مع أن فتح الله كُولَنْ بعيدٌ تمام البُعد عن ممارسة السياسة الفعليَّةِ إلا أن له حزمةً من الأفكار الخاصَّة يتناول فيها ما يجب أن تكون عليه إدارة العباد ومقدَّرات البلاد، فيقول:
“إنَّه فنُّ إِدارةِ الخلق وقيادَتُهم على نحوٍ يُرْضي الحقَّ سبحانه”.
ويُركِّزُ على السياسة أكثر ما يركز عليها باعتبارها فنَّ إدارة بلدٍ وشعبٍ، ويُوكِّدُ على ضرورة أن يكون القائمون بتطبيق سياسة بهذا الفهم أشخاصًا:
“لا يُكِّرون في متَعِهِم الشخصيِّة أبدًا، بل يُسرُّون لِسُرُورِ الشعب، ويتلوَّونَ بآلامِهِ..”
“يجب البحث عن الإدارة الجيِّدَةِ والسياسة الرفيعة المستوى لدى أصحاب الأرواح النبيلة والعقول المُفكِّرة وخُدَّام الحقيقة الرافضين التحرُّر منها”.
ويتناول المسألة في أساس الإنسان، ويلفت الانتباه إلى أَهَمِّيَّة السِّمات والخصائص التي تُعمِلُ القوانين وتنفذها حتى تصل إلى درجة كفايتها وصحَّتِها ومناسبتها؛ فيرى ضرورة أن تكون القوانين نافذةً على الجميع في كلِّ وقتٍ ومكان، وأن يتمتَّعَ مُنَفِّذوها أيضًا بالشجاعة والعدلِ والجسارة؛ فلا يفقد الناس ثقتَهم ولا أمنَهم تمامًا من جانب، بينما يخافونهم من جانب آخر، ويُكِّدُ كذلك على أهمّيَّةِ فكرة الحقِّ وسيادة القانون والواعي بالواجب والوظيفة، ومفهوم المسؤولية في الأعمال الصعبة القاسية، والمهارة والكفاءة في الأعمال الرقيقة الحسّاسة خاصَّةً.
ويقول فتح الله كولن:
“تولد الحكومات المجيدة من الأمم المجيدة، وتتكوَّن الأمم المجيدة من نُخبَةِ الأجيال المؤمنة التي تملك قابلية علمية عالية، وإمكانيِّاتٍ مالية كبيرة وآفاقَ نظرٍ واسعة وتحاول أن تحافظ على ذاتيَّتِها وأصالتِها وهويِّتِها..”
“بقدر ما تحظى به وحدةُ المشاعر والأفكار والثقافة من أهمية كي تصبح أيَّةُ أُمَّةٍ من الأمم قوية؛ بقدر ما يُؤثِّرُ فسادُ الوحدة الدينيَّةِ والأخلاقيّة وانهيارُها في تمزُّقِها وتفرُّقِها”.
يؤكد كولن على ضرورة البحث عن سبل وطرق للاستفادة من آراء الخبراء وأفكارهم حتى وإن كانوا أصحاب فلسفات وأفكار مختلفة، وأنه لا بد من التحاور والالتقاء بهم.
الدين وأثره في حياة المجتمع
كما يرى كولن أن للدين مكانةً مهمَّةً في حياة المجتمعات، وفي هذا يقول: “إذا ما وُضع في الاعتبار كون الدّين موحِّدًا ومكمِّلً؛ فهو المؤسَسة الضرورية الحتميّة الواجب على حكام الشعوب الْتِفَافُهُم حولَها ووضعهم إيَّاها في حسبانهم ولجوؤهم دائمًا إلى قوَّتِها التي لا تُهْزَم”.
ويُشيرُ إلى دور الدّين كقوَّةٍ عظمى تُسيطر على الضمائر والأفئدة ولا سيما السلم والأمن؛ فيُبَيِّنُ أنه هو العنصر الأكثر سيطرةً وإحكامًا في إخضاعِ تصرُّفاتِ الأفراد وحركاتهم للمراقبة والملاحظة؛ فيُذَكِّرُ قائلاً: “لذا كان على القائمين بإدارة الدولة إبقاءُ الدّين حيًّا في النفوس وفي الضمائر، وليدركوا يقينًا أن حياةَ الأمة مرتبطةٌ ارتباطًا وثيقًا بحياتها الدينية”.
قبل أن تقول الحكومة عن أمَّتِها “ها هي أمتي” فمن الأفضل والأهم أن تبادرَ الأمةُ قبلها وتقول عنها “ها هي حكومتي”.
مقياس نجاح الحكومات
يرى كولن أيضًا أن الحكومات تكون ناجحةً سياسيًّا بقدر حمايتها شعوبَها من الشرور باستخدام قوّتها وسلطاتها وعدالتها، ومثل هذه الحكومات تُبَشِّرُ بمستقبل نجح زاهرٍ.
يقول فتح الله كولن:
“الحكومة تعني العدالة والاستقرار والأمن، فإن لم تكن هذه الأمور متوفِّرَةً في مكانٍ ما فمن الصعب الحديث عن وجود حكومة هناك، وإنْ شبَّهْنَا الحكومة بمطحنةٍ فإن الدقيقَ الذي تنتجه هو النظام والأمن والاستقرار، والمطحنة التي لا تنتج هذا ليست إلا آلة ضوضاء جوفاء لا تَطحن سوى الهواء”.
الدولة تكونُ جيدةً وقويَّةً إذا ما جرى اختيارُ جميع البيروقراطيِّين والموظفين العاملين فيها بناءً على نُبْل الجوهر والفكر والحسّ.
كيف تكون علاقة الحكومة بالشعب؟
يأتي كولن بتقييم مهمٍّ جدًّا في علاقات الحكومة بالشعب فيقول:
“قبل أن تقول الحكومة عن أمَّتِها “ها هي أمتي” فمن الأفضل والأهم أن تبادرَ الأمةُ قبلها وتقول عنها “ها هي حكومتي”؛ لأن هذا هو المطلوب فيما أرى، وبعكس ذلك ترى الأمةُ في حكومتها قوَّةً ظالمةً مسلَّطَةً على رأسها، أي إنَّ بنية الأمة تكون قد انفصلت تمامًا عن رأسها”([1]).
القوة في الحق
لا يقبل فتح الله كولن أن تركَنَ الحكومة أو الدولة إلى القوَّةِ فحسب؛ لذا يقول:
“القوَّةُ في الحقِّ، وليس الحقُّ في القوَّةِ”
ومع هذا فإنه يرى لِخَلْقِ القوَّةِ حِكمةً؛ ومن ثمَّ فيجب أن تكون الدولة والحكومة قويَّة، إلا أنه وكما يلزم ألَّا تستند إلى القوة بالدرجة الأولى في الإدارة؛ فيجب عليها ألا تُفرِّطَ فترى الحقَّ في القوَّةِ، وألا تُفرِّطَ فتتركَ الحبل على غاربه أيضًا، بل عليها أن تخضعها لأمر الحكمة والقوانين([2]).
لا ينبغي فرضُ احترام الدولةِ وتقدير الحكومة على الشعب بالقوة والإكراه، بل بالجدّيّة والوقار في تصرفات وسلوكيات من يديرون الدولةَ، وصدقهم في أعمالهم وخدماتهم.
العلاقة ما بين القانون والحكمة
يتناول كولن العلاقة ما بين “الحكمة والقانون والقوة” ويقيمها فيقول:
“دساتير الحكمة إن لم تُزوَّدْ بالقوانين والقوَّةِ ظلَّ كلُّ شيء حبرًا على ورقٍ، واستحال أن تؤثِّرَ في الناس التأثير المتوقَّعَ، بالإضافة إلى أن تطبيق الحكمة على الحياة لا يمكن أن يتحقق بسهولة تامَّةٍ؛ وبالتالي فثمَّةَ حكمةٌ في خلق القوَّةِ أيضًا، ولذا يجب أن يحظى كلُّ منهما بما يستحقُّه من الأهمية، فلا بدَّ أن تجتمعَ “الحكمة والقانون والقوَّةُ” معًا ويتحقَّقَ الاتفاقُ بينهما”([3]).
إن فتح الله كولن المؤكِّدَ على أن الدولة والحكومة يستحيل عليها تحقيق سيادِتها وسيطرتها بالشدة والظلم والاضطهاد والخداع يرى أنه:
” لا ينبغي فرضُ احترام الدولةِ وتقدير الحكومة على الشعب بالقوة والإكراه، بل بالجدّيّة والوقار في تصرفات وسلوكيات من يديرون الدولةَ، وصدقهم في أعمالهم وخدماتهم؛ إذ لم يتسنَّ لأيَّةِ إدارة أو حكومة حتى اليوم أن تبقى أو تدوم؛ لا باستبداد الموظفين الظالمين ولا بخداعها الشعوب والجماهير”.
يرى كولن أيضًا أن الحكومات تكون ناجحةً سياسيًّا بقدر حمايتها شعوبَها من الشرور باستخدام قوّتها وسلطاتها وعدالتها، ومثل هذه الحكومات تُبَشِّرُ بمستقبل نجح زاهرٍ.
مقياس قوَّة الدولة
بحسب فتح الله كولن فإن الدولة تكونُ جيدةً وقويَّةً إذا ما جرى اختيارُ جميع البيروقراطيِّين والموظفين العاملين فيها بناءً على نُبْل الجوهر والفكر والحسّ، ويلفت كولن الانتباه إلى ضرورة أن يتحرَّك الموظفون في معاملاتهم في حدود القوانين، ويتَّصفوا بالرِّفق واللين بحسب ما في وجدانهم من رفق ولين، ويُنوِّه بأن التصرُّف هكذا من شأنه أن يحمي سمعتهم الشخصية ويُرسِّخُ في القلوب احترام القوانين والدولة كذلك، وهو يُحذِّر من أن الممارسات القمعية المتشددة تتسبَّبُ في وقوع انفجارات غير متوقَّعة، وأن اللين المُفْرط الزائد يجعل المجتمع بيئة صالحةً لنشوء أفكار لقيطةٍ، ويُفصِّل القولَ أكثر في هذا الشأن فيقول:
“الأساس في الولاة (المحافظين) توفُّر الشفقة والوعي والتحلِّي بروحِ المسؤولية؛ أما في رؤساء البلديات فهو توفُّر النظافة والنظام والقدرة على توفير الأمن العامّ، وأما في القضاء فسيادة فكرةِ الحقِّ والحياد وعزيمة الشجاعة المدنيّة”([4]).
يجب البحث عن الإدارة الجيِّدَةِ والسياسة الرفيعة المستوى لدى أصحاب الأرواح النبيلة والعقول المُفكِّرة وخُدَّام الحقيقة الرافضين التحرُّر منها.
ضرورة الشورى في الحكم
يهتم كولن بالاستشارة في الحكم أيضًا، ولهذا يعتقد ويؤمن بضرورة احترام الأفكار، ولا سيما توفير مناخٍ من الحرية يستطيع الأفرادُ الخبراء في مجالاتهم المخلصون أصحاب النيات الطيبة أن يعبروا في ظله عن أفكارهم، ويؤكد على ضرورة البحث عن سبل وطرق للاستفادة من آراء هؤلاء الناس وأفكارهم حتى وإن كانوا أصحاب فلسفات وأفكار مختلفة، وأنه لا بد من التحاور والالتقاء بهم، ويُركِّزُ أيضًا على نقطةٍ أخرى مهمَّة في هذا الموضوع فيقول:
“ينبغي للإنسان الاستفادة من المعلومات والآراء والملاحظات التي من شأنها أن تنفع نظامه وفكره وعالمه الخاص؛ أيًّا كان مصدرُها، ولا سيما أنه يجب ألا تُهمل الاستفادة من تجارب الخبراء المجربين”.
بقلم/علي أونال
المصدر: موقع النسمات