﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ﴾(سورة الزُّمَرِ: 39/5).
إن كلمة “التكوير” تأتي في اللغة بمعنى لف شيء على آخر، وجعلِه على هيئة كرة، ومنه كور العمامة، فاختيار هذه الكلمة بما توحي به من المعاني في الآية الكريمة يؤكد بوضوح على أن الأرض كروية، فالقول بأن الليل والنهار يُلَفَّان على الأرض كما تلف العمامة على الرأس لذو مغزًى كبير، وأيضًا فإنّ استخدام صيغة المضارع في الآية يدلّ على أن هذا الوضع متجدّد، وأن الليل بظلامه يتبع النهار، وأن هذا النظام يعمل ويتكرر وكأنه مكوك، وهذه أطراف خيوط علمية مهمة.
وهناك آية أخرى تزيد هذه الآية توضيحًا وتزيل ما فيها من الإبهام، وهي قوله تعالى:﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ﴾(سورة الأَعْرَافِ: 7/54).
فكلمة “يُغْشِي” هنا من الغَشْي وهو التغطِيةُ والستر ووضعُ غطاء آخر على الغطاء، وهذا التعبير يدل بوضوح أن كلًّا من الليل والنهار يغطي الآخر.
وإذا حللنا الموضوع من الناحية اللغوية فقوله تعالى: “اللَّيْلَ النَّهَارَ” كلاهما مفعول به، وعلى حسب القاعدة النحوية إذا تعدى الفعل إلى مفعولين ليس أصلهما مبتدأ وخبر فإن المفعول الأول منهما هو بمنزلة الفاعل، فعلى حسب هذه القاعدة فإن الليل بمنزلة الفاعل، أي هو الذي يغطي النهارَ، وهذا أمر مهم للجواب على ما يدور في الذهن: أيهما يتبع الآخر؟ الليل أو النهار؟ لأن مدلول الكلمة الأولى هنا هو أنها هي التي تُغطي مدلول الآخر، ويكون الثاني هو المغطَّى والمتبوع، فيتلخص من هذا أن الليل هو الذي يتبع النهار، وأن الظلام هو الذي يغطي الضياء.
وقوله تعالى: “حَثِيثًا” فيه إشارة إلى تفاصيل أخرى، لأن “حثيثًا” معناها أنه يجري بسرعة هائلة تذهل الناظرين.
إن رائد الفضاء الروسي الشهير “جاجارين (Gagarin)” قد قال شيئين، أحدهما قبيح، والآخر جيد؛ فالقبيح هو أن هذا الإنسان التعيس بعدما رجع من رحلته الفضائية قال ما معناه: إنني صعدت إلى السماء وتجولت فيها فلم أجد شيئًا يسمى: “الإله”، والأمر الثاني هو قوله: إنني كلما ابتعدت من الأرض وجدت في الدوائر التي على الأرض ظلامًا يلاحق الضياء. أجل، إنّ في الطرف المعاكس للشمس حجابًا مظلمًا يدور حول الأرض.
ولا غرو، فمن حيث إن الأرض كروية تدور حول الشمس، فإن الظلام الذي هو في الجهة المعاكسة يبدو وكأنه غطاء يلاحق الضياء، ولكن لا بد لفهم هذا الأمر جيدًا أن يقوم الإنسان برحلة فضائية، وقد جلب القرآن الكريم الأنظارَ قبل عصور إلى هذه الحقيقة بقوله: “يَطْلُبُهُ حَثِيثًا” بمعنى أن الظلام يلاحق النور.
ويُفهم من هذا أن المظلم هو الأرض، وأن المضيء هو الشمس، ووفقًا لذلك فإن الأرض هي التي تلاحق الضياء وتطلبه، وأنها هي التي تدور بسرعة هائلة حول الشمس وكأنها حجر مقلاع، ولو كانت الأرض مسطحة غير كروية لم يكن للظلام أن يواصل مطاردةَ الضياء، ولكان أحدُ وجهي ذلك المسطَّح مضيئًا على الدوام، بينما يظلّ الجانب الآخر في ظلام دائم.
أجل، إنّ كلًّا من هذه إشاراتٌ لا تتناقض مع الكشوفات العلمية، وقد ذكرها القرآن في بضع كلمات، ولكنها تعبيرات مركّزة جدًّا، لو تم تحليلها في عصرنا وأُجريت حولها البحوث، واستعين بالتلسكوبات العملاقة لظهر للعيان مدى تلألؤِ الحقائق القرآنية وتألُّقها.
والإنسانية كلما تقدمت في العلوم والتكنولوجيا اتّضح لها من التعبيرات القرآنية نكات ذات أسرار، وسينادي القرآن على رؤوس الأشهاد مرة أخرى أنه كلام الله تعالى.
بقلم/ فتح الله كولن
المصدر: موقع فتح الله كولن