بين التقليدي والمتغرب
إن الكلمة شهادة، ومن أراد أن ينطق بها ولم يجد في نفسه صدقا فليتوقف ولا يتممها.
عمل كولن على التوفيق بين التيار التقليدي المحافظ باستنهاض همم أهله، وبين التيار المتغرب بلجم غلوه وتبهيت مسلماته، وكل ذلك عبر التوفيق بين المسلمات الدينية والحقائق العلمية. بذلك نجح في تقديم فكر جديد برع في التوفيق بين التيارين وتقديم بديل إنساني تفوّق في إقناع الطرفين بجديته وجدواه.
ولم يتردد الأستاذ كولن في إظهار هويته الدينية، لأنه حقّق ذاته ضمنها. كما لأنه لا يقبل عزل هوية أي إنسان وتجربته الدينية والروحية عن كيانه الاجتماعي، لذا فهو يملك نظرة متكاملة عالمية عامة. وهو يؤكد على الدوام أن الإنسان المتدين الحقيقي سيكون ذا فائدة كبيرة للمجتمع وللدولة وعاملاً في رُقيّهما.
الأستاذ كولن يتّجه إلى “الإنسان” أولا وأخيرا ويجعله محور كل تقدم وتغيير.
محور التنمية والتغيير
هكذا وفي الوقت الذي يتسابق ويتنافس المفكرون المعاصرون للتركيز على أهمية عنصر الدولة والمدينة والاقتصاد، في التنمية البشرية، نجد كولن يتّجه إلى “الإنسان” أولا وأخيرا ويجعله محور كل تقدم وتغيير. لذلك فهو يرى أن أهم معضلة تواجه المدنية المعاصرة هي مشكلة تعليم الإنسان وإعداده وتربيته. فإذا أصبح الإنسان إنسانًا فاضلاً، أصبحت الدولة فاضلة، وعمت التنمية. وبجرأة نادرة استطاع أن يقوم “بثورة إصلاحية بيضاء” على الطرفين دون أن يخسر أحدهما. فهو من جهة تمسك بأصوله، ومن جهة أخرى حقق مطلب التقدم والتنمية. وبذلك أنشأ هوية جديدة لمسلم معاصر متشبث بأصالته ومعانق للحضارة الإنسانية، وهي معادلة لا زالت الكثير من الدول والشعوب تبحث عنها.
بهذه الروح ازدادت حميمية العلاقة بين الأستاذ كولن وبين الجماهير التي بدأت تُقبِل على فكره يوما بعد يوم. وتَعَرَّفَ الأستاذ على مشاكلها الدينية والاجتماعية والثقافية، حيث صَبَّ جل اهتمامه على إيجاد طرقٍ تُنقذ الجماهيرَ من الضيق أو الفوضى التي تعاني منها.
ثم اتجه إلى مشاكل العالم الإسلامي، ووجد الفرصة لتوجيه قريحته نحو عالم أوسع. ونتيجةً لرحلته الفكرية هذه، وَجد أن المشكلة في بلده وفي العالم الإسلامي أو في الحضارة الحالية كلها، هي “الإنسان” بحد ذاته وتعليمُه وتربيته وتدريبه.
أهم معضلة تواجه المدنية المعاصرة تعليم الإنسان وإعداده وتربيته.
وفي بداية السبْعينات حاول تطبيق خطته في التعليم والتربية على الطلاب الشباب، ثم في المدارس التي شجّع على إنشائها في معظم بلدان العالم، فانتقل بذلك من النظرية إلى التطبيق العملي.
وقد حاول الأستاذ فتح الله كولن لسنوات عديدة إقناعَ الأوساط المحافظة بفائدةِ مشاريع التربية والتعليم، كما بذل جهدًا كبيرًا في إقناع الأوساط الحكومية الرسمية أيضًا بأنه لا يستهدف من هذه المشاريع سوى مصلحة الجماهير وخدمة الروح والهوية الملّية، ولا يحمل أي هدف سياسي أو أيديولوجي.
الحوار بدل الصدام
لقد أصبح الأستاذ كولن حديث الساعة، وبؤرة اهتمام الأكاديميين والمثقفين والإعلاميين، وأصبحت أعوامُ التسعينات كما يقول تلميذه الأستاذ “أنس أركنة” أعوامَ الانفتاح على العالم الخارجي من جهة، وأعوامَ إجراء الحوارات مع مختلف الفئات. فبدأ عهد حوار لم يحدث مثيل له في التاريخ الحديث لتركيا. بينما كانت تركيا قبل الثمانينات مسرحًا لنـزاعِ وصدام العديد من الحركات والتيارات الأيدولوجية، وأدت تركيا ثمنا باهظا نتيجة لذلك. لكن فتح الله كولن استطاع أن ينقذ الجماهير العريضة التي كان يخاطبها، من الانزلاق إلى هذه النـزاعات والخصومات ويبعدَهم عن التطرف، حيث بدأ بإرساء ثقافة الحوار وقبول الآخر، والبعد عن التعصب.
الأستاذ كولن استطاع أن ينقذ محبيه من الانزلاق إلى الخصومات والعنف والتطرف.
قام كولن بعد ذلك بمحاولات وتجارب أولية لمشروعه الكبير لإرساء قواعد الحوار بين الحضارات. فقام بعقد اجتماعات بين ممثّلي مختلف الأفكار، وبين ممثلي مختلف أنماط المجتمع وأديانه. وبمرور الزمن نتجت عن هذه الرغبة اجتماعاتُ مدينةِ “أَبَنْتْ” (Abant)، أو ما أطلق عليه اسم “مِنْبر أَبَنْت للحوار”. لم تعد هذه الاجتماعات اجتماعاتِ مجاملة، فقد شُكل هنا كادر علمي جاء أعضاؤه من مختلف الجامعات ومختلف الاختصاصات ومختلف المدارس الفكرية، وانقلب الصراع هنا إلى صراع فكري وعلمي.
بالرغم مما جلبت الحياة العصرية للإنسان من وسائل للعيش الآمن الكريم، بقدر ما عمّقت من جراحه. ولعل التحرشات العامة والتهديدات الفردية والجماعية تعد واسطة عقد هذه الجراح. لذا لابد من فكر عالمي سديد يقرب الشقة بين المختلفين ويهدئ من روعة الحائرين. وإني أزعم أن مشروع الأستاذ كولن نموذج عال لهذا النوع من الفكر العالمي الإنساني الرشيد.
بقلم/ عبد المجيد بوشبكة
المصدر : موقع النسمات