كل موجود -سواء أكان حياً أم جماداً- يُعد كتاباً. لذا فلم يأت الأمر بصيغة “اُنظر وشاهد” بل بصيغة “اقرأ”، ذلك لأن الكتاب يُقرأ فحسب. وهذا الكون المتألق المملوء بالأحياء التي يُعد كل منها كتاباً.. هذا الكون بمثابة مكتبة إلهية غنية. لذا فبينما كُلّف كل موجود -عدا الإنسان- بوظيفة “الكتابة” كُلف الإنسان بوظيفة الكتابة ثم كُلّف بالأخص بوظيفة “القراءة”.
والعلم عبارة عن معرفة تجليات النظام والعلاقات المختلفة الموجودة بين الأشياء في هذا الكون وتصنيفها وتبويبها. ولا يمكن إرجاع كل هذا النظام وكل هذه الدقة والتوازن في هذا النظام إلى المصادفة العمياء. لذا فلا بد من صاحب وواضع لمثل هذا النظام.. واضع واضح وجوده بأجلى ما يكون الوضوح.
كل موجود -سواء أكان حياً أم جماداً- يُعد كتاباً. لذا فلم يأت الأمر بصيغة “اُنظر وشاهد” بل بصيغة “اقرأ”
قبل وضع أي نظام يتم أولاً تصوره تماماً مثلما يتصور المهندس المعماري تصميمه قبل أن يرسم هذا التصميم على الورق. فإذا وضعنا جانباً التركيب المادي للإنسان ولتفكيره وكيف يؤثر هذا التركيب على تصور الوجود عنده نقول إنه إن كان اللوح المحفوظ هو هذا النظام الشامل الموجود بمقياس الكون، فإن القرآن هو النظام المسجل والمكتوب وهو مرآة اللوح المحفوظ. لذا كان على الإنسان أن يقرأ ويحاول أن يفهم كلما قرأ. قد يخطئ أحياناً في الفهم، ويدخل في تجارب الخطأ والصواب وهو يحاول الوصول بجوهر العلم إلى مرتبة الثقة به والاعتماد عليه.
النظرة شيء والمشاهدة شيء والفهم شيء آخر، ونقش ما تم فهمه وقبوله في القلب وفي الشعور شيء آخر. وبعد كل هذا فإن تطبيق ما قبِله شيء، ودعوة الأخرين لما قبله شيء آخر. أجل، فكل هذه الأشياء المختلفة المتعلقة بالفهم وبالإدراك موجودة على الدوام. ذلك لأن هناك قوانين عديدة في الكون، وهي تجري من قبل واضعها بدقة وتناسق، منها:
1 السيْر من الوحدة إلى الكثرة.
2 وجود التشابه أو الفروق أو الأضداد بين هذه الكثرة.
3 وجود توازن فعال بين الأضداد.
4 التناوب، أي وجود المناوبة في الوظيفة.
5 التعلم والنسيان ثم التعلم من جديد.
6 صرف الجهد والعمل.
7 التحليل والتركيب.
8 الإلهام والكشف.
تنطبق هذه القوانين بأجمعها على الإنسان. لذا كان من الطبيعي وجود كثرة من الناس ووجود التشابه وكذلك الفروق والاختلافات بينهم من ناحية الفكر والنظرة والعقيدة والسلوك والتصرف. ولكن هذه الفروق الفطرية والأضداد ليست ساكنة أو فارغة من المحتوى، بل هي فروق حية وفعالة وضمن إطار من التوازن. لذا كان من الطبيعي أن حركة تستهدف الإيمان فقط تُحرم من العلم، وأن حركة تستهدف العلم فقط تهمل الإيمان وتحرم منه.
لذا كان هناك علم وجهل، إقرار وإنكار، فضيلة ورذيلة، عدل وظلم، حب وبغض، سلام وحرب، حياة متسمة بالكسل والخمول والتواكل، وحياة ترى أن الإنسان يستطيع عمل وإنجاز كل شيء وحده، لذا نراها حياة متسمة بالعجلة والتهور والجنون والشهوة، تقوم أحياناً بالبناء وأحيانا بالهدم.
لذا كان هناك احتمال نسيان ما تعلَّمَهُ الناسُ من ذلك الإنسان الفريد صلى الله عليه وسلم الذي أُرسل رحمة للعالمين، ولكن يجب تذكره من جديد، وتعلمه من جديد. كذلك فإنه في نهاية مثل هذه التجزئة والتحليل والتنويع سيكون هناك تناول جديد ونظرة جديدة وإلهام وظهور جديد.
كل هذا قد حصل ويجب أن يحصل، وهو مستمر في الحصول. فقد أوحيت الأوامر العشرة إلى النبي موسى عليه السلام لتنظيم الحياة الاجتماعية، وألهم عيسى عليه السلام الحلم والشفقة والرحمة والمحبة والصبر والتحمل في العلاقات البشرية، كما ألهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم -علاوة على هذه الأمور- العلم والإرادة والحكمة والتوازن وقابلية التحليل والتركيب في الفكر وأوتي جوامع الكلم والبيان.
إن “اقرأ” رمز للتوحد وللتكامل وللتكميل، ورمز للمشاهدة والتقييم والرؤية إلى جانب الحدس
لذا كانت وظيفة المسلم -بوجه من الوجوه- أكثر مسؤولية وأصعب من وظائف الآخرين. ولكنها أكثر سموّا وألطف بنفس النسبة، لأنها تستلزم إلى جانب الأوامر العشرة وإلى جانب الأسس الاجتماعية من المحبة والصفح والعفو والحلم والشفقة والصبر والتحمل… تستلزم العلم والإرادة والحكمة والتواضع وجمع القلوب وتأليفها، أي تستلزم وتستوجب مرتبة إيمانية عالية.
لذا فإن الكشوفات التي تمت في ساحة علوم الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا (علم الأحياء)، والتقدم الذي حصل فيها على أيدي العلماء والمكتشفين يستحق كل تقدير وتبجيل، لأنها كشفت الكثير من الحقائق المسجلة في القرآن الكريم -المسجل في اللوح المحفوظ- حول العديد من أسس العلاقات الموجودة في أرجاء الكون. ولكن يجب أيضا حفظ الإنسانية وصيانتها من الوقوع في ضلالة الأفكار مثل إنكار خالق الكون وبارئه ومصوره، أو رد وإنكار الإلهام والإرشاد والوحي الإلهي، أو القيام بتأليه الإنسان وجعل إرادته هي الحاكم المطلق.
إن لم تعط اتجاهات جديدة لعلوم الفيزياء والكيمياء والأحياء في ظل القوانين المكتشفة والمستندة إلى التجارب المختبرية، فإن هناك خطرا كبيرا أمام هذا المجتمع الذي بدأ فيه الإنسان -المغرور بهذه الاكتشافات- يتمرد ويحاول التملص من جميع القيود الإنسانية ويزداد جرأة وتقل فيه نـزعة المسؤولية. لذا وجب على هذا الإنسان -الذي أصبح نوعا من أنواع الحيوانات التي تجرى عليه التجارب في المختبرات بعيدا عن المقاييس الإنسانية- أن يتذكر بأنه إنسان، وأن هذا المجتمع ليس مختبرا لإجراء التجارب المختبرية عليه.
من المهم تخليص العلوم الحالية من الجمود والخمود ومن العبثية، وهذا يساعد على فهم مسألة المواضيع التي يهتم بها العلم بوضوح. كما يؤدي إلى قيام الإنسان بأداء ما يقع ضمن حصة إرادته وذهنه، ويستطيع آنذاك مشاهدة مكتسبات أحاسيسه وقلبه مشاهدة باطنية. عندئذ ينقلب المثقف إلى لسان فصيح وإلى قلب يستطيع قراءة الكون الموجود والموضوع أمامه ككتاب مفتوح سطرا سطرا. علما بأن من المستحيل تجاهل أن الكون لا يختلف عن كتاب، ولا سيما في الأوامر التكوينية، أي أوامر الخلق، حيث أن “القلم” كان أول ما خُلق،[1] لذا كان أول أمر في القرآن المنـزل هو “إقرأ “.
ولكن هذه المسألة ليست سهلة كما تبدو للوهلة الأولى، فمع وجود نظرة تقول بأن الإحساس والشعور يكون قويا بنسبة قوة الأحاسيس الظاهرية والباطنية، إلا أن وجود أي عارض في إحدى الحواس يؤثر سلبيا في الحواس الأخرى.
لذا نرى أن الصمم والعمى والبكم يرد معا في آيات القرآن ذي البيان المعجز.[2] لأنه مع كون قراءة الأوامر التكوينية بالعين ممكنا، إلا أن السمع هو الحاسة المملوءة بالأسرار التي تنعكس عليها الأوامر التنـزيلية أولا. أما اللسان فهو الذي يقوم بترجمة هذه المشاهدة وهذا السمع. لذا فمن لا يستطيع مشاهدة الآيات في الآفاق وفي النفس لا يستطيع سمع ما يتناهى إلى أذنيه، ولو سمعه لما فهمه. كذلك فإن القلب غير المتصل بالأوامر الإلهية لا يفهم ما يطرق سمعه ويرى أن من العبث الانشغال بالشريعة الفطرية.
إذن فإن “اقرأ” رمز للتوحد وللتكامل وللتكميل، ورمز للمشاهدة والتقييم والرؤية إلى جانب الحدس، وتعبير لساني عن هذه المعرفة الباطنية، وهو يحمل دلالات كبيرة لنا لكونه أول أمر موجه إلينا.
لقد أطلنا شرح هذا الموضوع لأهميته وربما خرجنا عن الصدد أحيانا وتناولنا مواضيع أخرى. نأمل أن تكرار مطالعته والتفكير فيه وتحليله قد يعطي لنا بعض العذر في هذه الإطالة والخروج عن الصدد.
بقلم/ فتح الله كولن
المصدر: موقع النسمات