بقلم: محمد أبو سبحة
هل تتخيل أن وزيرًا يمكنه قبول تولي منصب رئيس بلدية؟
أطرح هذا التساؤل لأنني لازلت أقف مندهشًا منذ أن كشف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن قائمة مرشحي حزبه الحاكم للمنافسة في انتخابات المحليات لرئاسة البلديات التركية والتي من المقرر أن تجرى في مارس/ آذار 2019، حيث ضمت القائمة حتى الآن 5 وزراء سابقين! فضلا عن موظفين سابقين بمجلس الوزراء ومحافظين، بل إن الأعجب أن رئيس الوزراء السابق ورئيس البرلمان الحالي بن علي يلدريم مرشح لرئاسة بلدية إسطنبول..
تبديل المناصب
إنها لعبة تبديل المناصب التي بات يلعبها مؤخرًا حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا منذ 16 عامًا وكانت السر وراء فوزه بالانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة رغم تصاعد اتهامه من قبل المعارضة بالانحراف “الاستبدادي” وفساد نظامه.
وعلى سبيل المثال، فالحكومة الجديدة المشلكة في تركيا قبل أشهر شهدت أول فصول هذه اللعبة بانتقال رئيس أركان الجيش التركي السابق خلوصي أكار لمنصب وزير الدفاع، وكذلك انتقال وزير الطاقة والموارد الطبيعية براءات ألبيرق وهو صهر أردوغان من منصبه السابق إلى منصب وزير الخزانة المالية في الحكومة الجديدة.
فلا أحد من السياسيين داخل حزب العدالة والتنمية يرفض أو يتكبر على المهمة التي توكل إليه، وإلا فإنه يغادر على الفور ولا يمكنه العودة من جديد، فإن كان هناك مسئول كبير حظي بشعبية بفضل منصبه الحكومي، فلماذا لا يتم استغلال تلك الشعبيىة بمنصب آخر، حتى لو كان في قاعدة هرم السلطة، هكذا يفكر أردوغان زعيم حزب العدالة والتنمية.
وأردوغان الذي وصل قمة هرم السلطة من منصب رئيس بلدية إسطنبول، قرر بعد أن أمضى ثلاث ولايات متتالية في منصب رئيس الوزراء ولم يعد بإمكانه الاستمرار، الترشح لمنصب رئيس الجمهورية وفاز به عام 2014، ليعيد الكرة مرة أخرى هذا العام لكن بعد إقرار أول نظام حكم رئاسي في تاريخ تركيا ليتحول المنصب الذي كان شرفيًا منذ نشأة الجمهورية التركية إلى أقوى منصب تنفيذي في البلاد تجتمع فيه جميع الصلاحيات بيد رئيس الجمهورية، مستفيدًا بالطبع من الأجواء التي خلقها انقلاب عام 2016 العسكري الفاشل، وحالة الطوارئ التي فرضت بمقتضاه.
وأنا هنا بالطبع لا أشجع على حكم الفرد الواحد ولا على نظام الحزب الواحد، ولكن الفضول لا يزال يدفعني لأتسائل هل يقبل مسئول في الوطن العربي، أن يتولى منصبًا يأخذ فيه الأوامر بعد أن كان يعطيها، يحاسَب فيه بدلا من أن يحاسِب؟
انحراف عن الديموقراطية
وصحيح أن المسار الذي اتبعه حزب العدالة والتنمية كان مثالا يحتذى به في الاستقرار الحكومي والنمو الاقتصادي لسنوات، ونجح في إقصاء الجيش عن الحكم بعد أربعة انقلابات متتالية قادها خلال نصف قرن، لكن مسار البوصلة السياسية في تركيا انحرف عن الاتجاه الديموقراطي كثيرًا بعد عام 2013 الذي شهد قمعًا للحراك الاحتجاجي فيما يعرف باسم أحداث “منتزة جيزي” وأعقبه فضائح الرشوة والفساد التي طالت أردوغان شخصيًا ووزراء بحكومته.
فعلى سبيل المثال، رغم أن حركة الخدمة في تركيا، كان ينظر إليها حتى عام 2013 كأبرز حلفاء الرئيس أردوغان وساهمت في اكتساح حزبه الانتخابات البرلمانية لدورات متتالية، وقوت موقفه ضد المؤسسة العسكرية والنخبة العلمانية، إلا أن الرئيس التركي منذ أن اعتبر حادثة “فضائح الرشوة والفساد” مدبرة من قبل حركة الخدمة للانقلاب عليه قضائيًا، ومع أن التحقيقات أثبتت بالفعل تورط شخصيات مقربة من أردوغان، بينهم وزراء ورؤساء بلديات وأسر أعضاء بالحزب الحاكم، إلا أنه بدلا من أن يعالج تلك الانحرافات، قرر أن يصب جام غضبه على الخدمة ويعلنها بعد عامين “حركة إرهابية”، فيما تبنى الحزب الحاكم إصدار قرار من البرلمان يعفي بموجبه جميع من طالتهم تهم الفساد؛ وعقب الانقلاب العسكري في 2016 وجد أردوغان أن “الخدمة” الكيان الأنسب لتحميله تهمة تدبير الانقلاب رغم كونه هذه المرة أيضًا “انقلابًا عسكريًا” ولا تزال مزاعم تدبيره من خارج الجيش مبهمة حتى اليوم خصوصًا وأنه تمت السيطرة عليه بعد 5 ساعات فقط.
وتبقى المسألة الكردية من الملفات الشائكة في تركيا التي تشجع نظام أردوغان على فتحها في عام 2014 تحت مسمى “عملية السلام” لكن سرعان ما أغلقها بشكل مفاجئ بعد عام واحد، لتضيع على تركيا فرصة ذهبية في وقف التمرد الكردي القائم منذ أكثر من ثلاثين عامًا، ويتحول “حزب الشعوب الديموقراطي” الطرف الوسيط في المفاوضات مع زعيم حزب العمال الكردستاني المعتقل عبد الله أوجلان المعتقل إلى أبرز أعداء أردوغان على الساحة السياسية، وهو مثال آخر على انحراف المسار الديموقراطي في تركيا أردوغان، فقد تم الزج برئيس الحزب السابق صلاح الدين دميرتاش بالسجن في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2016 مع 10 نواب آخرين من الحزب رغم حصانتهم البرلمانية ووجه لدميرتاش -الذي تم تجديد حبسه مؤخرًا لعامين آخرين-، ومنذ عامين تلاحق السلطات الكثيرين من أعضاء الحزب الكردي بتهم مختلفة لأي أفعال لا تُرضيها، بداية من مجرد كتابة تغريدة تحمل انتقادًا على “تويتر” أو المشاركة في أي فاعلية احتجاجية. والرئيس التركي هدد بنفسه مؤخرًا أعضاء الحزب باعتقالهم وتعيين وصاة على البلديات الكردية إذا أصروا على خوض انتخابات المحليات المقبلة، بعد أن حرموا حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية الماضية من تشكيل أغلبية كالعادة، وذلك رغم التضيقات التي مورست على حزب “الشعوب” الكردي وناخبيه.
تحالفات لتعويض فقدان الشعبية
من المعلوم أن حزب العدالة والتنمية ومنذ أن صعد إلى سدة الحكم في عام 2002 لم يخسر أي دورة برلمانية، ولكن مؤخرًا بدأ الحزب الحاكم يخسر كثيرًا من مؤيديه في الشارع، وهو ما تكشف عنه استطلاعات الرأي، وتؤكده نتيجة الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة، ويخشاه الحزب الحاكم بشدة في انتخابات المحليات المقبلة.
والحزب الحاكم لم يستطع في الانتخابات الأخيرة أن يحقق الأغلبية البرلمانية كما اعتاد منفردًا طوال الأعوام الماضية، وكان العدالة والتنمية “الإسلامي” قد لجأ إلى تحالف غير مسبوق مع حزب الحركة “القومي” ليدعم موقفه، الخطوة التي لولاها لاهتزت صورة الحزب في الشارع التركي. كذلك رأى أردوغان مؤخرًا أنه لا مجال لتخلي حزب الحركة القومية عن حزبه في انتخابات المحليات المقبلة التي يجري التنافس فيها على 3,225 بلدية، فبعد أن أعلن زعيم الحزب القومي دولت بهتشلي في خطاب غاضب إنه “لا جدوى من استمرار التحالف” مع العدالة والتنمية، خرج بعد شهر واحد -ويبدو أنه تم إرضاؤه- ليؤكد دون أن يعلن حاجة حزبه هو الآخر إلى البقاء في ظل العدالة والتنمية، معلنا استمرار “تحالف الجمهور” إضافة لعدم تقديم حزبه مرشحين بانتخابات المحليات في المدن الثلاث الكبرى (أنقرة، إسطنبول، إزمير) مفسحًا المجال أمام مرشحي حزب العدالة والتنمية الحاكم.
ويعني ذلك أن أردوغان لجأ بجانب سياسة تبديل المناصب إلى سياسة التحالفات لتعويض تناقص شعبية حزبه، والحفاظ على المناصب الهامة في الدولة تحت قبضة حزبه المهدد باستمرار تناقص شعبيته، مع تزايد الأزمة الاقتصادية في تركيا في ظل تراجع الليرة منذ مطلع العام أمام العملات الأجنبية وبلوغ التضخم مستويات عالية، وتصاعد القمع ضد الكرد، وجلها أمور من الطبيعي أن تؤثر على قرارات الناخبين.
*صحفي متخصص بالشأن التركي