مقدمة
يعتقد كثير من الباحثين أن صناعة الحضارات الإنسانية تبدأ من منهج البحث العلمي القائم على النظر في مكونات الوجود، وتوظيف التقدم العلمي في سبيل تحصيل المعارف الجديدة، وإعادة تقديمها وتطويرها وتسخيرها لبناء مقومات حياة الإنسان.
والنظر المنهجي الدقيق يوقفنا على أن هذا ليس هو سبيل صناعة الحضارات التي تحقق للإنسان سعادته الحقيقية، أو الانتقال به من الشقاء إلى الطمأنينة والهناء، ومن الفقر إلى الغنى والرخاء، ومن التخلف إلى العلم والنماء.
إن اعتقادًا من هذا النوع يؤكد قصور الوعي على حقيقة النفس الإنسانية التي خلقها الله تعالى، وجعل ميزانها الروح الجامعة بين القلب والجسد، كما يؤكد أن أي بناء حضاري يشيده الإنسان اليوم سيبقى قاصرًا عن تلبية الحاجات الأساسية التي تربط الإنسان بفطرته وحقيقة خلقه التي تحركه نحوها دوافعه وشهواته.
ما أسعد أولئك الذين يبحثون عن وسائل لإنقاذ غيرهم مثلما يبحثون عنها لإنقاذ أنفسهم. وما أسعد الذين لا ينسون أنفسهم في خضم العمل لإنقاذ غيرهم.
إن مادة أي حضارة ينبغي لتثمر وتستمر وتربط صاحبها بحقيقةِ ما بعد موته أن تقوم على أساس التصور الإيماني السليم، وليس أصدق في تأكيد ذلك من منهج بناء الحضارة الإسلامية الذي يقوم على تغذية الروح بحفظها من تفلتات النفس الشهوانية بمستوى ما يؤكده هذا المنهج من أهمية للبناء العلمي البحثي المعرفي.
ويختصر التصور الإسلامي هذه المعادلة بمفهوم قيمي يتحقق من خلال تصور وسلوك وعمل وأخلاق؛ ويقدمها من خلال مصطلح المجاهدة.
وإذا كنا اليوم أمام مشاريع ناهضة تحمل على عاتقها مسؤولية البناء المجتمعي، وتحقيق الشهود الحضاري للأمة الإسلامية، فإننا أمام تحديات كبيرة نُسائل فيها عن البرامج الروحية البانية لهذه المشاريع والمكونة لها؛ لننظر أين المجاهدة في هذه المشاريع؟ وما أهميتها لهذه المشاريع؟ وما صلتها بالإنجازات الميكانيكية التي تحققها هذه المشاريع؟
كلها أسئلة تفرضها مقتضيات الإجابة على سؤال العمل الحضاري.
وفي هذه الدراسة المختصرة سأقدم توضيحات حول مفهوم المجاهدة وصلتها بالجهاد، وبيان مؤشراتها القرآنية، وبيان صفات أصحاب المجاهدة ممن يحملون هم تقديم الخدمة الإيمانية للبشرية، وبيان آثار المجاهدة وتجلياتها الفردية والمجتمعية والحضارية. كل ذلك من خلال نموذج عملي حركي فاعل عرفته بنفسي، مما شاهدته وعايشته ولامسته عن قرب في فكر الخدمة وإنجازاتها، وفي كتابات الأستاذ المفكر الكبير فتح الله جولن حفظه الله.
رجل الحقيقة
من هنا تبدأ المجاهدة من الوعي على حقيقة وجود الإنسان، الإنسان المكلف بحمل أمانة عمارة الأرض، الإنسان الذي يملك الإجابة على الأسئلة الوجودية الكبرى: من أنا؟ من أوجد هذه المخلوقات جميعها؟ ما الأمور المكلف بالقيام بها؟ ما مصيري ومآلي؟
يعرفنا به الأستاذ فيقول: هو “رجل يستطيع مجابهة ومقاومة كل الدواهي ببدنه وبأعصابه الفولاذية. أما فكره وعقله فقد مَزج في بوتقة واحدة معارفَ ومفاهيمَ عصره بالحقيقة الأزلية وصهرهما معًا، أي هو مثل عالم كيميائي ينشئ في كل آن تركيبة جديدة. أما ملكاته الروحية والقلبية فهي بنفس نكهة القابليات والملكات التي سحَّت من أمثال مولانا جلال الدين الرومي ويونس أمره إلى بوتقة واحدة وانصهرت فيها ونضجت. أي هو في النهاية قلب ناضج عارف، بينما يرى نفسه إنسانًا وفردًا عاديًّا بين الناس. فإنه يستطيع أن ينسى بل يضحي بلذاته وحظوظه من أجل خير وسعادة الآخرين”(1).
نعم. إنه الرجل الذي يحقق الانتساب الإيماني أي “الانخراط الوجداني في سلك العبودية لله إيمانًا وعملًا؛ بما يحقق للإنسان معنى الإضافة إلى الله في صفة “عبدالله” (2).
هو ذلك الرجل الذي يحمل الهم، وتشعله الهمة، فيتحرك لأداء المهمة، إنه رجل الدعوة، “رجل ارتبط قلبه بدعوته ارتباطًا لا يتردد معه السباحة في بحور من الدم والصديد من أجلها. وهو ناضج إلى درجة أنه عندما يصل إلى هدفه يزهد بكل شيء، ويعطي كل صاحب حق حقه. هو مؤدب غاية الأدب تجاه خالقه، كل نفس يتنفسه في سبيل الدعوة ذكر وتسبيح، وكل فرد من أفراد الدعوة مبجل وعزيز عنده، يشكرهم على خدمة ناجحة يقدمونها للدعوة ولكن دون إفراط. لأنه يؤمن بإرادة ربه. أي هو رجل متوازن. عندما تكون هناك خدمة لا يتقدم أحد نحوها يرى نفسه مسئولًا عنها قبل الجميع. هو منصف ويحترم كل من يعين الحق وينصره ويعمل في سبيله. عندما تنهدم مؤسساته وخططه، وتتمزق وحدة جماعته وتتفتت قوتها لا يفقد إيمانه ولا أمله وتفاؤله، بل يحاول التحليق من جديد. وعندما ينجح في التحليق ويصل إلى الذرى، لا ينسى التواضع والمسامحة. هو شخص واقعي وصاحب بصيرة يعرف منذ البداية أن هذا الطريق وعر وشاق، ولكنه صاحب عزيمة وإيمان يرى معه أن طريقه لو ملئت بحفر من حفر جهنم فإنه يستطيع قطعها. هو عاشق متوله يحب دعوته التي وضع روحه في كفه من أجلها. وَفيٌّ لها وفاءً يضحي بسببه في سبيلها بروحه وبكل ما يملك دون أن يخطر على باله أبدًا أنه قام بأي تضحية”(3).
مفهوم المجاهدة
يسيطر مصطلح الجهاد بمفهومه المحدود على آراء كثير من الباحثين والكاتبين والمفكرين، فيحملونه على معنى القتال فحسب، مما أدى إلى ارتباطه وحصره في معنى ضيق أدى إلى ضمور فكرة المجاهدة ودلالاتها الواسعة، بما تشمله من مناحي حياة الإنسان وأعماله في مستواه الفردي ومستواه الجمعي.
الجهاد موازنة بين فتح الداخل والخارج. ففيه بلوغ الكمال ودفع الآخرين إليه. فبلوغ الإنسان ذاته جهاد أكبر ودفعه الآخرين إلى الكمال جهاد أصغر.
وهذا يستدعي منا ومن مفكرينا إعادة النظر في تموقع المصطلح ودلالته واستعمالاته، ليستعيد عافيته ودوره في البناء الإنساني والإعداد القيمي والسلوكي.
وقد قدم الأستاذ جولن رؤية تصورية وعملية حول مفهوم المجاهدة وصلتها بالجهاد من خلال عدة قضايا ومسائل تناولها في مقالات ومؤلفات متعددة، سنحاول هنا تجليتها قدر المستطاع
يقول: “الجهاد كلمة مشتقة من جذر: جَ هَ دَ، وهي تعني بذل الوسع، والكلمة تحمل معنى آخر وهو بذل الإنسان كل ما في وسعه وطاقته وتحمّله المشاقّ في سبيل الوصول إلى هدف معلوم. وهذا التعريف أقرب إلى معنى الجهاد بمعناه الشرعي.
إن مفهوم الجهاد في سبيل الله يجري في جبهتين اثنتين: الأولى موجهة إلى الداخل، والأخرى موجهة إلى الخارج. ويقول: “إن بذل الجهد إلى الداخل عبارة عن عملية إيصال الإنسان إلى ذاته وإلى ربه. أما الجهاد الآخر الموجه إلى الخارج فهو عملية إيصال الآخرين إلى ذواتهم وإلى ربهم. ويطلق على الأول (الجهاد الأكبر) وعلى الثاني (الجهاد الأصغر). حيث إن الإنسان بالأول يبلغ معرفة نفسه بعد اجتيازه العقبات بينه وبين نفسه حتى يبلغ معرفة الله ومحبة الله والذوق الروحاني. أما بالثاني فتتحقق إزالة الموانع بين الإنسان والإيمان بالله سواء بالنضال أو القتال، لإيصاله إلى الله تعالى ومن ثم التعرف عليه والعروج في معرفته.
والجهاد من زاوية أخرى هو غاية خلق الإنسان، فلا مهمة على الأرض أفضل منها. إذ لو كان الأمر خلاف هذا، لما كان الله عز وجل يرسل أنبياءه بتلك الوظيفة. فجميع الأنبياء والأصفياء منذ آدم عليه السلام قد بلغوا -بصورة عامة- مرتبة الاصطفاء والاختيار إمَّا تحت ظلال السيوف أو بمحاسبة النفس” (4).
“حسب المفهوم الشامل للجهاد؛ فإن الجهاد الأكبر هو الطريق الذي يسلكه الإنسان طوال حياته، أينما كان وكيفما كان، وفي أي ظرف كان، بينما الجهاد الأصغر هو مزاولة الإنسان له إذا اقتضت الظروف، ويكون في أوقات معينة وبين حين وآخر”(5).
“نعم، إنه لا يمكن أن يذوق النصرَ إنسانٌ لا يعيش في نفسه تلك الحقائق التي ينافح ويذبُّ عنها في كل ميدان يخوضه. لذا ينبغي لأبطال الجهاد أن يحققوا الجهاد في أنفسهم أولًا ويظلوا معها في جهاد مستديم حتى يكونوا أخرويين يسيحون في منازل الآخرة وهم ما زالوا في هذه الدنيا. ومن بعد ذلك عليهم أن يسعوا لإسعاف القلوب الظمأى إلى الحق والحقيقة”(6).
“وهذا السبيل سلكه المنعَم عليهم من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين من المسلمين على مرِّ تاريخهم، لذا أعطى الله عز وجل لكلامهم قوة وتأثيرًا، بناء على إخلاصهم لله وصدقهم معه، حتى جعلهم يحيون -منذ عصورهم إلى الآن- بآثارهم الطيبة وذكرياتهم الجميلة، وشرح الله صدور المؤمنين لهم، وكأنه خلدهم بسجل حسناتهم”(7).
ولو ذهبنا بعيدا عن تصنيف الأستاذ للجهاد بالأصغر والأكبر ومقصوده من ذلك، فإننا نلمس شمولاً منهجيًّا واضحًا في التعامل مع أصل تشكيل مصطلح المجاهدة وما يتصل به من أداء شامل لكل أعمال الإنسان.
ويضيف الأستاذ توضيحا أعمق إذ يقول: “وللجهاد وجهة أخرى تضم المجتمع بأكمله وتحتضنه، وهو جانب مهم جدًا، إذ الإنسان جزء من المجتمع الذي يعيش فيه، والمجتمع بدوره يتألف من الأفراد. فالمجتمع الذي يهدف كل فرد فيه إلى جهاد نفسه أولاً لدى أدائه فريضة الجهاد، لهو مجتمع متماسك مترابط، تنسد أبوابه أمام عوارض الزمن ونوائب الدهور. حيث أتم كل فرد فيه مهمته وأعدَّ عدته المادية والمعنوية، فلا يمكن أن يصدّهم شيء عمّا يسيرون إليه”(8).
“لذا فالمؤمنون الذين يعيشون مع هؤلاء الذين يجوبون في وديان الضلالة ويبحثون عن طريق للخلاص ويضيّعون حياتهم في سبيل العدم، مضطرون إلى أداء فريضة الجهاد مع هؤلاء الذين يشاركونهم العيش في سفينة الحياة الواحدة. فهذا فرض في أعناقهم من حيث كونهم بشرًا. ومن جهة أخرى فهو فرض ألقاه الله عليهم وكتبه لهم. فكل إنسان مكلف بأداء هذه الفريضة ضمن إطار موضعه وموقعه وأحواله، وحسب إمكاناته وطاقته. وبخلافه يكون حسابه عسيرًا يوم الحشر الأكبر”(9).
ويضيف توضيحا أدق لفكرته فيقول إجابة على الأسئلة الحائرة: “الجهاد الأصغر ليس هو شكل الجهاد الذي يُؤدى في جبهة القتال فحسب، فهذا النمط من الفهم يُقلِّص أفق الجهاد، حيث إن ميدان الجهاد واسع جدًا يمتد من الشرق إلى الغرب، وعلى سعته وشموله قد يكون كلمة واحدة أو سكوتًا وصمتًا أو تبسمًا وطلاقة وجه أو امتعاضًا ونفورًا أو تركًا لمجلس أو مشاركة فيه. وباختصار هو القيام بأي عمل من الأعمال لوجه الله، وتقويم الحب في الله والبغض لله في هذا السبيل. ومن هنا فإن كل جهد يبذل لإصلاح المجتمع في أي ميدان كان من ميادين الحياة ولأي شريحة من شرائح المجتمع. كل ذلك هو من مضمون الجهاد الإسلامي.
بمعنى أن ما يؤدى في ميدان العائلة والأقارب القريبين والبعيدين والجار الجنب والصاحب بالجنب، كل ذلك هو من الجهاد الأصغر. فهي كَدَوائرَ متداخلة واسعة سعة الأرض كلها. نعم، إن الجهاد الأصغر في معنى من معانيه جهاد مادي. أما الجهاد الأكبر الذي يشكل الجانب المعنوي من الجهاد فهو جهاد الإنسان لنفسه وعالمه الداخلي. فمتى ما أوفى حق هذين الجهادين معًا فقد تأسس التوازن المطلوب. وبخلافه، أي إذا ما نقص أحد هذين الجهادين اختلت الموازنة الموجودة في روح الجهاد.
فالمؤمن هو الإنسان الذي يجد هدف حياته ضمن هذه الموازنة في أدائه الجهاد، ويدرك أنه متى ما ترك الجهاد فقدْ فَقَدَ الحياة. نعم، المؤمن كالشجرة المثمرة تحتفظ بحيويتها طالما تثمر، وإذا انقطعت عن الإثمار يبست وفَنَتْ.
التضحية من أهم مميزات رجل الخدمة؛ فمن لا يعزم على التضحية ولا يأخذها في اعتباره لن يكون رجل خدمة أبدًا، ومن لم يكن رجل خدمة فليس هناك أي احتمال أمامه للنجاح.
إذا شئتم أمعنوا النظر في وجوه جميع المتشائمين، تجدونهم قد تركوا الجهاد، فقطع المولى الكريم عنهم فيوضاته لأنهم لا يبلِّغون الحق والحقيقة إلى غيرهم. فأظلم عالمهم الداخلي وغدا قاسيًا جاسيًا. وانظروا إلى المجاهدين تجدونهم في نشوة وحبور دائمين وعالمهم الداخلي مملوء بالنور ومشاعرهم نابضة بالحيوية والرقة، لما يسعون إليه من تحويل الفرد الواحد إلى الألف، نعم إن كل جهاد يولِّد لديهم جهادًا آخر، وكل خير يكون وسيلة لخير آخر، لذا فهم يجولون ويصولون في الخيرات. والآية الكريمة تفهّم هذه الحقيقة في وجداننا:
}وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ{(العنكبوت:69)”(10).
بين الجهاد والمجاهدة
قد يتصور البعض أن الحديث عن المجاهدة طريق للتفريط في الحديث عن الجهاد بمفهومه المحدود الذي يدور عليه الفكر الإسلامي اليوم، إلا أن الحقيقة تبرز من خلال قراءة سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإن الجهاد بمفهومه الواسع هو رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو الذي بلّغ الإنسانية جمعاء نظرة الإسلام في “أنّ الحفاظ على العرض والشرف وعلى الوطن والأمّة وحراستها والكفاح في سبيلها جهاد، وأنّ الجهاد أسمى ذروة في سُلَّم أداء وظيفة العبودية لله تعالى”(11).
يقول الأستاذ: “فإنْ كنَّا لا نسارع للجهاد من أجل إعلاء الدين الإسلامي المبين أو لا نستطيع ذلك، وإذا كنَّا لا نصاب بالأرق جرَّاء انسحاقنا تحت صولة الكفر ومن جرَّاء غلبة الباطل على الحق ولا نحسُّ بألم عميق. فليس هناك من يجب إلقاء اللوم عليه إلا أنفسنا. لذا يجب على كلٍّ منَّا أن يعيب نفسه ويتهمها”(12).
وبسبب اختلاط الكثير من المفاهيم والتباسها في هذا العصر بسبب التخلُّف الفكري وضغوطات الاستبداد السياسي والقمع العسكري، فقد شدَّد الأستاذ جولن على وجوب التفريق بين الجهاد -بمفهومه الخاص والعام- والإرهاب، والتأكيد على أن البلاغ يقوم على احترام الحرِّيات وليس على القسر والإكراه والإرهاب، حيث قال: “تؤدَّى هذه الوظيفة المقدسة ضمن منهج الأفراد والأمم والدول، إذ المسلم عنصر أساس في نظام العالم، فكما لا نظام في عالم ليس فيه مسلم، كذلك لا إرهاب ولا فوضى في المواضع التي يوجد فيها مسلم. وهذا منوط بقيام المسلم بوظيفته وأدائها حق الأداء”(13).
المجاهدة تحتاج إلى صدق العلاقة مع الله
إذا كنا نؤمن أن المجاهدة مشروع حيوي روحي حركي يعيشه الإنسان ليتحرك في أداء مهمته، فمن الضروري معرفة مفتاح هذه العلاقة التي تمكن هذا المشروع في نفوس أتباعه والقائمين على تقديم الخدمة الإيمانية للإنسانية جميعها.
“إن أقوال وأحوال المبلغ تكون مؤثرة بقدر إخلاصه، فإن انعدم الإخلاص فلا تأثير لفخامة الكلام واحتشامه. حتى يصح أن نقول: إن الاهتداء ليس له علاقة قوية بالتبليغ والإفهام. لأنه بِيَدِ الله عز وجل. فإن لم يرد الله الهداية لشخص لا يكون أحد وسيلة لها قط. وفي القرآن الكريم:}إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ{(القصص:56).
لذا فأصل المسألة هي الارتباط بالله الذي له مقاليد خزائن الغيب والحاضر، والهداية خزينة عظيمة فمفتاحها أيضًا بيده بلا شك. فالألزم إذًا للمبلِّغ أن يلجأ إلى القدير الذي بيده مفاتيح كل شيء في أثناء تبليغ شيء ما إلى المخاطب بإخلاص تام. ولقد أتى ورحل من هذه الديار ذوو عقول جبارة، أتوا ورحلوا، وعلى الرغم من مستواهم الرفيع في البيان والخطابة، لم يتمكنوا من جمع بضعة أشخاص على أمر جادٍّ، فلم يكونوا مخلصين في بعض نواحيهم، حيث كانوا يتصورون أن كل شيء من عندهم ويربطون كل نتيجة بأنفسهم. فيهم دهاة في البيان، كانوا يستطيعون أن يجعلوا ألوفًا يسيرون وراءهم ولكن لم يحصلوا على شيء لتلوثهم بالنفاق، ففيهم من يتكلم عن الصلاة وهو لا يصلي، وفيهم من يتناول شرح حسن الإسلام ولا يعيش به، لسانهم يغرد كالبلبل وقلوبهم تنبض بالحقد والكراهية والأغراض الشخصية. ومن هنا عدّ القرآن الكريم النفاق في الدرك الأسفل من النار. ولهذا فإنّ على كل مبلِّغ مخلص أن يسجد لله خمسين مرة ويلجأ إليه من احتمال دخول النفاق فيه ويتوسل إليه ليرزقه الإخلاص”(14).
المجاهدة والتضحية
و”الخدمة” اليوم تقيم مشروعها الذي تقدم فيه القيم الإيمانية الإنسانية للبشرية برؤية ديناميكية تتغلغل إلى محركات الإنسان ودوافعه ومحفزاته، ليكون قادرًا على التضحية من أجل القيام بهذا الواجب متجاوزًا كل العقبات والتحديات.
يقول المفكر محمد أنس أركنه: “من آليات حركة فتح الله كولن وديناميكياتها الداخلية خصلة (التضحية والإخلاص). وقد يقول أحدهم: ولماذا تجعل هذه الصفات من مميزات حركة فتح الله كولن مع أنها صفة موجودة في العادات والتقاليد الإسلامية؟ وجوابًا على هذا نقول: إن فتح الله كولن مثلما وسَّع المفاهيم الأخرى كذلك وسَّع هذه الخصال، فهو لا يرضى بالحد الوسط من هذه الخصال في حركته، بل يريد الأفق الأخير لما تستطيع هذه الخصال الوصول إليه. لذا يرد في العديد من كتاباته عند ذكر هذه الخصال تشبيهات مثل: “رجل الخدمة كالجواد الأصيل الذي يعدو حتى يكاد أن ينشق صدره، أو كالنسر الذي أفرد جناحيه للطيران… إلخ”… “التضحية من أهم مميزات رجل الخدمة؛ فمن لا يعزم على التضحية ولا يأخذها في اعتباره لن يكون رجل خدمة أبدًا، ومن لم يكن رجل خدمة فليس هناك أي احتمال أمامه للنجاح. أجل، عليه أن يستعد للتضحية بماله أو بنفسه أو بمنصبه أو بأولاده وعياله أو بشهرته وجاهه. وعندما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة بإرساء قواعد رسالته، قام أولًا بنفسه بالتضحية، وكان قدوة لأصحابه الذين آمنوا بدعوته، حيث نفث فيهم روح التضحية والفداء، وكان قدوة حسنة لهم في هذا الأمر”(15).
كل تصرف للمؤمن الحق قائم على محور العبادة، وكل جهد له ذو بُعد جهادي، وكل حملة وجهد له متلون بالعقبى والرضا. فلا محل في حياته للفصل بين الدنيا والعقبى.
دافع المجاهدة
ويبقى السؤال العملي؛ سؤال الإرادة المقلق: كيف تتشكل عند الإنسان هذه الدافعية للتضحية؟ وهل يمكن للمجاهدة أن تصنع في نفس المُضحي هذه الدافعية للبذل والعطاء وتقديم الخدمة؟
وقد ينتظر الكثير إجابة نظرية تصورية تأصيلية على هذا السؤال!
لكنني أقول: إن الواقع العملي الذي قدمته الخدمة في تشكُّل هذه الدافعية الموجهة للتضحية والبذل بما صاغته من أدوات المجاهدة وآلياتها لهو خير دليل على صدق الهدف وقيمته في ميزان الدعوة إلى الله عز وجل.
ولعل أهم ما يشكل هذا الدافع هو السعي لمرضاة الله تعالى. أضف إلى ذلك الهم الذي يتشكل في قلوب العاملين فينعكس على أعمالهم وتضحياتهم؛ فإذا غاب الهم من وجوه المسلمين غاب البذل وغابت التضحية.
يقول الأستاذ: “تعرَّض الإسلام منذ حُرِمنا من إرث الأرض إلى معاملة يتفطر لها القلب في برزخ ضعف المنتسبين إليه وتعدي خصومه وعدم إنصافهم. وليس مستغربًا أن يكون الظلم والغدر شعار الطرف الآخر، لكن ضعف المسلم لا يحتمل ولا يطاق. ولعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلى هذا حين يستعيذ بالله من جَلَد الفاجر وعجز التَّقي”(16).
نعم هو الدافع الإيماني الذي يثق بموعوده كلُّ العاملين المخلصين، “فمحال لدى الرحمة الإلهية ووعده القاطع أن تمس النارُ هاتين العينين -التي تحرس أحدهما وتبكي الأخرى- كمحالية عودة اللبن إلى الضرع! وواقع من يجاهد في سبيل الله أشعث أغبر لا يختلف عن هذا، فقد بشّر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة أن النار وهذا الغبار والتراب في سبيل الله لا يجتمعان.
نعم لا تمسّ النار تلك العيونَ التي تذرف الدموع ساخنة من خشية الله، وتحرس وتراقب مواقع دخول العدو مرابطة في الثغور والمواقع الخطرة. فالذي ينذر نفسه لهذه الأمور ويجابه المهالك التي تحدق بالبلاد ويتصدى لها بإنشاء مؤسسات يتربى فيها أبناء أمته بمستوى يليق بالإنسان، ويتجافى عن حظوظ نفسه وأذواقها لأجل الآخرين ويستطيب راحة الآخرين وعيشهم الهنيء.. فهؤلاء لا تمسُّ عيونَهم النَّارُ. وعلى هذا فالذين يرون الجهاد جدالًا ونقاشًا هنا وهناك إن لم يراقبوا أعمالهم ويقوِّموها بموازين الجهاد الذي ينادون به، فإنهم لا يعملون إلا لقتل الوقت وخداع أنفسهم.
فالذين لم يحسموا الأمر مع نفوسهم ولم يلجموها بالمراقبة الدائمة ولم يرغموا أنف الرياء ولم يسحقوا روح الافتخار ولم يجعلوه تحت أقدامهم، ولم يقلعوا من أرواحهم الكبر على الآخرين والتظاهر أمامهم. فأعمالهم لا تنفع شيئًا سوى كونها مصدرًا لإحداث القلاقل والاضطرابات.
ومن جهة أخرى فالذين ينسحبون من الميدان ويقبعون في زاويتهم آخذين نصيبهم من الجهاد من جهته المعنوية وحدها ويقولون: لا يصح الانشغال مع الغير قبل الجهاد مع النفس، فهؤلاء الذين يرون إحراز درجات معنوية لأنفسهم وبلوغ المراتب الرفيعة التي يرونها فوق كل أمر، ويعزفون عن ارشاد الناس، هم بلا شك على خطأ واضح حيث يخلطون الإسلام بالروحانية الصوفية (ميستيزم).
إن الفكر المهيمن على القائلين بإصلاح أنفسهم قبل دعوة الآخرين مكتفين بالجانب المعنوي من الجهاد فحسب هو: أن كل إنسان يحاسَب بمفرده “فكل شاة تُناط برجليها”، كما في المثل العامي المشهور. وإن من لم يصلح نفسه أعجز عن إصلاح غيره. لذا على المرء أن يلتفت إلى إصلاح نفسه أولًا.
فنقول لمن يستغرقه هذا الفكر: اعلم أن الإنسان حينما يظن أنه أنقذ نفسه فقد وقع من فوره في أخطر دوامة، فمن يطيق أن يدعي خلاص نفسه والقرآن الكريم يقول: }وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ{(الحجر:99).
نعم إن الإنسان مكلف بالعبادة حتى الرمق الأخير، فلا يستطيع أن يحجم عن أي عمل كان في معنى العبودية لله تعالى، حتى يرفع الستار ويُدعَى إلى العالم الآخر. فكيف يمكن لمن تستمر عليه مهمة التكليف هكذا أن يقول: أكملت إنقاذ نفسي؟
والمقصود أن جهاد الإنسان مع نفسه وسعيه لتطهيرها وتزكيتها من الأخلاق الرذيلة، ومحاولة إصلاحها وتقويمها يدوم ما دامت فيه الحياة”(17).
تجليات المجاهدة الإيمانية
وقد يسأل أحدنا عن المجاهدة وهل لها من أصل في نفوسنا وفي فطرنا التي فطرنا الله عليها؟
الحاجة اليوم ماسة إلى صدور متسعة تحيط بالتفكير الحر وتنفتح على العلم والبحث العلمي وتستشعر التوافق بين القرآن وسنة الله على الخط الممتد من الكائنات إلى الحياة.
يقول الأستاذ جولن: “إن أساس حياتنا المعنوية قائم على الفكر الديني والتصورات الدينية. ولقد حافظنا على وجودنا حتى اليوم بهذا الأساس، وكانت وثباتُنا أيضًا منطلقة منه. فإنْ جرَّدْنا أنفسنا منه، فسوف نجد أنفسنا متخلفين ألف سنة إلى الوراء.
إن الدين الذي يهدف إلى غايات مثل إضفاء المعنى على الإنسان والكائنات، والانفتاح على الروح الإنسانية والذات، وتحقيق الرغبات الممتدة إلى ما وراء الدّنى، وإشباع حس الأبد في الوجدان. ليس منحصرًا على العبادات. إنه يحتضن الحياة الفردية والاجتماعية جميعًا. ويتدخل في كل شيء لنا: عقليٍّ وروحيٍّ وقلبيٍّ. ويصبغ بصبغته كل تصرف لنا حسب نيتنا، ويسربل بلونه كل شيء. نعم، كل تصرف للمؤمن الحق قائم على محور العبادة، وكل جهد له ذو بُعد جهادي، وكل حملة وجهد له متلون بالعقبى والرضا. فلا محل في حياته للفصل بين الدنيا والعقبى. ولا برزخ بين قلبه وعقله. وعواطفه ومنطقه مزيج واحد. ولا تتناكر محاكمته العقلية مع إلهاماته. كذا، التجربة والخبرة في عالم فكره سُلّمٌ من النور يتصل بالعقل، والعلم برج عال بحسابات الفراسة. فهو نسر يحلق إلى اللانهاية دومًا بأجنحة العشق العملاقة في هذا السلّم، وحلّاج يندف قطن الوجود ندفًا بفطنته في هذا البرج. وحيث لا فراغ في أي زاوية من زوايا هذا الفهم، فلا كلام عن إهمال الإنسان الفردي أو الاجتماعي في هذه المنظومة”(18).
ويضيف “شعارنا في هذا المضمار النفير والإقدام، ومصدر قوتنا الإيمان والحقيقة. لقد أخفق دومًا الذين داروا بنا على الأبواب الأخرى على أمل الشفاء من الأدواء بالانفلات من الإيمان ومن الأخلاق. ولقد نلنا نحن الشرف، وبقينا شرفاء، بفضل الله الذي ارتبطت قلوبنا به، وفي ظل تسليمنا وانتمائنا إلى أمتنا التي رجحناها على كل شيء دنيوي وبلادنا التي وُجدنا في صدرها ونشأنا في حضنها. ولا أظن بأنني في حاجة إلى شرح الواقع بعكس الحال!”(19).
ومن أعظم تجليات المجاهدة أنها تُبين للإنسان هدفه وطريقه، وأنها تحميه من الذوبان الذاتي لأنها تدفعه يوما بعد يوم للحركية والفاعلية.
و”يمكن تلخيص خط كفاحنا كورثة الأرض بكلمتي الحركية والفكر. وإن وجودنا بوجهه الحقيقي يمر عبر الحركية والفكر. حركية وفكر يغيران الذات والآخرين. ومن وجهة أخرى، يبدو كل وجود وكأنه حاصل حركة ومجموعة أنظمة، وبقاؤه مرتبط بالحركة وبتلك الأنظمة.
وإن أهم شيء وأشده ضرورة في حياتنا هو الحركية. فمن الضروري أن نتحرك على الدوام في ظروف قاهرة نضع أنفسنا تحت ثقلها بأنفسنا، لنحمل فوق ظهورنا واجبات ونفتح صدورنا أمام معضلات، الحركية المستمرة والفكر المستمر، ومهما ضحينا في هذا السبيل. فإن لم نتحرك نحن، فسندخل في تأثير الدوامات الفكرية والبرنامجية لأمواج هجمات الآخرين وأعمالهم الحركية، ونضطر إلى تمثل فصول حركاتهم.
إن السكون الدائم يعني إهمال التدخل فيما يحدث حولنا، وترك المشاركة في التكوينات المحيطة بنا، والاستسلام للذوبان الذاتي رغمًا عن أنفسنا كقطعة جليد سقطت في الماء. وتعاجزنا عن حماية جزيئاتنا الذاتية في هذا الذوبان، يعني التسليم لأي تكوين أو حادث يناقض ذاتنا ويضاد جوهرنا.
ينبغي على الذين يبرمجون لبقاء الذات أن يطلبوه بكل رغباتهم وميولهم وقلوبهم ووجدانهم وحركاتهم وأفكارهم، لأن حضور الوجود يقتضي توترًا تامًا في الجوهر الإنساني. نعم، يقتضي الوجود بداية، ثم إدامة الوجود، ذراع الإنسان وجناحه وقلبه ورأسه. ونحن إن لم نضحِّ منذ الآن بقلوبنا ورؤوسنا من أجل وجودنا في الغد، فسيطلبها منا الآخرون بوقاحة في مكان وزمان لا نفع لنا فيه قطعًا.
إن أهم مميزات الحركية الإسلامية والفكر الإسلامي هو أن يكون وجودنا ذاتنا، وأن نجعل مطالبنا مطالب العالم ورغباته، ثم نجد مجرى حركة لنا في عموم الوجود ونسيل بذاتنا في مجرانا الخاص ضمن مجريات عموم الكائنات، (ويعني الحفاظ على خطنا الخاص إذ نتكامل مع الكائنات كلها).
ومن لا يرتبط باعتبار عالمه الخاص بعموم الوجود، ولا يحس بعلاقاته مع الكائنات، وينكفئ في روابط مطالبه الفردية والجزئية في مواجهة الحقائق الشاملة للعالم، فإنه يقطع أواصر ذاته عن الوجود كله، ويجردها، ويسقطها في حبس الأنانية القاتل، ولا شبهة في أن الباعث على انقطاع الإنسان عن الوجود وبقائه وحيدًا بذاته، هو: الشهوات البدنية والصراعات الواقعة في أطرافه الجسمانية، وكل سلوان فارغ الفحوى وذي بعد وهمي، يرجع في جذوره إلى تلك الشهوات البدنية والصراعات الجسمانية.
إن دنيا رجل الحركية والفكر الحقيقي، وسعادته في دنياه، ذات تلونات عالمية الشمل مؤطرة بالأبد.فكأن دنياه لا بداية لها ولا نهاية، أو أنها تتجاوز تصوراتنا. ولذلك، نتذكر أمثال أولئك حينما نقول “الإنسان السعيد”. وهل تسمى “سعادة” بحق سعادة لها نهاية أو بداية؟
إن الحركية -من مقترب أفضل- هو احتضان الإنسان للوجود كله بأصدق وأخلص القرارات، والتدقيق فيه، والسير من خلال المعابر التي فيه إلى اللانهاية، ثم إحلال دنياه في فلك غاية الخلقة الحقيقية مستخدمًا الطاقة الكلية لذكائه وإرادته بالسر والقوة التي اكتسبها من اللامتناهي”(20).
من ثمار المجاهدة
قد يرى بعضنا أنَّ المجاهدة وسيلة نعبر بها إلى ما نريد ثم نزهد فيها ونتركها، ولكن الحقيقة التي ينبغي أن نثق بها أن المجاهدة منهج نحيا به ونحقق أحلامنا ووعود ربنا به ونلقى الله عليه.
فهو في آثاره يتجاوز حد النفس وتهذيبها ليصل إلى تهذيب الحضارات وتقويمها، لذلك فأنت تجد ثماره في بناء الفرد وتقوية الأمة وضبط سيرها الحضاري وسلوكها الأخلاقي.
“فإذا ما بلغ المؤمن هذا الشعور والمفهوم فلا تستغل أية قوة استعمارية المسلمين، ولا يؤخذ ضدهم قرار الحصار. وهذا ما يريده عز وجل من المؤمنين وهو القائل: }وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ{(الأنبياء:105).
فالذكر: يعني النصيحة، أما هنا فيأتي بمعنى التوراة، أو اللوح المحفوظ في معنى أشمل. وعلى هذا المعنى يمكن أن تُوضَّح الآية الكريمة كالآتي: إن الله عز وجل بعدما كتب في اللوح المحفوظ ما كتب، كتب في الكتب المرسلة إلى الأنبياء مستنسخات من اللوح المحفوظ وهي: إن عباد الله الصالحين يرثون الأرض، أي العباد الصالحون هم الوارثون الحقيقيون الدائمون في الأرض.”(21).
“هناك طرق ووسائل عديدة للالتزام بالحق وإعلائه، وقيمة هذه الطرق ونفاستها مرتبطة بمدى احترامها للحق تعالى وبمدى خدمتها لأفكار ومبادئ الحقيقة. فإذا كان هناك بيت يُحلِّق بساكنيه في سماء المعرفة، وإذا كان هناك معبد يُنفَث في نفوس المجتمعين تحت قبته الأفكارُ التي تتجاوز هذه الحياة إلى الأبدية، وإذا كانت هناك مدرسة تستطيع ملء قلوب طلابها بالأمل وبالإيمان … مثل هذه الأماكن تعد أماكن مباركة. أما إن قامت هذه الأماكن بمهمات ضد المهمات المذكورة سابقًا فهي مصايد مخيفة تقوم بقطع السبيل أمام الإنسان. والجمعيات وتشكيلات الأوقاف والأحزاب السياسية أمثلة في هذا الموضوع.”(22)
“ويستحيل على الذين يتركون خط المجاهدة والكفاح وينحرفون عن الخط الرجوع إلى مواقعهم الأولى عادة، ذلك لأنهم وهم يتقلبون في حمَّى الشعور بالذنب لا يرون أمامهم -في سبيل الدفاع عن أنفسهم- سوى سلوك نقد وتجريح إخوانهم في سلك الدعوة. فمقابل استغفار آدم عليه السلام عن زلته واستغفاره واعترافه بخطئه ورجوعه إلى موقعه السابق بقفزة واحدة، نرى قيام إبليس بتبرير عمله والدفاع عن نفسه على الرغم من جرمه الكبير، فاستحق بذلك اللعنة الأبدية والخسران الأبدي.”(23)
وإذا سرنا طريقنا بلا روح للمجاهدة تنيرها وتجلي معالمها فإن المصير أن ” تزول من القلوب بركة الوحي بنسبة زوال الرغبة في الجهاد والشوق إليه، وينمحي الشوق والعشق لإدراك المقاصد الإلهية، حيث القلوب باتت بعيدة وغريبة عن أن تكون مهبط الإلهام الرباني، فيحرمون من الأسرار الإلهية. فَنَهار هؤلاء مُظلم كَلَيلِهم، ذلك لأن الله عز وجل إنما يتفضل بالتجليات والفيوضات على قلوب الذين يتحملون أعباء الجهاد ويتعهدون إعلاء كلمة الله بما يوافق عظمته سبحانه، فلا يتحول المجتمع الذي يعيش فيه هؤلاء إلى أنقاض وخرائب”(24)
صفات القائمين على المجاهدة في أنفسهم
قد لا أكون مبالغا إذا قلت: إن هذه الصفات هي ذاتها مقومات مشروع الحركية والفاعلية عند الإنسان، وأنها ذاتها مقومات المجاهدة الإيمانية، وأنها هي ذاتها مواصفات رجل الخدمة المضحي، وأنها ذاتها ما يمثل تشبع المضحي بمعاني الفتوة.
يقول الأستاذ: “تشبع القلب بالإيمان الكامل، وحسن معاملة الناس كلهم، ونذر العمر من أجل الآخرين، وأداء المرء مهامه دون أن يرى نفسه متميزًا، وبذل كل التضحيات في سبيل القيم المقدسة، وانتظار ما له أجل مسمى والصبر عليه صبرًا يبلغ حد الجنون كصبر الدجاجة حتى تفقس بيضها، والثورة على كل المساوئ والشرور مع مراعاة العصر والزمان الذي نعيش فيه، ودون إهمال العقل والمنطق، والثبات وعدم الفزع من الأذى والمشقة التي تنتج عن كل ما سبق ذكره.” (25)
كل جهد يبذل لإصلاح المجتمع في أي ميدان كان من ميادين الحياة ولأي شريحة من شرائح المجتمع. كل ذلك هو من مضمون الجهاد الإسلامي.
ومن أهم أهم هذه الصفات التي أقتبسها من جهد الأستاذ ما يلي :
1- الإيمان الكامل: يحدد القرآن الكريم “الإيمان بالله” غاية لخلق الإنسان في أفق المعرفة وروح المحبة وبعد العشق والشوق وتلون الخطوط الروحانية. والإنسان مكلَّف ببناء عالمه الإيماني والفكري حينًا بمد الدروب من ذاته إلى أعماق الوجود، وحينًا بالتقاط شرائح من الوجود وتقيمها في ذاته. ويعني هذا في الوقت عينه ظهور الحقيقة الإنسانية الكامنة في روحه. فالإنسان لا يستطيع أن يستعر ذاته، والأعماق في ذاته، ومقاصد الوجود وغاياته، ويطلع على كنه الكائنات والحوادث وما وراء ستار الأشياء، إلّا في ضياء الإيمان … وبعد الاطلاع يحيط فهمًا بالوجود في أبعاده الذاتية.
2- العشق: وهو أهم إكسير للحياة في الانبعاث من جديد. إن من يعمِّر قلبه ويجهزه بالإيمان بالله وبمعرفته يحسُّ حسب درجته بمحبة عميقة وعشق أصيل لكل البشر، بل لكل الوجود… يحسُّ فيعيش عمره كله وسط حالات المدِّ والجزر للعشق والمواجد والجذبات والانجذابات والأذواق الروحانية التي تحتضن الوجود كله جميعًا. وكما في كل مرحلة زمنية، نحن بحاجة في الحاضر إلى أن تفيض القلوب من العشق، وأن تطفح من الشوق، في فهم جديد وطري، لتحقيق انبعاث عظيم.
3- التوجه إلى العلم بميزان العقل والمنطق والشعور: هذا التوجه الذي يشكل جوابًا عن تمايل البشر وحَيْده في انسياق البشرية بفرضيات سوداء في مرحلة زمنية معينة، سيكون خطوة مهمة باسم الخلاص الإنساني.
4- التدقيق والضبط: ويتم ذلك بإعادة النظر في ملاحظاته عن الكائنات والإنسان والحياة، وتمييز الصحيح من الخطأ فيها بميزان دقيق.
5- حرية التفكير: بمعنى أن يكون حرًّا في التفكير وموقِّرًا لحرية التفكير. إن التحرر وتذوق حس الحرية عمق مهم لإرادة الإنسان وباب سحري ينفتح على أسرار الذات. من العسير أن نصف بالإنسان من لم ينطلق في ذاك العمق ولم يلج من ذلك الباب. ومنذ سنين وسنين ونحن نتلوى ألمًا في طوق الأسر الخارجي والداخلي الرهيب. ولقد ضيقوا علينا وسلطوا أثقالهم أنواعًا وألوانًا على مشاعرنا وأفكارنا ونحن في طوق الأسر الذي يخنقنا … فدع عنك التجدد والتطور في هذا التحديد للقراءة والتفكير والإحساس والحياة، واسأل إن كان في قدرة الإنسان البقاء بملكاته ومواهبه الإنسانية في هذا الوسط؟ فإن حماية المستوى الإنساني البسيط والخام في هذه الأرضية عسير، فكيف بإنضاج بشر يسمقون إلى العُلى بروح التجديد ويمدون البصر إلى اللانهايات؟
6- الصدر المتسع: فالحاجة اليوم ماسة إلى صدور متسعة تحيط بالتفكير الحر وتنفتح على العلم والبحث العلمي وتستشعر التوافق بين القرآن وسنة الله على الخط الممتد من الكائنات إلى الحياة. ولن يقتدر على ذلك إلا جماعة تتحمل دعوة مشبعة بالدهاء. تتجلى في الشخصية المعنوية والتشاور والشعور الجمعي.
7- التفكير الرياضي: فالعلم بالأشياء المتعلقة بالرياضيات والجمع بين هذا العلم وقوانينه الفكرية، ومصاحبتها دائمًا في الطريق الممتد من الفكر الإنساني إلى أعماق الوجود.يصاحبها دائمًا من الفيزياء إلى الميتافيزيقا، ومن المادة إلى الطاقة، ومن الجسد إلى الروح، ومن الشريعة إلى التصوف. إننا مضطرون إلى قبول الأسلوب المزدوج لفهم الوجود فهمًا شاملًا؛ وأعني الفكر الصوفي والبحث العلمي.
8- الفكر الفني: أَحجَمَ عن الكلام عنها واكتفى بقوله: “بعض الأوساط ليست على استعداد حتى الآن للانخراط في هذه المسيرة بمقاييسنا”.
ما يجب على إنساننا اليوم
“إن إنساننا في الوقت الحاضر، إن كان يريد أن يجاهد في سبيل الله حق جهاده وبما يرضيه -وهذا ما يجب عليه- عليه أن يراقب نفسه مراقبة جادة ويحاسب رغباته حسابًا عسيرًا، في الوقت الذي يزاول نشر الحق وتبليغ الحقيقة للآخرين. وإلا فهناك احتمال قوي أن يخادع نفسه، وعند ذلك لا ينتفع بعمله ولا ينتفع به غيره.
المجاهد يحمل من الإخلاص ما يجعله يختار الله عز وجل على كل ما سواه، فهو إنسان خالص مخلص، ذو قلب حيّ. وبذلك يكون الجهاد مثمرًا وباقيًا. فهو بدلًا من أن يملأ عقول الآخرين بأكوام من الغث والسمين من المعلومات، عليه أن يُقرَّ في قلوبهم وعقولهم الإخلاص وحسن النية وروح المحاسبة الداخلية والشعور بأن يكونوا رجال القلب.
نعم، الجهاد موازنة بين فتح الداخل والخارج. ففيه بلوغ الكمال ودفع الآخرين إليه. فبلوغ الإنسان ذاته جهاد أكبر ودفعه الآخرين إلى الكمال جهاد أصغر. فإذا ما افترق أحدهما عن الآخر ينتفي معنى الجهاد عن عمله. فيتولد من أحدهما الذل والمسكنة ومن الآخر العنف والإرهاب. ونحن ننتظر ولادة روح محمدي، وهذا لا يمكن إلا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر كما في كل أمر.
فما أسعد أولئك الذين يبحثون عن وسائل لإنقاذ غيرهم مثلما يبحثون عنها لإنقاذ أنفسهم. وما أسعد الذين لا ينسون أنفسهم في خضم العمل لإنقاذ غيرهم.
الجهاد ماض إلى يوم القيامة؛ مهما بذلنا من جهد في سبيل إنقاذ الإنسانية”.
يقلم/ سليمان الدقور
المصدر: موقع النسمات