ووُسِّع المسجد بعد ذلك ابتداءً من سنة 345هـ. ولا تزال الصومعة المربعة الواسعة في المسجد قائمة إلى الآن من يوم توسعة الأمراء الزناتيين. وتعد هذه الصومعة أقدم منارة مربعة في بلاد المغرب العربي. وقام المرابطون بإجراء إضافات على المسجد فغيروا من شكله الذي كان يتسم بالبساطة في عمارته وزخرفته وبنائه، إلا أنهم حافظوا على ملامحه العامة. وكان هناك تفنن من قبل المعماريين في صنع القباب ووضع الأقواس ونقش آيات القرآن والأدعية. ولعل أبرز ما تركه المرابطون في المسجد هو المنبر. كما قام الموحدون بوضع الثريا الكبرى والتي تزين المسجد الفاسي إلى اليوم.
ولجامع القرويين سبعة عشر باباً وجناحان يلتقيان في طرفي الصحن الذي يتوسط المسجد. ويحتوي كل جناح على مكان للوضوء من المرمر، وهو تصميم مشابه لتصميم صحن الأسود في قصر الحمراء في الأندلس. وطراز الجامع المعماري بشكل عام هو الطراز الأندلسي. وعرف الجامع المزيد من الاهتمام في مجال المرافق الضرورية فزين بالعديد من الثريات والساعات الشمسية والرملية وأضيفت للمسجد مقصورة القاضي والمحراب الواسع وخزانة الكتب والمصاحف.
جامعة القرويين
بعد بناء الجامع سارع العلماء لإنشاء العديد من الحلقات الخاصّة التي يجتمع حولها العديد من طلاب العلم والدارسين. ويعتقد أن جامع القرويين انتقل من مرحلة “الجامع” إلى “الجامعة الناشئة” في العهد المرابطي وفي العصر “الموحِّديُّ”، ولعل الوصف الجامعي الكامل لهذه المعلَمة الحضارية بدأ في عهد “المرينيين” خلال القرن الرابع عشر، حيث اتخذوا من فاس عاصمة لهم بدلًا من مراكش، حيث بنيت حوله العديد من المدارس وعزز الجامع بالكراسي العلمية والخزانات. وفي هذا العهد نشط إلقاء الدروس بصِفة مُتتابعة.
مَعلَمة عريقة قامت بأدوارٍ عدّيدَة
وتعتبر خزانتها الغنية بالكتب والمخطوطات العلمية من أهم الخزانات العامة بالمغرب والعالم. وقد أنشئتْ في العصر المريني أسسها السلطان “أبو عنان المريني” لتواكب المد المعرفي المتنوع والعلمي المنشود الذي عرفته عبر قرون وتم الحرص على تزويدها بكل المخطوطات العلمية النادرة. وضُمت إليها فيما بعد مكتبة السلطان الـمُوحدي “يوسف بن عبد المؤمن” لتضاهي مكتبة قرطبة التي كانت تحوي ما يزيد عن 600 ألف مجلد من الكتب.
وبفضل هذا الاهتمام الفائق تحولت مدينة “فاس” لواحدة من أهم المدن العلمية والثقافية على مستوى المغرب العربي، بل نافست العديد من المراكز العلمية والثقافية الشهيرة كمدينتي “قرطبة”’ و”بغداد”. وبفضل هذا الجامع صارت “فاس” قِبْلة أنظار الملوك والأُمَراء، ومَهْبط السُّفراء والكتَّاب والوزراء، ومحط رحال كبار العلماء والأُدباء كما شاعت مقولة: “العلم كقَمحٍ نتَج بالمدينة، وصُفِّي ببغداد، وطُحن بالقيروان، وغُربل بقرطبة، وأُكل بفاس. وكان المولى “إدريس” يسعى من وراء تأسيسِه لمدينة فاس أن يجعلها مركز إنعاش ديني وعِلميٍّ، وقد تحقَّق ذلك بإنشاء جامع/ جامعة القرويين التي تخرّج فيها العديد من الأعلام المسلمين والغربيين، وتدل القوائم الطويلة للفقهاء والشعراء وعلماء الفلك والرياضيات ممن جاؤوا من بلدان مختلفة لطلب العلم في جامعة القرويين على الصيت الذي كانت تتمتع به الجامعة. فمن بين هؤلاء المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون المولود بتونس مؤسَّسُ عِلم الاجتماع الحديث، وأبو الوليد بن رشد الطبيب والفيلسوف المعروف، والطبيب الأندلسي موسى بن ميمون، والإدريسي أشهر الجغرافيين العرب والمسلمين، وعالم الرياضيات والفلك الشهير ابن البنّاء المراكشي، وابن غازي المكناسي عالم القراءات والرياضيات، وبابا الفاتيكان “سيلفستر” الذي تُنسب إليه عملية نقل الأرقام العربية إلى أوروبا، وغيرهم كثير.
وبهذا تُعدّ جامعة القرويين أقدم جامعة في العالم، وقد سبقت الزيتونة بتونس والأزهر بمصر، كما أنها تُعدّ أقدم من جامعات أوروبا بمائتي عام إلا تسع سنين. فقد تأسست أول جامعة في أوروبا وهي “المدرسة الطبية بساليرن” في صقلية جنوب إيطاليا عام 1050م على يد الطبيب قسطنطين الإفريقي (ولد في تونس).
ولا نستطيع إغفال الدور الاقتصادي الذي لعبته هذه المؤسسة العريقة؛ فلقد ذكر المؤرخ د. “عبد الهادي التازي” في كتابه “جامع القرويين: المسجد والجامعة بمدينة فاس” حيازة جامع القرويين لأوقاف جعلته “مستقلاً” ماليًا عن خزينة الدولة بل أنها اقترضت من خزينته في مراحل تاريخية مختلفة. كما إن اتخاذ القرارات العامة الحاسمة من بيعة وحرب وسِلْم كانت تخرج بتوقيعات علماء جامع القرويين، ويبقي “الصرح العظيم” لفاطمة الفهرية لقرون عديدة: منارة للسالكين، وقبلة المتعلمين، وهداية للحائرين.
بقلم/ ناصر أحمد سنه