بقلم: محمد عبيد الله
لقد اهتزّت تركيا في 24 من مارس/آذار عام 2014 إثر تسريب تسجيل صوتي رُفع على موقع يوتيوب تضمن المحادثات التي جرت في اجتماعٍ عقد في مقر الخارجية التركية يوم 13 مارس 2013 حضره كلٌّ من وزير الخارجية آنذاك أحمد داود أوغلو ومستشار وزارة الخارجية فريدون سنرلي أوغلو ورئيس المخابرات هاكان فيدان والقائد الثاني للأركان فريق أول ياشار جولر.
فقد كان داود أوغلو يكشف في التسجيل الصوتي عن رغبة أردوغان في تنفيذ عملية عسكرية في سوريا، بينما كان فيدان يقول: “من الممكن أن نرسل أربعة من رجالنا إلى الجانب السوري، ليقوموا بإلقاء صواريخ على الجانب التركي من هناك، من أجل خلق ذريعة لازمة للتدخل العسكري في سوريا إن تطلب الأمر ذلك”.
فيما كان الجنرال جولر يلفت الانتباه إلى ضرورة نقل أسلحة وذخائر إلى المعارضة السورية تحت إشراف المخابرات، ويشير إلى أن القطريين يبحثون عن ذخائر مقابل أموال، وأنه في حال إصدار وزراء معنيين تعليمات يمكنهم أن يطلبوا من مؤسسة الصناعات الميكانيكية والكيميائية التابعة للجيش تصنيع أسلحة.
بالإضافة إلى ذلك، فقد كان فيدان يعترف بإرساله نحو ألفي شاحنة من الذخيرة إلى سوريا، ويقترح في إطار بحثهم عن “ذريعة” للتدخل العسكري في سوريا “شنّ هجوم على ضريح سليمان شاه”، جد أول سلطان للدولة العثمانية، الموجود على الأراضي السورية.
لما تسرب هذا التسجيل الصوتي الصادم إلى وسائل الإعلام زعم أردوغان أن ما سماه “الكيان الموازي”، وكان يقصد حركة الخدمة، هو الذي تنصت على هذا الاجتماع السري للغاية، وسربه إلى الإعلام في البداية، لكن عندما ركز الرأي العام على المضمون أكثر من الجهة المسربة أضاف هذه المرة إلى تهمة التسريب المنتجة أيضا، وزعم أن الكيان الموازي منتج في التسجيل وتلاعب به وأعاد إنتاجه وفق رغبته.
وقد نجح أردوغان في توجيه الرأي العام من فضيحة التسجيل الصوتي إلى الكيان الموازي واعتبره أكبر دليل على وجود هذا الكيان.
وكانت وزارة الخارجية التركية أصدرت حينها بيانا بشأن التسجيل الصوتي، أكدت فيه نبأ عقد الاجتماع، لكنها قالت إن المسؤولين كانوا يناقشون مسألة حماية قبر سليمان شاه، جد مؤسسة الدولة العثمانية، عثمان الأول، حال تعرض هذا الموقع التاريخي لهجوم.
وتطرق المسؤولون الأتراك بالفعل في الحديث إلى موضوع حماية القبر، لكن باعتباره مسألة تتيح التدخل العسكري في سوريا، حيث قال داود أوغلو في الاجتماع: “رئيس الوزراء (أردوغان) أكد أنه يجب اعتباره فرصة في هذه المرحلة”.
وعندما سأل فيدان عن سبب إصرار المسؤولين الآخرين على قضية الهجوم على القبر، قال داود أوغلو: “إن الذريعة للتدخل في سوريا يجب أن تكون مقبولة للمجتمع الدولي. إن لم تكن ذريعة قوية فلا يمكننا أن نخبر وزير الخارجية الأميركي جون كيري أننا بحاجة إلى اتخاذ إجراءات استثنائية”.
ورد فيدان عندها بالقول: “إذا لزم الأمر، سأرسل 4 رجال إلى سوريا، ثم سأطلب منهم إطلاق 8 قذائف هاون على الجانب التركي من الحدود، وخلق بالتالي ذريعة للحرب، كما يمكننا أيضا جعلهم مهاجمة قبر سليمان شاه”.
على الرغم من محاولات مُستميتة على مدى سنوات بذلها أردوغان لإخفاء حقيقة التسجيل الذي كان يكشف بحث أركانه عن ذريعة مُفبركة للتدخل العسكري في سوريا عام 2013، بعد فشل الفصائل المُسلحة التي دعمها مع قطر في إسقاط النظام السوري، إلا أن السلطات أكدت رسميا صحة تلك التصريحات المُسرّبة في قرار أصدرته محكمة الجنايات العليا الرابعة في أنقرة يوم 16 يناير 2019.
وشدّد القضاء التركي على أن التسجيل الذي استمر 7 دقائق و7 ثوان تم الحصول عليه بفضل رقابة صوتية للاجتماع، وأضاف: “من الواضح أن الأحاديث الموجودة في التسجيل تمثل معلومات من الضروري إخفاؤها وتعتبر سر دولة”، مما يدل على أنه يعترف بصحة محتويات التسجيل.
ورغم أن مكتب المدعي العام فتح تحقيقا بتهمة “تجسس” عام 2014، وأعلن أنه لم يتم التمكن من معرفة هوية مُرتكبي فعل التجسّس، إلا أنه كشف عن اتهاماته في عام 2016، فيما اتخذت المحكمة قرارها في 2017، لكنها أجلت الإعلان عنه حتى يناير 2019 الحالي، دون أن تشير إلى وجود تلاعب أو منتجة في التسجيل الصوتي كما زعم أردوغان.
https://www.youtube.com/watch?v=6GkMmwh5_X8&app=desktop
والأمر اللافت في الأمر أن الشهور والسنوات القادمة شهدت نقل ما ورد في هذا التسجيل من مخططات إلى ساحة الغعل بكل حذافيرها، بدءا من الهجوم على قبر سليمان شاه وانتهاء بإلقاء قذائف من الجانب السوري على الجانب التركي من مصادر وصفتها الحكومة التركية بالتابعة لقوات حماية الشعب التركية إلا أن قرويين نشروا تسجيلات مصورة تكشف انطلاق تلك القذائف من داخل الحدود التركية، وجاء في نهاية هذه الخطوات التدخل العسكري في سوريا.
هذا التسجيل الصوتي يثبت أمرين في غاية الأهمية:
الأول: تآمر نظام أردوغان للتدخل العسكري في سوريا، وهذا ما أشار إليه مركز ستوكهولم للحريات، حيث لفت إلى أنه من الممكن أن تؤدي هذه القضية إلى إلحاق الضرر بأردوغان على المستوى الدولي، وربما تساعد مُستقبلاً في رفع دعاوى عليه نتيجة مُساهمته الأساسية في تأجيج الحرب الأهلية في سوريا، وخاصة عبر فتح الحدود التركية لتسريب عشرات الآلاف من الجهاديين والإرهابيين للأراضي السورية.
والثاني: تدبير أردوغان مع حلفائه انقلابا تحت السيطرة للتخلص من القادة العسكريين الذين كانوا معارضين لأي تحرك عسكري في سوريا بدون قرار دولي. إذ كانت ضغوطات أردوغان وإعلامه على الجيش التركي للتدخل العسكري في الأزمة السورية شهدت زيادة كبيرة بحلول عام 2014، إلا أن رئيس أركان تلك الفترة “خلوصي أكار”، وهو وزير الدفاع الحالي، رفض ذلك في فبراير/ شباط 2016 بصورة قاطعة، معلنًا استحالة هذا الأمر ما لم يكن هناك قرار صادر من الأمم المتحدة، الأمر الذي أحبط آمال أردوغان من جهة ودفعه إلى البحث عن بدائل أخرى في هذا الصدد من جهة أخرى.
وقبل ظهور فضيحة التسجيل الصوتي هذه، كانت مدينة هاتاي الحدودية مع سوريا شهدت في 19 يناير/ كانون الثاني 2014 حادثة مدوية صادمة للشارع التركي والدولي أيضا، فقد نفذت قوات الشرطة بالتعاون مع قوات الدرك عملية بأمر النيابة العامة ضد ثلاث شاحنات كبيرة تابعة للمخابرات محملة بالأسلحة والصواريخ في طريقها إلى الأراضي السورية.
وقد حاول أردوغان في البداية التكتم على الموضوع، ونفى إيقاف الجيش لهذه الشاحنات، وكذب كونها تابعة للمخابرات، مدعيًا أنها شاحنات مساعدة تابعة لهيئة الإغاثة الإنسانية (IHH)، ثم اضطر إلى القبول عقب نشر الوثائق الخاصة بها، وزعم هذه المرة أن حمولة هذه الشاحنات كانت مساعدات إنسانية وليست أسلحة.
لكن بعد ثلاثة أيام (21 يناير/ كانون الثاني) نشرت صحيفة “آيدينليك” الموالية لتنظيم أرجنكون الموصوف في تركيا بالدولة العميقة والموالي للمعسكر الأوراسي، صورا فوتوغرافية لحمولة الشاحنات لتكشف أن “المساعدات” المزعومة ما هي إلا عبارة عن صواريخ. ثم نشرت صحيفة جمهوريت في 29 مايو/ أيار 2014 مقطع فيديو يكشف ملابسات إيقاف شاحنات المخابرات والأسلحة بداخلها.
ساق أردوغان ومسئولون حكوميون مزاعم مختلفة بل متناقضة لما كانت تحويه تلك الشاحنات، حيث ادعى أردوغان في 24 يوليو/ تموز 2014 أن الشاحنات كانت تحمل مساعدات إلى التركمان، وهذا كان رأي رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو ووزير الداخلية الأسبق “أفكان علاء” أيضا. لكن “ياسين أقطاي”؛ نائب رئيس حزب العدالة والتنمية وأحد مستشاري أردوغان، صرّح بأن الشاحنات كانت محملة بالأسلحة ومتجهة إلى الجيش السوري الحر. بينما أنكر “إبراهيم كالين”؛ كبير مستشاري أردوغان والمتحدث باسم الرئاسة تلك التصريحات، زاعمًا أن المخابرات لم ترسل قط شاحنات أسلحة إلى أي مجموعة من المجموعات المعارضة المقاتلة ضد النظام السوري. ثم خرج عضو حزب الحركة القومية السابق الذي تسلم فيما بعد منصب نائب رئيس الوزراء طغرل توركاش نافيًا كل هذه المزاعم ومقسمًا: “والله إن تلك الشاحنات لم تكن مرسَلة إلى التركمان أبداً.” كما خرج نائب رئيس المجلس التركماني السوري حسين العبد الله لينفي صحة كل مزاعم أردوغان في تصريحات أدلى بها في 4 يناير/ كانون الثاني 2014 قائلاً: “لم نحصل من حكومة أنقرة على أي مساعدات مسلحة أو أي شكل من أشكال المساعدات”.
ورغم هذه التصريحات المتناقضة، ونشر صحيفتي آيدينليك وجمهوريت المعارضتين بشكل صارخ لحركة الخدمة لهذه الأخبار، فإن أردوغان المسيطر على معظم وسائل الإعلام سوق هذه الحادثة باعتبارها دليلاً على تغلغل “الكيان الموازي” داخل المؤسسة العسكرية أيضا وانتهز هذه الفرصة لإعداد الرأي العام وتوجيهه إلى ضرورة إجراء التصفيات التي كان يخطط لها منذ زمن وإعادة هيكلة كافة الأجهزة لتتوافق مع المشاريع التي يريد تنفيذها على الأراضي السورية.
ومن الغريب جدا اتهام أردوغان لجريدة “جمهوريت” المعروف عنها عداؤها الشديد لحركة الخدمة طوال تاريخها بالتبعية للكيان الموازي، والكشف عن أسرار الدولة، وعدم تعرضه لصحيفة آيدينليك مع أنها كانت أول من نشر خبر الشاحنات قبل جمهوريت بنحو 5 أشهر.
ومع عدم وجود أدلة قاطعة، لكن من المرجح أن تكون القيادة العسكرية العليا التي كانت على خلاف مع أردوغان بشأن التدخل العسكري في سوريا هي من سربت مقطع الفيديو الخاص بشاحنات المخابرات وهذا الاجتماع السري لتشكيل رأي عام معارض.
لكن أردوغان كعادته اتهم حركة الخدمة بالوقوف وراء هاتين الحادثتين ووظفهما في تعزيز مصطلح “الكيان الموازي” الوهمي وتضخيمه لتهيئة الأرضية للتصفيات التي يعتزم إجراءها في صفوف الجيش والتي خطط لها مع حلفائه من عصابة أرجنكون، والإسلاميين الذين كانوا يسعون إلى توجيه أردوغان من المعسكر الأطلسي إلى المعسكر الأوراسي.
يعلم المتابون للشأن التركي عن كثب أن العلاقات بين أردوغان وقيادات القوات المسلحة لم تكن مريحة لكليهما. فأردوغان كان يسعى لتحويل الجيش إلى “أداة طيعة” في يده باستغلال ذريعة “الكيان الموازي” ليحقق طموحه الداخلي في انتقال البلاد من النظام البرلماني إلى الرئاسي؛ وحلمه الخارجي في إسقاط النظام السوري برئاسة بشار الأسد الذي بات يمثل له مسألة شخصية وعقدة نفسية، طمعًا في إعلان نفسه زعيم العالم الإسلامي أو “خليفة المسلمين” باعتباره “فاتح الشام” و”محرك الثورات العربية”. غير أن أردوغان شعر بأن الجيش لن يسمح له باستغلاله لتحقيق هذه الطموحات، وقد برز ذلك من خلال تصريحات رئيس الأركان المذكورة، بالإضافة إلى أن الجيش حمّل جهاز المخابرات التابع لأردوغان مسئولية حادثة “أولو دره” التي أسفرت عن قتل 33 كرديًّا مدنيًّا بالخطأ، وإعلان قيادات مهمة في الجيش عن انزعاجها من أي تصفيات تقوم بها السلطة السياسية في المؤسسة العسكرية بذريعة “الكيان الموازي” على غرار ما حدث في أجهزة الأمن والسلطة القضائية عقب الحملة المضادة لتحقيقات الفساد والرشوة في 2013.
ويرجح بعض المحللين أن الجيش كان له يد في الكشف عن شاحنات المخابرات المحملة بالأسلحة، وفضيحة تسريب خطة رئيس المخابرات لاصطناع ذريعة للتدخل العسكري في سوريا، وأن قياداته كانت منزعجة من توظيف إرهاب داعش وحزب العمال الكردستاني في الداخل وسوريا والمنطقة وإقحام تركيا في جرائم دولية.
كل ذلك عزز رغبة أردوغان في إعادة هيكلة الجيش بعد الأمن والقضاء، وقد لاقت هذه الرغبة صداها الإيجابي عند كل من حليفيه عصابة أرجنكون الموالية للمعسكر الأوراسي وتيار الإسلام السياسي الموالي لإيران؛ فالأول كان يرى أن الجيش هو المسئول الحقيقي عن قضية أرجنكون، حيث سمحت قياداته للقضاة المدنيين بمحاكمة الجنرالات والضباط العسكريين، ومن ثم فهو يتحين الفرصة للانتقام؛ في حين كان الثاني يعتبر ذلك فرصة ذهبية لاختراق الجيش التركي عبر الميلشيات الإسلامية لصالح إيران.
ويعني ذلك أن أردوغان بعد أن أمر بتعليق تحقيقات قضايا تنظيمات أرجنكون وحزب العمال الكردستاني بأذرعه المختلفة وتنظيم السلام والتوحيد العامل في تركيا لصالح إيران، والإفراج المشروط عن كل المتهمين في إطار هذه التحقيقات، فقد حان الدور على الجيش للانتقام منه وإعادة تصميمه وفق رغبات هذا التحالف الثلاثي.
إذن يمكن أن نقول بكل سهولة إن ما سمي “الانقلاب الفاشل” لم يكن سوى الخطوة الأخيرة من الخطوات التي اتخذها نظام أردوغان في سبيل تصفية الجنرالات غير المرغوبين فيهم وإعادة تصميم الجيش التركي تمهيدا للتدخل العسكري في سوريا.. والواقع شاهد على ذلك.