بقلم: ياوز أجار
القاهرة (زمان التركية) – أريد أن أتحدث إليكم في هذا المقال عن رؤيًا رآها أحد الأولياء الصالحين تتعلق بالعلاقة القلبية التي تجمع بين الأستاذ فتح الله كولن والشيخ محمد متولي الشعراوي المرحوم، من جانب، وفضيلة الدكتور الشيخ فتحي عبد الرحمن حجازي من جانب آخر، والذين يعتبران من أبرز علماء مصر.
يقول الشيخ حجازي بأنه بحث سنوات طويلة عن كتاب مناسب في السيرة النبوية ليدرسه لطلابه في الجامع الأزهر، مشيرًا إلى أنه أجل مشروعه هذا لعدم عثوره على كتاب يقدم ويتناول حياة الرسول عليه الصلاة والسلام بصورة موافقة لمستوى فهم عصرنا الحالي. ولكنه ينوه بأنه وجد ضالته في كتاب ألفه الأستاذ كول وهو “النور الخالد” الذي يتناول حياة الرسول صلى الله عليه من جوانب مختلفة وبمقاربة أصيلة، وبدأ يدرسه لطلابه في الجامع الأزهر الشريف. ويلفت الشيخ حجازي إلى أن الأستاذ كولن لم يرصد حياة الرسول عليه الصلاة والسلام وكأنه “راوٍ” مثل المؤلفين الآخرين، وإنما ألفه وكأنه متعايش ومتجاوب ومتفاعل مع النبي والأحداث التي عاشها مع صحابته الكرام، على حد تعبيره.
وبعد شروعه في تدريس كتاب “النور الخالد” لطلبة الأزهر الشريف، يأتي شخص إلى الشيخ حجازي ويقول له: “أحد الأولياء الصالحين أرسلني إليك لأخبرك ما رآه في منامه”، فينقل عنه ما يلي:
“كنا جالسين مع الشيخ الشعراوي في مكان، فسألته عن سبب قدومه إلى هنا، فرد الشيخ الشعراوي بقوله: “أرسلني الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وطلب مني أن أبلغ سلامه إلى الشيخ حجازي، بمناسبة بدئه تدريس كتاب النور الخالد لطلابه”.
وهذه الرؤيا بلا شك تدل على الرابطة المعنوية التي تربط بين هؤلاء الشخصيات الإسلامية البارزة، وإن كانت هناك مسافات شاسعة بينهم من حيث المكان.. وهل من أي أهمية للبعد المكاني إذا كانت القلوب متحدة!
مفهوم الإيمان والإسلام أو المؤمن والمسلم
“الإيمان” طاقة كامنة في قلب الإنسان ينطلق إلى الوجود من خلال “الإسلام” إذا وجدت تربة صالحة. فإذا كان الإيمان دواء فإن الإسلام وصفة طبية تعلّم الإنسان طريقة استخدام ذلك الدواء بصورة صحيحة وناجحة. وبالتالي إذا أخطأ الإنسان في اختيار الدواء فإن الوصفة الطبية لن تعطي الثمرة المرجوة منه، الأمر الذي يتطلب أن يكون كل من الدواء ووصفته الطبية تم اختيارهما بصورة صحيحة.
لقد اعتبر جل العلماء الإيمان والإسلام جزءًا لا يتجزأ ورأوهما وجهان لحقيقة واحدة. لكن واقع المسلمين –للأسف- يشهد في كثير من الأحيان فصلاً بين الإيمان والإسلام أو الدواء والوصفة الطبية، وهو الأمر الذي يؤدي إلى خلل في الحياة الفردية والاجتماعية للمؤمنين أو المسلمين.
هناك قصة واقعية مثيرة جرت أحداثها بين الشيخ الشعراوي المرحوم وأحد المستشرقين في سان فرانسيسكو، تدل على أن أي خلل ونقص في الإيمان والإسلام يمنعهما من إعطاء ثمراتهما المرجوة منهما. نورد تلك القصة كما يلي من لسان الشيخ الشعراوي بشكل مباشر:
لما كنتُ في سان فرانسيسكو سألني أحد المستشرقين: هل كل ما في قرآنكم صحيح؟!
فأجبت: بالتأكيد نعم.
فسألني: لماذا إذًا جعل للكافرين عليكم سبيلا؟ رغم قوله تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا).
فأجبته: لأننا مسلمون ولسنا مؤمنين!.
فما الفرق بين المؤمنين والمسلمين؟
أجبت عندها: المسلمون اليوم يؤدون جميع شعائر الإسلام من صلاة وزكاة وحج وصوم رمضان وسائر العبادات، ولكن هم في شقاءٍ تام!
شقاء علمي واقتصادي واجتماعي وعسكري .. الخ ، فلماذا هذا الشقاء؟
جاء في القرآن الكريم: قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم (الحجرات 14).
سألني: إذا لماذا إذن هم في شقاء؟
قلت: أوضحه القرآن الكريم، لأن المسلمين لم يرتقوا إلى مرحلة المؤمنين فلنتدبر مايلي :
لو كانوا مؤمنين حقا لنصرهم الله، بدليل قوله تعالى: (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) (الروم ).
لو كانوا مؤمنين لأصبحوا أكثر شأنا بين الأمم والشعوب، بدليل قوله تعالى: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين).
لو كانوا مؤمنين لما جعل الله عليهم أي سيطرة من الآخرين، بدليل قوله تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا).
ولو كانوا مؤمنين لما تركهم الله على هذه الحالة المزرية، بدليل قوله تعالى: (وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه).
ولو كانوا مؤمنين لكان الله معهم في كل المواقف، بدليل قوله تعالى: (وأن الله مع المؤمنين).
ولكنهم بقوا في مرحلة المسلمين ولم يرتقوا إلى مرحلة المؤمنين، قال تعالى: (وما كان أكثرهم مؤمنين).
فمن هم المؤمنون؟
الجواب من القرآن الكريم هو: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين).
نلاحظ أن الله تعالى ربط موضوع النصر والغلبة والسيطرة ورقي الحال بالمؤمنين وليس بالمسلمين!
مفهوم الإيمان والإسلام عند كولن
والآن نقدم لكم أيضًا رؤية الأستاذ محمد فتح الله كولن حول مفهومي الإيمان والإسلام والتي تتطابق مع ما رآه الشيخ الشعراوي في المجمل مع فَرْق في التعبير. ولا غروى في ذلك، إذ إن المصدر الذي نهل منهما الشيخان واحد.
أريد أن أنقل إليكم الآن خلاصة ما توصل إليه الأستاذ “أمل عبد الله محمد النعيمات” في رؤية الأستاذ محمد فتح الله كولن حول مفهومي الإيمان والإسلام في مقال كتبه لمجلة “نسمات” للدراسات الإنسانية والاجتماعية والحضارية:
الأستاذ كولن وإن كان يرى التفريق بين الإسلام والإيمان – التصديق – من حيث المعنى اللغوي، لكنه يرى تلازمهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر في الحقيقة، “لأنه لا إسلام بدون إيمان، ولا إيمان بدون إسلام، والإسلام كدين هو الأمر الجامع لذلك كله”.
يقول كولن: “الإسلام مشتق من مادة: السلم، ومعناه: “استسلام العبد لله تعالى، وانقياده لأوامره، وانخراطه في السير في طريق سليم وسديد نحو السلامة، وبث الأمان في الناس وفي كل شيء، كما يعني سلامة الآخرين من لسانه ويده” وحقيقة الإسلام: “أن يصدق المرء بحقيقة الألوهية تصديقًا لا يحتمل الضد مطلقًا، ويوثق رابطة قلبه بالله تعالى، ويؤدي التكاليف أداءً دقيقًا ورقيقًا، وكأنه يرى الله تعالى ويراه الله تعالى”.
فالإسلام: تعلق بالله، وحب، وإخلاص، وعبادة لله كأننا نراه وتمثل بالخُلُق الحسن، وكأن الأستاذ فتح الله كولن في تعريفه السابق يلخص الإسلام كله، فهو يركز على القول والفعل والحال، يقول كولن: ” فأساس الإسلام وباطنه: الإذعان والتسليم، أما ظاهره فطاعة وانقياد وعمل”. ويقول في موضع آخر “لكي يثمر الإيمان ويسبغ الحياة على الوجدان، لا بد من إسناده بالعمل الصالح”. يفرق كولن بين الإسلام والإيمان في اللغة، لكنه يرى صعوبة التفريق بينهما في المعنى الاصطلاحي، فهما وجهان لحقيقة واحدة أساسها: التسليم والانقياد لله، وظاهرها: العمل، ولا يعد متدينًا من لم يجمع بين الباطن والظاهر.
ومن ثم يخلص كولن إلى تعريف شامل للإسلام كدين بأنه: “مجموع السنن الإلهية المنزلة لإخراج البشر من سجن الحيوانية وتجهيزهم للسياحة في إقليم القلب والروح. وروح هذا النظام: الإيمان، وجسده: الإسلام، وشعوره: الإحسان، وكل هذا عنوانه الدين”.
عندما يدخل الإيمان في قلب الإنسان..
ويقول الأستاذ كولن في مقال بعنوان “سمات المؤمن الحق”:
“ولا شك أنه لا يوجد نظام ولا فكرة أو فلسفة استطاعت أن تُحدث أثرًا إيجابيًّا في عمق الإنسان كالذي يحدثه الإيمان مهما تفاوتت نسبته في ذات المؤمن. ففور دخول الإيمان -بمعناه الحقيقي- في قلب إنسان، تتغير رؤيته فجأة عن الكون والأشياء والخالق، وتزداد تلك الرؤية عمقًا واتساعًا حتى يتمكن من تقليب صفحات الوجود وتقييمها وكأنها صفحات كتاب. ليس هذا فحسب، بل وتنبض الكائنات من حوله بالحياة فجأة -تلك التي لم يكن يعيرها التفاتًا في السابق أو كان يعتبرها بلا روح أو معنى- وتبتسم إليه ابتسامة الصديق الحميم، وتحتضنه بدفئ ورفق وحنان. وفي مثل هذا الجو الدافئ الحنون يبدأ شعور الإنسان بقيمته الحقيقية، ويعي أنه الجزء المدرِك الفريد في هذا الوجود، ويعرف سر الدروب المنسابة في انحناء والتواء في ثنايا صفحات الكون وسطوره، ويحس وكأنه بدأ يحدس الأسرار الكامنة وراء أستار الوجود، فإذا به ينجو من سجن الأبعاد الثلاثة للمكان ويرفرف في فضاءات اللانهاية.
“أجل، كل إنسان آمن حقًّا، ينتقل -وهو المحدود- إلى اللامحدود بفضل التأملات التي تمور في أعماق ذاته مورًا. وبينما هو مقيد بالزمان والمكان إذا به يتحول إلى نسر فوق الزمان والمكان، ويرتقي إلى مصافّ الكائنات المتسامية على المكان، ويسمع أنغام الملائكة وتراتيلهم”.
“أجل، ستجد أبطال هذا الإيمان الشامخ مواظبين -بحسب عمق إيمانهم- على السير في الطريق وقطع المسافات مطمئنين سعداء كأنهم يتنزهون في سفوح الجنان، في الوقت الذي يتعثر فيه الناس في سيرههم ويضطربون. هذا من جانب، ومن جانب آخر ستجدهم -بفضل ارتباطهم بالحق تعالى- قادرين على تحدي العالم أجمع، والاضطلاع بكل مهمة، وتخطّي كل حاجز. فلو قامت القيامات كلها لا يضطربون، ولو واجهتهم نيران جهنم واحدة تلو الأخرى لا يمسهم الخوف ولا يتراجعون. هاماتهم مرتفعة في عزة وإباء دومًا، لا يحنونها لأحد إلا لله. فهم لا يخشون أحدًا، ولا ينتظرون جزاء ولا أجرًا من أحد، ولا يقعون تحت منة أحد”.