ذلك التراجعُ، بل الانهيارُ الكامل الذي تشهده تركيا منذ انسحاب هذه الحركة من الساحة نتيجة العماليات التي تقودها الحكومة منذ أكثر من خمس سنوات.
كان الأستاذ فتح الله كولن أطلق بعد عام 1990 حركة رائدة في الحوار والتفاهم بين معتنقي الأديان والأفكار الأخرى اتسمت بالمرونة والبعد عن التعصب والتزمت والتطرف، واحتضنت كل الأقليات الموجودة في تركيا، بمافيهم اليهود، لتجد صداها خلال مدة قصيرة في تركيا أولاً وفي العالم لاحقًا. كما أسست حركة الخدمة “وقف الكتاب الصحفيين” الذي استطاع جمع المثقفين اليمينيين واليساريين والإسلاميين تحت مظلة واحدة. كما استطاعت الحركة الانفتاح على العالم من خلال مئات المؤسسات التعليمية والاقتصادية، وعلى وجه الخصوص على الجمهوريات التركية المنفصلة من الاتحاد السوفيتي. وكان طرغوت أوزال “المحافظ” وبولند أجاويد “اليساري” في مقدمة السياسيين الذين قدموا دعمهم علنًا لكولن ومشاريع حركة الخدمة، حيث أجرى كل منهما زيارات إلى دول وسط آسيا المنفصلة عن روسيا، وأكدا لجميع رؤساء الحكومات الذين التقاهم قالين: “أنا متكفل لمدارس حركة الخدمة”.
بفضل هذه الجهود السياسية والمدنية كانت تشكلت في تركيا منذ تسعينات القرن الماضي “بيئة سلمية حوارية”، وساندها الكتابُ والمثقفون والسياسيون المنتمون إلى شتى الأفكار والأيدولوجيات ومنظمات المجتمع المدني.. بيئة كانت تتمكن فيها “الأقطاب المتضادة” من الاجتماع – بدلاً من الصراع – حول طاولة بحث واحدة لمناقشة قضايا إنسانية واجتماعية وسياسية ووطنية ودينية بكل حرية، ويتصافح فيها الكاتب المثقف العلماني الكمالي البحت “توكتاميش آتيش” مع الكاتب الصحفي الإسلامجي الراديكالي “عبد الرحمن ديليباك”، وقادة الأحزاب اليمينية مع نظراءهم من الأحزاب اليسارية، والكتاب الأكراد والعرب والأرمن مع زملاءهم الأتراك، ورجال الدين المسيحي واليهودي مع القادة والعلماء المسلمين، على أساس الاحترام المتبادل وقبول كل طرفٍ موقف الطرف الآخر كما يُعرِّف ويقدم نفسه.
وقد وصلت حركة الحوار والتفاهم بين معتنقي الأديان والأفكار الأخرى التي جمعت كل ألوان تركيا تحت مظلة واحدة، فشكّلت قوس قزح اجتماعيّاً، وصلت فيما بعد إلى ذروتها بالاجتماع الذي عقد عام 1998 بين كولن والبابا في الفاتيكان إثر دعوة البابا لـه. ذلك لأن كولن آمن بأن العالم أصبح، بفضل تقدم وسائل الاتصالات الحديثة، قريةً صغيرة عالمية بحيث لن تحقق أي حركة قائمة على الخصومة والعنف والعداء أي نتيجة إيجابية، ولا بد أن يكون الحوار والإقناع السبيلَ الأوحد لنشر المعتقدات والأفكار. لذلك نراه يؤكد في كل خطاباته ومحاضراته ودروسه أن الإسلام لا يمتّ بصلة إلى الإرهاب، ولا يمكن تجويزه مهما كانت الذرائع والمبررات، بل يعلن في كل مناسبة أنه “لا يمكن أن يكون المسلم إرهابيًّا، كما لا يمكن أن يكون الإرهابي مسلمًا”.
إلا أن حركة الحوار والتسامح في تركيا بقيادة الخدمة تعرضت للانقطاع مرتين جراء انقلابين اثنين غاشمين، أحدهما عسكري والآخر مدني، وقع الأول في 1997 على مجموعة من العسكريين المرتبطين بتنظيم أرجنكون الإجرامي، ما دفع كولن مغادرة تركيا إلى الولايات المتحدة في 1999، والثاني في 2016 على يد تحالف هذه المجموعة العسكرية القديمة مع الحكومة المدنية برئاسة أردوغان، ما حال دون عودة كولن إلى تركيا.
حسنًا لماذا ذكرت كل هذه الأمور في هذا التوقيت بالذات؟ ذلك أن الإمارات العربية المتحدة شهدت يوم الثلاثاء الماضي حدثا عظيما دل على أن مصر وجامعة الأزهر الشريف ودول الخليج العربي تسلمت راية الحوار والتسامح بعد أن سقطت في تركيا على يد أردوغان. ويرى الكاتب الصحفي اللبناني محمد قواص أن زيارة البابا فرنسيس إلى الإمارات قد تصحح بعضا من التوازن في المشهد الحالي الذي يُدار من خلاله العالم عامة والمنطقة خاصة، ويشير إلى أنها قد تكون وسيلة لتصويب الأبجديات التي ترسم العلاقات الدولية، بحيث لا تقتصر على أروقة الدبلوماسية وعتمة الغرف الكبرى، بل يعاد التذكير بأن أساس العالم هو الشعوب في حضاراتها ودياناتها وثقافتها وتقاليدها وتنوعها واختلافها، وأن تلك الشعوب، في ما تستبطنه من ذاكرة وما تتوق إليه من طموحات، هي أصل الحكاية الإنسانية وسرّ استمرارها، على حد تعبيره.
ويعترض الكاتب في مقاله المنشور بجريدة العرب اللندنية على من يزعمون أن رجل الفاتيكان القوي سيمر في الديار الإسلامية في مشهدية عابرة ينشغل بها الإعلام دون أن يكون للأمر أثر في كسر هذا الجموح نحو التطرف والنزوع إلى العدم، حيث أكد أن الأمر غيرُ ذلك تماما، وأضاف أن تأمل مسجد الشيخ زايد الكبير الذي احتضن “لقاء الأخوة الإنسانية” يكفي لاستنتاج البعد العميق للحدث الكبير.
وذكر قواص أنه كما أن للبابا فرنسيس حكمة في القيام بزيارة للإمارات باعتبارها الأولى من نوعها لبابا الكاثوليك إلى منطقة الخليج العربي في تاريخ البابوية العتيق، كذلك للإمارات حكمة في أن تقيم على أرضها قداسا، ضخما في مساحته، فريدا في تعدد أعراقه، عميقا في صداه داخل العالمين العربي والإسلامي. ثم أردف بقوله: “فيما تروج في عالم هذه الأيام شعاراتُ عيش وقواعد فكر تنفخ في أشرعة العنصرية والشعبوية والدفع باتجاه رفع الحدود وتشييد الجدران بين الشعوب، يبدو حدث الإمارات، في بعده الروحي المسيحي الإسلامي، مفترقا يعوّل عليه ليكون فاصلة في تغيير مجاري التيارات السوداء. ففي الحدث ما يحفز الإنسانية جمعاء للعودة إلى الإيمان بكوكب الأرض قرية واحدة لا بديل لها للجنس البشري من شرقها إلى غربها.”و
اعتبر الكاتب لقاء البابا للمرة الرابعة بشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، ثم لقائه بأعضاء مجلس حكماء المسلمين، دليلاً على أن المسيحيين والمسلمين تجاوزوا بحزم مرحلة التوتر التي شوشت العلاقة بين الفاتيكان والإسلام في عهد البابا السابق بنديكت السادس عشر الذي كان يتبنى نظرة سلبية متسرّعة ومسطحة لتاريخ الإسلام ودوره داخل الحضارة الإنسانية.
وأعاد للأذهان التقاء إمام الأزهر بالبابا فرنسيس ثلاث مرات في السابق، داخل سعي مشترك لرعاية السلم والاستقرار ومكافحة العنف والتطرّف والإرهاب، ثم استمر قائلاً: “محاربة هذه الآفات الخبيثة هو مسؤولية مشتركة بين الكنيسة المسيحية وإسلام العصر الحالي. للإسلام في العالم عنوان رسمي ومرجعية سامية يمثلها الأزهر في مصر.. وداخل تلك الورشة المشتركة ما يفتح فضاء آخر لمحاربة الإرهاب في العالم يتجاوز آليات الأمن والعسكر. فإذا ما كان أصل الإرهاب فكرا ظلاميا ماضويا، فإن معالجة الآفة تستوجب تفريغ خزاناتها الفقهية واللاهوتية والأيديولوجية. وإذا ما دفع العالم أجمع، بمسلميه ومسيحييه، وربما مسلميه قبل مسيحييه، ضريبة الإرهاب، فحريّ أن تتولى الكنيسة في الفاتيكان والأزهر في مصر الفلاحة المشتركة داخل حقول روحية لطالما أهملتها قواعد القرن الواحد والعشرين”، على حد تعبيره.
ثم سرد الكاتب الأسباب التي تقف وراء اختيار البابا الإمارات لزيارته وقال: “تتعايش في الإمارات حوالي 200 جنسية تحمل لغاتها ولهجاتها وموسيقاها وروائحها وأديانها وتقاليدها. هم مهاجرون منهم مليون مسيحي يعيشون تجربة الهجرة وفق النمط الذي ارتآه أهل الإمارات في تجربة نادرة، تكاد تكون فريدة، في تسامحها واعتدالها واحتضانها للآخر.ونمت الكنائس في الإمارات كما تنمو المساجد، وأقيمت المعابد على تنوّع ملامحها، على النحو الذي يتيح للوافدين ممارسة عباداتهم وشعائرهم بحرية كاملة. بات أمر ذلك من طبيعة البلد. وبات ذلك النموذج علامة تكاد تكون مضادة للتيارات التي تزدهر في العالم ضد الهجرة وعبق المهاجرين.“
وأكد الكاتب أن بابا الفاتيكان بشّر في أبوظبي بقيم يهددها صعود اليمين المتطرف ورواج الشعبوية في العالم قائلاً: “إذا ما كان التعدد الإثني والديني والاجتماعي من الطبائع العادية لدولة الإمارات منذ قيامها، فإن البابا يبشر بالأمر من الإمارات بصفته حدثا إنسانيا وجب تعميمه وإخراج حصريته من الأبجديات الإماراتية المحلية.
ولفت الكاتب إلى أن البابا يلاحظ حجم التحولات الحاصلة في كل المنطقة باتجاه التخلّص من الأصولية والتطرّف والعودة إلى الوسطية والاعتدال. “يزور البابا الإمارات وهو يعرف كم أن نموذج تلك الوسطية بات صلبا وواعدا بعد التحولات التاريخية الكبرى التي عرفتها السعودية في السنوات الأخيرة. دخلت المملكة حداثة اجتماعية تطال ثقافة الفرد والعائلة ومؤسسات الدولة. تنتقل السعودية من عصر “الصحوة” في التشدد إلى عصر آخر لم يكن السعوديون يحلمون به قبل سنوات”، على حد قوله.
وتوقع الكاتب الصحفي اللبناني محمد قواص في ختام مقاله زيارة قريبة للبابا إلى السعودية قائلاً: “لم يعد أحد يستغرب أن ينتقل ممثل الكنيسة الكاثوليكية الأعلى لزيارة السعودية يوما ما، قد لا يكون بعيدا. البابا نفسه بات يعرف ذلك، وبات يستنتج أن المنطقة أضحت طاردة للإرهاب، وبات يدرك أن للإرهاب حكايات تقررها أجندات الدول الملتبسة وأجهزتها الخبيثة، وليست من صناعة الكتب السماوية وعباد الله الصالحين”.
في حين أن الكاتب الصحفي التركي المخضرم جوكهان باجيك نوه في مقال نشره موقع ” أحوال تركية” بأن سياسات أردوغان أفقدته شرف تمثيل العالم الإسلامي، حيث قال: “تركيا ظلت لفترة حتى وقت قريب تُروِّج لنفسها باعتبارها الواجهة الثقافية للحوار بين الشرق والغرب. ولكن، وكما نعرف، فقد أفقدتها التطورات السياسية التي تعيشها في الفترة الحالية شرف التمثيل الثقافي للعالم الإسلامي. ويبدو أن المسافة التي تسببت فيها السياسة التركية الهوجاء مع الكثير من دول الصراع في الشرق الأوسط كانت سببا آخر وراء انفتاح دول العالم على دول أخرى مثل الإمارات في مجال السياسة الثقافية”.
وأضاف: “كان من نتائج إقحام تركيا نفسها طرفا في مشاكل المنطقة، سواء ما يتعلق بها بشكل مباشر أو لا، أنّ دولاً أخرى مثل الإمارات العربية المتحدة وبعض الدول في المنطقة، تقدّمت وأخذت مكانها، لتمارس دورا أكثر فاعلية في مجال الدبلوماسية الثقافية بين الشرق والغرب. ومن ناحيتها عمدت الدول الغربية على إقامة علاقات استراتيجية جديدة مع هذه الدول، وفتح حوار معها في مجال الدبلوماسية الثقافية بعد ما أحدثته التطورات السياسية على الساحة التركية من تأثيرات سلبية على الرأي العام الغربي”.
خلاصة القول: إن أردوغان لما ضيع أمانة الديمقراطية والإسلام معا أخذها الله تعالى وسلمها إلى قوم آخرين. ونسأل الله أن لا يضيع العرب هذه الأمانة فيحرموا منها مثل الأتراك، ويحققوا أهداف السلام والحوار والتسامح التي وقع عليها كل من شيخ الأزهر أحمد طيب وبابا الكنيسة فرانسيس.