وعلى النقيض من الوتيرة المتسارعة للتطور التكنولوجي، يبدو أن بناء العلاقات الإنسانية قد أصبح أبطأ من أي وقت مضى؛ وحيثما كان من شأن زيادة الاتصالات أن تعزز العلاقات الحقيقية بين أفراد الأسرة البشرية، إلا أن عالم اليوم يواجه بدلاً من ذلك ظروفًا يعاني فيها ثلثا سكان العالم من العنف والحرب بين الأفراد.
السلام والتعليم
هذا وبالنظر إلى العنف المتفشي في عالم اليوم وانتشار الأسلحة القادرة على إبادة العنصر البشري وانقراضه عدة مرات، فمن الضروري أن يتبع المسلمون وغير المسلمين المبادئ التي وردت في الآية القرآنية حول العلاقات الإنسانية حيث يقول المولى تبارك وتعالى: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) (النساء:128). ولا يمكن تحقيق المبادئ المثالية للإسلام التي منها مبدأ السلام إلا من خلال التعليم، وبذا يمكن أن يكون عالمنا مهدًا للتحابّ والإخاء.
مبدأ التضامن المجتمعي
هناك مبدآن أساسيان تقوم عليهما الحضارة الإسلامية وهما التعاون المتبادل وعلاقة المحبة المتبادلة بين الخلق؛ والمبدأ الأول هو المبدأ الذي يسميه علماء بناء السلام بالعمل التعاوني والتضامن. ووفقًا لهذا المبدأ، يعتمد الكوكب على التعاون المتبادل بين جميع المخلوقات بمساعدة بعضهم البعض: فالمطر يساعد العشب على النمو؛ والعشب يساعد الحيوانات على النمو؛ والحيوانات تساعد البشر على النمو. ويضرب هذا مثالاً للكائنات البشرية، وهو يعني أن: “كل البشر لديهم أصل مشترك، فقد خلقهم الله جميعًا متساويين؛ ولذلك، يجب عليهم أن يساعدوا بعضهم البعض ولا يتجاهلوا احتياجات بعضهم البعض”(1).
ويجد هذا المبدأ جذوره في الآية القرآنية: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة:2) ويتطلب المبدأ الثاني النظر إلى أن جميع أفراد الخلق إخوة وأخوات؛ ويتطلب أيضًا من كافة البشر أن يرفضوا أي شيء يضر بهذه العلاقة الجوهرية. وبالتالي، فإن كافة أشكال التعصب في الإسلام غير مقبولة “بما في ذلك العنصرية المتطرفة”؛ ولذلك، فإن التضامن المجتمعي هو أحد الأهداف التي رسخها الإسلام كمبدأ؛ وهناك أمثلة على ذلك في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، فبعد هجرته إلى المدينة المنورة، وضع النبي صلى الله عليه وسلم ميثاقًا يُعرف باسم ميثاق المدينة ينص على المساواة بين أفراد المجتمع. وفي هذا الميثاق، اعتبر أهل الكتاب “على وجه التحديد هنا، اليهود” جزءًا من الأمة الإسلامية. واليوم، فإن حركة الخدمة من خلال إتاحتها لفرص التعليم والتثقيف للمسلمين وغير المسلمين على حد سواء تسهم في إرساء مثل هذه الأخوة في جميع أنحاء العالم.
دع العالم كله يسمع أن قلوبنا مفتوحة لأولئك الذين يحبوننا وأولئك الذين يهاجموننا؛ وهي مفتوحة للجميع لأننا نعتقد أن كل إنسان خلقه الله في أحسن تقويم.
هذا ويمكن للناس من خلال التعليم أن يفهموا أهمية التنوع والتعايش المشترك؛ فالاعتراف بالكرامة الإنسانية، وفهم الأصول المشتركة للبشر، واعتبار الاختلافات أمرًا إيجابيًّا، والاعتراف بالأديان الأخرى، والوعي بأن الحكم يعود إلى الله وحده “وهو ما يكون يوم القيامة”، وأخيرًا القيام بما هو طيب، كلها أمور مرتبطة مباشرة بإنشاء نظام تعليمي سليم يستجيب ويلبِّي جميع احتياجات البشر.
إن النظرة الإسلامية للمجتمع الإنساني تقوم على مبادئ الانسجام والمعرفة والعدالة والسلام: فالحروب وأعمال العنف، رغم أنها جزء من تاريخ كل دين عالمي كبير، لا مكان لها في جوهر الإسلام.
وعلى الرغم من هذا الهدف المثالي، فإن القرآن الكريم يقر بحقيقة الطبيعة البشرية والنزاعات المحتملة التي قد تنشأ بين الشعوب؛ ومع ذلك، فإنه يشجع المؤمنين باستمرار إلى الميل نحو الانسجام والأخوة والمحبة. وكما يقول كولن: “لا يدَ لي أوجهها لمن ضربني، ولا لسان لي ضد من سبّني، لا ألطّخ بالانتقام قلبي”(2).
وبما أن الله تعالى لم يضع أي قيود على القدرة المدمرة لغضب الإنسان، فإن تثقيف الناس وإرساء السلام يعد من أصعب المهام بالنسبة للبشر؛ فهو يتطلب الصمود والعزم والصبر، والتي تعتبر قيمًا ثمينة وعظيمة في الإسلام وعناصر أساسية لاستراتيجيات بناء السلام. “إن السيطرة على الانفعالات والانصياع إلى طريقة التفكير العقلاني تعتبر من أساسيات إرساء دعائم السلام”(3). إنها عملية طويلة قد تستغرق أجيالاً من أجل بناء سلام عالمي؛ ويشجع القرآن الكريم بُناة السلام في هذا النضال من خلال تذكيرهم بالثواب والأجر الأخروي الذي سيحصلون عليه، وحتى لو لم ينجحوا بشكل تام، فسينالون مكافآتهم على أعمالهم. وبالتالي يجب ألا يفقدوا الأمل خلال مسيرة نضالهم من أجل السلام؛ فحتى الملائكة في الجنة سوف تحيي صنَّاع السلام في بهجة وسرور: (سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ)، وسوف يقولون: (بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد:24).
وقد علّم النبي صلى الله عليه وسلم نفسُه أصحابه، وكان لديه مدرسة شهيرة تُعرف باسم الصُفّة، وكان أولئك الذين يحضرون هذه المدرسة معروفين باسم أهل الصُفّة، أو أصحاب الصُفّة (4). وهناك عبارة شهيرة تقول: “إذا كنت تعتقد أن ثمن التعليم باهظ، ففكر في ثمن الجهل”.
فتح الله كولن وتطبيق هذه المبادئ
سوف تركز هذه المقالة على جهود فتح الله كولن باعتباره أحد الشخصيات الأكثر تأثيرًا في عصرنا. وفيما يتعلق بسيرة كولن الذاتية، فالمقام لا يتسع لها هنا. ويكفي القول إن سعي كولن الشغوف بالتعليم بدأ في سن مبكرة في الوقت الذي كانت فيه الفوضى والتشوش يهيمنان على المجتمع التركي. وفي السبعينيات، كان طلاب الجامعات والمعلمون وحتى بعض الأساتذة متأثرين تأثرًا شديدًا بالماركسية، وكانت الجماعات الماركسية والقومية في صراع مسلح مع بعضهم البعض، وقد قُتل أكثر من 10 آلاف شخص في تركيا خلال عقدين من الزمن بسبب هذه الاشتباكات، وحتى الأُسَر لم تكن في مأمن من هذا العنف، حيث كان يمكن أن تجد أفرادًا من العائلة نفسها يتقاتلون في أطراف معارضة.
لقد بذل كولن كافة الجهود لإخماد نار الصراع وسط هذه الفوضى وكرَّس نفسه لتعليم الناس، وعلَّم شعبه في المدارس المفتوحة؛ ويعتبر ذلك شيئًا غير مألوف من عالم مسلم مثل كولن، فقد كان مختلفًا عن أقرانه من علماء عصره، فقد حث الناس على بناء المدارس، وعندما وجد الناسَ حريصين على بناء المساجد كان يقول لهم: “ابنوا المساجد من خلال بناء المدارس، فإن أنتم أفلحتم في بناء المدارس، فسيعمل خريجوها على بناء المساجد”.
وفي عبارة حديثة، وصف كولن جوهر حركته بما يلي: “من أجل إظهار الوجه المشرق للإسلام الذي تلطخه أعمال الإرهاب من قبل الانتحاريين، ومن أجل عيش الإسلام بشكله الصحيح كما كان الحال في وقت النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، ومن أجل إعداد بيئة تنمو فيها فكرة القبول الإلهي في قلوب الناس؛ وباختصار، لكي نعيش ونعبر عن الإسلام في شكله ومضمونه الحقيقي. واليوم، تنزلق البشرية نحو اتجاه سلبي بتطويرها لهذه الأسلحة المُروّعة؛ حيث إنه إذا دخل البشر في صراع، فإن هذا العالم سيكون مكانًا غير صالح للعيش فيه. ولذلك، نحن بحاجة إلى إنشاء جزر سلام من أجل منع هذه الصراعات المستقبلية المحتملة إلى حد كبير؛ وعلينا أن نبذل جهودنا في هذا الاتجاه حتى نتمكن من إرساء دعائم السلام والتصالح والمشاركة. ومن هنا، يمكن أن يُطلق على حركته أنها حركة التفاهم والحوار” (ذكر كولن ذلك ردًا على سؤال في 14 مارس/آذار 2010). هذا ويعتقد كولن أنه يمكن تحقيق ذلك من خلال المؤسسات التعليمية.
“واليوم تقع المهمة على عاتقنا، فعلينا أن نوفِّر مساحة في قلوبنا لآلاف المقاعد كي يأتي الناس ويجلسوا عليها. يجب أن يكون لدينا متسعٌ للجميع في قلوبنا. … دع العالم كله يسمع أن قلوبنا مفتوحة لأولئك الذين يحبوننا وأولئك الذين يهاجموننا؛ وهي مفتوحة للجميع لأننا نعتقد أن كل إنسان خلقه الله في أحسن تقويم. واليوم هناك حاجة قصوى لهذا الفهم.”، وأشار كولن إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي سمح للمسيحيين بأداء صلواتهم الخاصة في المسجد. (كولن ردًا على سؤال في 9 أغسطس/آب 2009). ومن ثم، وفقًا لـكولن، فإن كل إنسان يستحق التعليم الجيد وينبغي أن يحصل عليه.
إن سعي كولن الشغوف بالتعليم بدأ في سن مبكرة في الوقت الذي كانت فيه الفوضى والتشوش يهيمنان على المجتمع التركي.
لقد كانت جهود كولن تعليمية بشكل أساسي، ويمكن القول إنه لم يُوقف النزاع المسلح بشكل مباشر، لكن جهوده من خلال التعليم قد سلَّحت الشباب بالقيم والمبادئ التي تمنعه من الانخراط في الصراعات.
تأثير مساعي كولن في العالم
ليس من قبيل المبالغة أن نؤكد أن مساعي كولن التعليمية والتثقيفية لها تأثير عالمي في خير ورفاهية المجتمعات المختلفة وسوف تستمر في إحداث هذا التأثير؛ وليس هناك شك في أن أعظم جهود كولن وإسهاماته ترتبط بهذين المجالين. هذا وقد أوضح بديع الزمان سعيد النورسي في بداية القرن العشرين أن: “هناك ثلاثة أعداء رئيسيين للمسلمين: الجهل والفقر والانقسام الداخلي.”(5). وإذا نظرنا نظرة فاحصة لعالمنا الحديث، يمكننا أن نفهم بسهولة أهمية التعليم، وخاصة للمسلمين الذين يشكلون 22٪ من سكان العالم؛ فالنمو السكاني بين المسلمين أسرع من أي سكان آخرين في العالم، في حين أن معدلات التعليم لا تزال منخفضة بشكل ملحوظ(6). ويعتبر كولن أن نقص التعليم يعد بمثابة داء يتطلب علاجًا، وقال إنه يريد علاج هذا الداء.
واليوم في تركيا وآسيا الوسطى ومناطق أخرى كثيرة من العالم، تواصل المؤسسات التعليمية التي أنشأها مُحبو كولن الإسهام بشكل كبير في تعليم وتثقيف الناس من مختلف الديانات والعرقيات. وفي الواقع، فإن جيله الذهبي أسهم بالفعل من خلال المساعي التعليمية في إرساء السلام في كثير من مناطق الصراع ولا سيما في البلقان وشمال العراق والفلبين.
هذا وقد تحدث الأب توماس ميشيل، في مقال له عن كولن(7)، عن مدرسة أنشأها مُحبو كولن في جزيرة ميندانا والفلبينية التي زارها؛ فقد زار ميشيل منطقة من الجزيرة حيث كان الاختطاف وحرب العصابات والنزاع المسلح مستمرًا بين الانفصاليين بجبهة مورو والدولة الفلبينية. ويقول ميشيل: “تقدم المدرسة -التي تُسمى المدرسة الفلبينية التركية للتسامح- للأطفال الفلبينيين المسلمين والمسيحيين تعليمًا ممتازًا وطريقة أكثر إيجابية للعيش والتواصل مع بعضهم البعض.”(8) وقد وجد ميشيل في هذه المدرسة طلابًا من جميع الخلفيات ووصفها بأنها “جنة السلام” في هذه المنطقة من الصراع(9).
وهناك مثال آخر يأتي من تجربتي الخاصة، عندما قمت بزيارة مدينة سكوبيه في مقدونيا في صيف عام 2004، حيث أُتيحت لي الفرصة لزيارة مدرسة أنشأها بعض رجال الأعمال الأتراك الداعمين لحركة كولن؛ وقد قيل لي إنه عندما كانت الحرب الأهلية تدور رحاها في تلك المنطقة، كان الأفراد من مختلف الأعراق يرسلون أطفالهم إلى هذه المدرسة. لقد كان آباؤهم يتقاتلون، غير أن الأطفال كانوا يعيشون بسلام تحت سقف المدرسة نفسها.
واستنادًا إلى هذه الجهود، فإن كولن يحدوه الأمل في المستقبل، حيث يقول:
“ومن يدري؟ فربما في المستقبل القريب يقوم بعض الأشخاص من ذوي الإيثار، والذين يضحون بأنفسهم حتى يعيش الآخرون، بتوحيد القلوب والعقول من خلال جهودهم؛ حيث سيصبح الضمير والعقل بُعدَين مختلفين ومتأصلين في حياتهم يُكمل كل منهما الآخر. سوف تتخلى الفيزياء والميتافيزيقيا عن الصراع بينهما من أجل إعطاء الفرصة لجمال كل شيء للتعبير عن نفسه بلغته الخاصة ويعود كل إلى مجاله الخاص. سوف يكتشف هؤلاء الأشخاص الناكرون للذات الترابط بين الأمر الإلهي وقوانين الطبيعة. سوف يندم الناس على صراعاتهم السابقة مع بعضهم البعض التي لا معنى لها. سيتم إرساء جو من الصفاء يشعرون به في المنازل والمدارس. لن تُهان أي كرامة. ستكون القلوب عامرة بالاحترام إلى درجة أنه لن يتعدى أحد على ممتلكات أو كرامات الآخرين. سوف يتصرف القويُّ بعدالة حتى يتسنى للضعفاء والفقراء فرصة العيش بإنسانية. لن يتم القبض على شخص لمجرد اشتباه؛ ولن يتعرض منزل أي فرد أو نشاطه التجاري للهجوم. لن تُسفك دماء الأبرياء؛ ولن يصرخ أي شخص مضطهد؛ وسيحب جميع البشر بعضهم البعض كواجب تجاه الله. وفي هذه اللحظة بالفعل سيصبح العالم، الذي هو جسر عبور إلى الجنة، مكانًا مثل الجنة نتمتع به دائما”(10).
العيش من أجل الآخرين
الاعتراف بالكرامة الإنسانية، وفهم الأصول المشتركة للبشر، واعتبار الاختلافات أمرًا إيجابيًّا، والاعتراف بالأديان الأخرى، والوعي بأن الحكم يعود إلى الله وحده “وهو ما يكون يوم القيامة”، وأخيرًا القيام بما هو طيب، كلها أمور مرتبطة مباشرة بإنشاء نظام تعليمي سليم يستجيب ويلبِّي جميع احتياجات البشر.
إن نكران الذات له قوة هائلة في بناء السلام المستدام؛ ويساعد نكران الذات أولئك الذين يكرسون أنفسهم من أجل السلام على فهم أفضل لحالة الضحايا ومعاناتهم. فمن خلال العيش من أجل الآخرين، يعتقد كولن أن الفرد المثالي يجب أن يُفضل دائمًا مزايا الآخرين على مزاياه؛ وهذا هو السبب الرئيسي وراء مغادرة آلاف المربين لمنازلهم والذهاب إلى جميع أنحاء العالم لتعليم وتثقيف الأجيال الناشئة، وهذا هو في الواقع ما كان يميز المؤمنين في فجر الإسلام، أي صحابة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كما تكلم عنهم القرآن الكريم، حيث تقول الآية: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) (الحشر:9). وهذا هو السبب في أن كولن يؤكد باستمرار حاجة الأفراد المؤمنين والناكرين للذات إلى تكريس أنفسهم لإحلال وإرساء السلام، وينبغي على المؤسسات التعليمية تقديم الخدمة من أجل رفع هؤلاء الأفراد من عالم الخيال إلى عالم الإدراك. ويمكن القول: إن كافة جهود كولن التعليمية كانت تعمل من أجل تحقيق هذا الهدف.
ومرة أخرى يتجلى أمله الكبير في العبارة التالية:
“ذات مرة، على الرغم من العقبات العابرة للقارات، تم تحقيق حب واحترام وحوار دائم من خلال تدريس القرآن. وفي هذه الأيام لدي إيمان تام أنه من خلال جهود هذا الشعب المبارك سيتم تحقيق جو جديد، وتفاهمات جديدة وحوار جديد. وحتى الآن، من خلال المهاجرين الذين يحملون هذه الفكرة إلى جميع أنحاء العالم بدأت أنهار الحب في التدفق؛ وها نحن نسمع صداها الآن يتردد في كل ركن من أركان الكوكب. بدأنا نشعر بنسيم الهدوء والسعادة. وها هم يقيمون في كل ركن من أركان العالم جزر سلام من أجل الاستقرار والوئام”(11).
اقترح كولن على مُحبيه أن يستثمروا في البشر في المقام الأول؛ فأي استثمار في البشر يستغرق سنوات، لذلك يجب على الناس التحلي بالصبر في توقعهم للنتائج.
ووفقًا لكولن، فإن جيله الذهبي المثالي سوف يفكر دائمًا في خطوات إيجابية للسعي من أجل التعليم، ولن يتشتت جيله الذهبي بسبب الأخطاء التاريخية؛ فعلى الرغم من بعض التجارب التاريخية السلبية مثل الحروب الصليبية والاستعمار فقد أكد على ضرورة نسيانها قائلا: “نحن عازمون على عدم تذكر تلك الأحداث وعدم إعطاء فرصة لإحياء روح العداوة، ونحن نشجع بقوة أن تنحصر الأخطاء التاريخية في حدود كتب التاريخ حتى لا نُعيد إحياء مشاعر العداوة بين الناس.”(12).
وأضاف كولن واصفًا جيله المثالي قائلاً: “الجميع بقدراتهم هم رسل للإحياء يحملون في أيديهم زهور الصداقة، وعلى شفاهم أغاني الأخوة، ولسانهم الذي يأخذ جوهره من بلاغة القرآن هو أقوى من أي سيف، وكلماتهم موجهة نحو الحياة الآخرة، وهذه الكلمات تحطم الظلام دون الإضرار بأي شخص”(13).وفي عالم كولن المثالي، “لا يوجد تسلط ولا جشع ولا مشاحنة ولا تخوين ولا أكاذيب ولا قمع ولا خداع.. بل على العكس من ذلك، تسود الشهامة والعطف وجهود الإحياء، وحب الحياة واللطف والحوار، واحترام الحقيقة والثقة والإقرار بالطيبة والكرم، وروح البر والعدالة واتباع الطريق المستقيم”(14).
ويُصرّ كولن على أن الناس يجب أن “تُشعل الشموع” في مجتمعاتها من أجل تنوير المجتمع: فمن واجب الجيل المثالي تنوير الناس بدلاً من أن يسود الظلام.
وقد اقترح كولن أنه يجب على مُحبيه أن يستثمروا في الإنسان في المقام الأول؛ فأي استثمار في الإنسان يستغرق سنوات، لذلك يجب على الناس التحلي بالصبر في توقعهم للنتائج. وتشير تجربته الخاصة إلى بعض الصعوبات التي يواجهها المربون.
ويثق كولن في نهجه ومدى توافقه مع تعاليم الإسلام الأساسية، ولم يفقد كولن الأمل قطُّ، وكان يعتقد دائمًا أن الجهود المبذولة للتعليم سوف تؤتي ثمارها في نهاية المطاف. وعندما أُغلقت جميع الأبواب أمامه، أعلنت وسائل الإعلام والنخبة العلمانية أنه شخص غير مرغوب فيه لدرجة أن حياته كانت مُهددة(15). وعلى الرغم من المصاعب التي واجهها كولن خلال عملية الاتهامات والاضطهاد الروحي والنفي، لم يسع أبدًا للانتقام، فقد قال: “سوف نحترم شخصيتنا.” “لن نضر بمن اضطهدنا، ولن نسعى للانتقام العين بالعين؛ ولن نسبهم أبدًا ولن نكسر القلوب. وبطريقة يُونس أمره -الشاعر التركي الشهير في القرن الرابع عشر- سوف ندعو الجميع إلى الحب… ولأنني مؤمن أعد بأنني لن أتجاهل أي شخص ولن أضطهد أولئك الذي يخالفونني.”(16). وفقًا لكولن، فإنه بمجرد أن يُسلَّح المرء بالحب والرحمة، لن يكون هناك فرق بين “أنت” و”نحن” و”الآخرين”. ويعتقد كولن أن الحب ضروري من أجل بناء السلام. وعلاوة على ذلك، فاليوم “نحن بحاجة إلى الحب والرحمة أكثر من حاجتنا إلى الماء والهواء.”(17). ويصف كولن أولئك الذين يحبون الآخرين ويعيشون من أجل الآخرين بأنهم أبطال. ويقول: “يسعد أولئك الذين يجعلون الحب دليلهم في رحلتهم، وكم يتعس أولئك الذين لا يدركون الحب الراسخ في نفوسهم والذين يقضون حياتهم بأكملها عُمي وصم.”(18).
إن مفهوم الرحمة في تعاليم كولن هو أحد أهم المبادئ في فهم كولن للتعليم، ففي العُرف الذي نشأ فيه كولن، كان فهمه أنه لا يهم مدى صغر المرء، فكل مخلوق يثني على الله بلغته الخاصة، وبالتالي يستحق احترامه المناسب ورحمته، يقول كولن:
“الرحمة هي بداية الوجود، وبدونها تعم الفوضى في كل شيء. فقد خُلق كل شيء بالرحمة واستمر الوجود في انسجام بسبب الرحمة… وكل شيء يتحدث عن الرحمة ويعد بالرحمة. ونتيجة لذلك، يمكن اعتبار الكون سيمفونية من الرحمة، تنادي فيه جميع أنواع الأصوات بالرحمة؛ لذلك من المستحيل عدم إدراكها، ومن المستحيل عدم الشعور بالرحمة الواسعة التي تحيط بكل شيء، وكم هي مؤسفة تلك النفوس التي لا تدركها… فالبشر يتحملون مسؤولية إظهار الرحمة لجميع الكائنات الحية كمطلب ضروري حتى يكونوا بشرًا. وكلما زاد إظهار المرء للرحمة عَلا شأنه. وكلما كثر لجوء المرء إلى الخطأ والاضطهاد والقسوة زاد كره وإذلال المرء، وأصبح عارًا على الإنسانية(19). وقد عبر كولن عن التعاليم القرآنية للرحمة في هذه العبارة التي كررها أكبر أحمد(20)، بوصفها عنصرًا هامًا في بناء السلام:
“إن البحث الدؤوب من أجل إيجاد حلول عالمية للمشاكل العالمية المشتركة التي تواجه المجتمع البشري، والسعي إلى نظام عادل ورحيم وسلمي، سوف يكون التحدي الذي تواجهه الحضارة الإنسانية في القرن الحادي والعشرين. ومواجهة التحدي هو تحقيق لرؤية الله في احتضان البشرية جمعاء، والقيام بذلك هو المعرفة برحمة الله(21).
وبعبارة أخرى، يتطلب الجهل الهائل جهودًا كبيرةً لابد أن تتجاوز قدرة بعض الأفراد المتفانين والمخلصين.
بقلم/ زكي ساري توبراك
المصدر: موقع النسمات