تاريخ وعمارة
يقع تاج محل في مدينة “آجرا” المتربعة على الضفة الجنوبية لنهر “جمنة” المشهور، ولا تزال هذه المدينة إحدى المناطق السياحية التي تجذب سياح العالم إليها بجمالها وبقصر تاج محل فيها.
وهذا الصرح (تاج محل) شيده الإمبراطور المغولي “شاه جهان” (1592م-1666م)، ليخلد ذكرى زوجته “ممتاز محل” التي توفيت أثناء الولادة (1631م)، لذا يمكن القول إن أشهر ركن في هذا الصرح التاريخي الرخامي الأبيض، الذي يمتد على مساحة 42 فدانًا، هو ضريح ممتاز محل. تزوج السلطان من ممتاز محل عام 1612م، كانت سيدة مؤمنة، حيث اشترطت على شاه جهان قبل الزواج، ألا يشرب الخمر، وأن يقيم الصلاة، وأن يحكم بما أمر الله، مما يؤكد على صلاحها وحرصها على الدين وأموره. فضلاً عن أنها بنت المساجد، واهتمت بكتابة المصاحف، ودافعت عن حقوق النساء، وأسست البيوت لتربية اليتيمات وتعليمهن، كما كانت ترسل كل عام مائة مسلم للحج على نفقتها الخاصة.
أحب شاه جهان زوجته حبًّا جمًّا، ولما توفيتْ حزن حزنًا شديدًا، فأراد أن يخلد ذكراها، فبنى ضريحًا لها أذهل بجماله الفني العالم أجمع على مر العصور.
تم الشروع ببناء هذا الصرح عام1631م، وانتهى عام 1653م. شارك في بنائه ما يزيد عن عشرين ألف بنّاء، جاؤوا من شتى بلاد الهند وبلاد فارس وأوروبا وتركيا، بالإضافة إلى إيران وسوريا وآسيا الوسطى.. وعهد الإمبراطور إلى مجموعة من المهندسين الماهرين الإشراف على عملية البناء، كأحمد لاهوري مصمم تاج محل، وإسماعيل أفندي مصمم القبة الرئيسة، وعيسى شيرازي، وعيسى محمد الأفندي، وأما رئيس الخطاطين فيه فكان أمانة خان.. تم إنشاؤه على نمط الفن الهندي الإسلامي، وأثبت هذا القصر مكانته كأيقونة معمارية رائعة في فن العمارة الإسلامية، ليعدَّ رمزًا في الفن المعماري إلى يومنا هذا. والجدير بالذكر أن هذا الصرح يضم إليه مجموعة من المباني الفاخرة التي تضفي على الضريح جمالاً وبهاء وجوًّا مهيبًا.
تاج محل
هو ضريح أنيق مبني من الرخام الأبيض الذي يتغير لونه بانعكاس ضوء الشمس أو ضوء القمر على سطحه، ويتغير لونه بتغير فصول السنة وأوقات اليوم؛ حيث يظهر بعد الفجر بلون وردي، وفي وقت الظهيرة بلون أبيض ناصع، ثم يتحول إلى اللون الرمادي قبل الغروب. استخدم المهندسون -تطبيقًا لأوامر الملك- 28 نوعًا من الأحجار الثمينة لترصيع الضريح، كما جُلبتْ الأحجار من دول وبلدان مختلفة، كالصين والهند وأفغانستان والجزيرة العربية؛ أحضر الرخام الأبيض الشفاف من راجستان، واليشم من البنجاب، والكريستال من الصين، والفيروز والتبت والليس من أفغانستان، والياقوت من سيلون، والعقيق من الجزيرة العربية.. أما التكلفة الإجمالية لبناء تاج محل فقد بلغت 50 مليون روبية تقريبًا في ذلك الوقت.
يتخذ المبنى شكل مصطبة بأربع زوايا، لكل منها مدخلها الخاص، وعلى كل زاوية منها مئذنة، وتعلو المبنى قبة رئيسة يبلغ ارتفاعها 22.5 م، وللتمكن من رفع القبة شيدت سقالة هائلة، ويقع تحت القبة الرئيسة ضريح “ممتاز محل” المزدان بالرسومات والزخارف والكتابات الإسلامية والنقوش الحجرية الجميلة. ولا بد من الذكر أن الملك شاه جهان تم دفنه بالقرب من زوجته تحت القبة نفسها، ونقش على قبريهما آيات من القرآن الكريم وأسماء الله الحسنى. هذا وبمجرد دخول الزائر الضريحَ، يرى غرفة مركزية مرتفعة تحتها غرفة الدفن، بالإضافة إلى وجود العديد من الغرف المبنية لدفن الأعضاء الآخرين من العائلة الملكية. ومن عجائب هذا المبنى، بناؤه على خاصية النظير التام؛ فكل جزء من نقش أو قبة أو مئذنة على اليمين، يوجد لها نظيرها التام على اليسار. والضريح ينعكس كليًّا على جدول الماء الأمامي، ونجد في الداخل بوابة جميلة مزخرفة بسورة يس من القرآن الكريم.
المسجد ودار الضيافة
في نهاية الضريح يقع مبنيان كبيران مشيدان من الحجر الرملي الأحمر مفتوحان على جانبي المقبرة، يوازي جدرانهما الخلفية البنايات الشرقية والغربية، كما أن هذين المبنيين يتطابقان من حيث الشكل. ويعد المبنى الغربي مسجدًا، والمبنى الشرقي المقابل جوابًا، يتمثل الغرض الأساسي من بنائه في إحداث التوازن المعماري، وقد استخدمه الناس دارًا للضيافة. ويمكن أن نجد اختلافات بين هذين المبنيين؛ فمبنى الجواب لا يحمل في قاعته محرابًا وأرضيته تتمتع بتصاميم هندسية رائعة، أما أرضية المسجد مبنية من الرخام الأسود تفترشها عدد من السجادات للصلاة، وتتمتع بمحراب جميل المنظر، والمسجد يشتمل على رواق طويل تعلوه ثلاث قباب مقوسة شامخة.
حديقة شارباغ
يستطيع الزائر أن يطلع على حديقة جميلة تكشف عن الذوق الهندي الإسلامي في تنسيق الحدائق، وتسمى الحديقة “شارباغ”، وتصل مساحتها إلى 300 م2، وتقوم الحديقة على الممرات البارزة التي تقسم كل جزء من أجزاء الحديقة الأربعة إلى 16 روضة منخفضة. ومما يلفت الأنظار إلى الحديقة، الحوض المرتفع الذي يتوسطها، كما تحتوي الحديقة على بركة عاكسة لصورة الضريح. ويسمى الحوض الرخامي بـ”حوض الكوثر”، إشارة إلى الحوض الذي وعد الله به نبيّه محمدًا . والحديقة بنيت على طراز الحدائق الفارسية التي أدخلها إلى الهند الإمبراطور المغولي الأول بابور.
البوابة الكبرى
هذا المبنى مدخل رئيسي مقوس يبلغ ارتفاعه وسط تاج محل، وهو مشيد بالمرمر والأحجار الحمراء، ويزدان بمجموعة من النقوش الحجرية الرائعة إلى جانب الزخارف النباتية والأزهار.
تاج محل في عيون الكتّاب العرب
لقد تغنى الكثير من الكتّاب والشعراء العرب بالبدائع التي حملها هذا القصر التاريخي في طياته. وصفه أحد الشعراء المعاصرين -مثلاً- فقال:
مــــجــد تـــــشــع بـه آي الـــرخــام عــلـى
شعب وفي لعصر العزة الحالي
لم يخش خطبًا ولم تجر الحتوف له
يـومًا بـغير الذي يـلقى علـى بال
ووصفه آخر فقال:
أقـــبــرًا أرى أم أرى فـــيـــك قــــصـــــرًا
تــألق تاجًا علـى هام “آجـرا”
وأضفى على البدر في الأفق سحرًا
ورتل في مسمع الكون شعرا
وعلّق الكاتب علي الطنطاوي على هذا القصر فقال: “لقد صنعت الأيدي الممتازة من قطعة الرخام أروع بناء، ونقشت عليه هذه الرسوم البديعة التي لم يعرف مثلها في الفن، وحتى اليوم يأتي الزوار من كل أقطار العالم إلى “آجرا” قرب “دلهي”، ليشاهدوا قبر تاج محل، وليسمعوا أعظم وأروع قصص الحب”.
وفي الختام نعود لنؤكد أن هذا القصر العالي يعدّ من أهم المعالم الأثرية، حيث يزوره أكثر من 200 ألف سائح كل سنة من خارج الهند، ولا يزال هذا الصرح التاريخي رمزًا للحب النقي ونموذجًا للفن المعماري البديع يضرب به المثل.
بقلم/ عبد الرشيد الوافي
المصدر: موقع مجلة حراء