بقلم مايسترو
سبق وألقينا بعضاً من الضوء على عقوبة الإعدام في مقال الأسبوع الماضي، بمناسبة تصريح الرئيس ترامب بضرورة إعدام “روبرت باورز” اليميني المتطرف الذي قتل 11 يهودياً وأصاب 12 آخرين في هجوم مسلح على كنيس يهودي ببتسبرغ بولاية بنسلفانيا الأمريكية، ولم تعترض المنظمات الحقوقية التابعة للأمم المتحدة وغيرها على تصريحه هذا!!! بينما صوبت تلك المنظمات جام غضبها في مواجهة أحكام ــ غير باتة؛ أي ما زال للمتهمين فيها فرصة للطعن عليها ــ صدرت من محاكم مصرية بشأن جرائم سُفِكَت فيها دماء بغرض إرهابي، ومَثُل فيها المتهمون أمام قاضيهم الطبيعي بشكل علني، وكُفلت لهم فيها ضمانات حق الدفاع كاملة.
ويحق لنا أن نتساءل: لماذا لم تأخذ هذه المنظمات في اعتبارها حق أسر الضحايا في قصاص عادل لدماء ذويهم؟؟؟ فانشغلت تلك المنظمات كثيراً بحق الإرهابيين القتلة في الحياة!!! على أية حال سنراعي في طرح أمر عقوبة الإعدام وجهة النظر الأوربية التي ألغت العقوبة في دول الاتحاد الأوربي؛ وسيكون التوجه العام لهذا المقال هو تحقيق غاية رئيسية تتمثل في “عدم الإسراف في تقرير عقوبة الإعدام في التشريع المصري“. ولعل سعينا لتحقيق هذا الهدف إنما أملته اعتبارات سياسية وأمنية وقانونية وشرعية.. ورأينا أنه من المناسب طرح المعلومات والأفكار المتصلة بالموضوع من خلال عدة تساؤلات ترتبط بشكل أساسي بأحكام التشريعات المصرية، وذلك على التفصيل الآتي:
- التساؤل الأول: ما هو النص التشريعي ــ الأهم ــ الذي يقرر عقوبة الإعدام للقتل العمد بغرض إرهابي في التشريع المصري؟ وكـيف ينفذ حكم الإعدام على المحكوم عليه؟
* ذهبت المادة 234 عقوبات إلى أنه “من قتل نفساً من غير سبق إصرار ولا ترصد يعاقب بالسجن المؤبد أو المشدد. … وتكون العقوبة الإعدام إذا ارتكبت الجريمة المنصوص عليها في المادة 234 تنفيذاً لغرض إرهابي”.
* كما نصت المادة (13) من قـانون العقوبات على أنـه “كل محـكوم عليه بالإعـدام يشنق“.
- التساؤل الثاني: متى أصبح حكم الإعدام باتاً ــ أي استنفذت كافة طرق الطعن العادية عليه ــ فهل من سبيل قانوني لعدم تنفيذه وفقاً للقوانين المصرية؟
السبيل القانوني الوحيد ــ وفقاً للتشريع المصري ــ لعدم تنفيذ حكم الإعدام الذي صار باتاً هو استخدام رئيس الجمهورية لحقه الدستوري في العفو عن العقوبة أو تخفيفها، حيث تنص المادة (155) من الدستور المصري على أنه “لرئيس الجمهورية بعد أخذ رأى مجلس الوزراء العفو عن العقوبة، أو تخفيفها. ولا يكون العفو الشامل إلا بقانون، يُقر بموافقة أغلبية أعضاء مجلس النواب”.
- التساؤل الثالث: ما هي أهم الضمانات القانونية للحـكم بالإعدام وفقاً للتشريعات المصرية؟
1ــ لا يجوز لمحكمة الجنايات أن تُصدر حكماً بالإعدام إلا بإجماع آراء أعضائها، ويجب عليها قبل أن تُصدر هذا الحكم أن تأخذ رأي مفتي الجمهورية، فإذا لم يصل رأيه إلى المحكمة خلال العشرة أيام التالية لإرسال الأوراق إليه، حكمت المحكمة في الدعوى. (المادة 381 إجراءات جنائية).
2ــ إذا كان الحكم صادراً حضورياً بعقوبة الإعدام فيجب على النيابة العامة أن تعرض القضية على محكمة النقض مشفوعة بمذكرة برأيها في الحكم. (المادة 46 من قانون حالات وإجراءات الطعن بالنقض).
3ــ متى صار الحكم بالإعدام باتاً، وجب رفع أوراق الدعوى فوراً إلى رئيس الجمهورية بواسطة وزير العدل. وينفذ الحكم إذا لم يصدر الأمر بالعفو أو بإبـدال العقوبة في ظرف أربعة عـشر يـوماً (المادة 470 إجراءات جنائية).
4ــ يجب أن يكون تنفيذ عقوبة الإعدام بحضور أحد وكلاء النائب العام ومأمور السجن وطبيب السجن أو طبيب آخر تندبه النيابة العامة، ولا يجوز لغير من ذكروا أن يحضر التنفيذ إلا بإذن خاص من النيابة العامة، ويجب دائما أن يؤذن للمدافع عن المحكوم عليه بالحضور. (المادة 474 إجراءات جنائية)
هذا وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أهمية تطبيق الضمانات السابق ذكرها، بالنسبة لأحكام الإعدام التي تَصدر في جميع أنواع المحاكمات، ونخص بالذكر تلك التي تَصدُر من محاكم أمن الدولة العليا طوارئ؛ وتحديداً مراعاة ما يتعلق بضرورة عرض أوراق القضية من قبل نيابة أمن الدولة على إحدى دوائر النقض الجنائي المعنية بنظر قضايا الجرائم الإرهابية بمحكمة النقض.
- التساؤل الرابع : هل من طرح لعقوبة بديلة للإعدام كعقاب لجرائم القتل العمد بغرض إرهاب، وكذا للجرائم الإرهابية التي تتقرر فيها هذه العقوبة؟
بداية نرى الإبقاء على عقوبة الإعدام مع عدم الإفراط في تقريرها، فيقتصر الحكم بها على الفاعل الأصلي الذي ارتكب الجرم فقط، وذلك حال ثبوت الإدانة عليه في جريمة القتل العمدي بغرض إرهابي، أما شركاؤه وكذا مرتكبو جرائم إرهابية أخرى قرر فيها المشرع عـقوبة الإعـدام (على سبيل المثال المواد : 5 ؛ 6 ؛ 13 من القانون رقم 94 لسنة 2015 بشأن مكافحة الإرهاب) فنقترح عقوبة أخرى نراها جديرة بالدراسة والتأمل؛ ألا وهي عـقوبـة “النفي من الأرض مدى الحياة” وهي بالطبع مستوحاة من النص القرآني الكريم : “إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ“ الآية (33) من سورة المائدة.
وقال ابن عباس في شرح الآية: من شَهَر السلاح وأخاف السبيل، فإمام المسلمين فيه بالخيار إن شاء قتله وإن شاء طبق العقوبات الأخرى، كما قال الشافعي عن ابن عباس في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض، وهذا فقه نحترمه، ومع هذا نرى أن الآية حكمها واضح ولا مجال للبس فيه؛ حيث إنها تضع بدائل عقابية لجرم محاربة الله ورسوله والسعي في الأرض فساداً؛ وهو ما ينطبق على القتل بغرض إرهابي؛ فالبدائل تبدأ بالقتل وتنتهي بالنفي من الأرض، ولولاة الأمر تخير العقاب المناسب لكل زمان ومكان.
ونهدف من طرح فكرة التعديل التشريعي المشار إليه بتقرير عقوبة “النفي من الأرض مدى الحياة” بشأن جرائم إرهابية كثيرة قرر لها المشرع عقوبة الإعدام، باعتبار أن الجناة مفسدون في الأرض، وهدفنا الأسمى تحقيق مبدأ مقتضاه “عدم الإسراف التشريعي في تقـرير عقوبة الإعدام” وذلك إعمالاً لقوله تعالي “وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ ُقتل مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا” (الآية 33 الإسراء).
هذا ولعل استخلاص عقوبة “النفي من الأرض مدى الحياة” يأتي متناغما مع نص المادة (2) من الدستوري المصري؛ التي تقرر أن “الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع“.
واستكمالاً لهذا المقترح نعرض لأهم الملامح الأسـاسية لتلك العـقوبة؛ ولتكن البداية بطرح مفهوم هذه العقوبة؛ فهي “وضع المحكوم عليه في سجن مستقل عن السجون العادية، يقع بعيداً عن العمران، وتحكمه قواعد خاصة تمنع المحكوم عليه من التواصل الإنساني الطبيعي مع البشر مدى حياته، مع وضع قيود على نشر مؤلفاته التي يكتبها بالسجن“، ولعل أهم الضوابط القانونية التي نقترحها ــ بشكل مبدئي ــ لتحكم هذه العقوبة؛ إنما تتمثل في الآتي:
أولاً: لا يجوز لرئيس الدولة أو أي سلطة أخرى العفو العقابي لمن حُكم عليه بالنفي من الأرض مدى الحياة؛ ولا يتغير هذا الحكم إلا باستفتاء شعبي، وبالطبع يجب إجراء تعديل دستوري للمادة (155) السابق الإشارة إليها لسحب سلطة رئيس الجمهورية في العفو بالنسبة لهذه العقوبة.
ثانياً: لا يطبق على المحكوم عليه قواعد الإفراج الشرطي؛ فـخروجه الـوحيد من السجن ــ بحسب الأصل ـــ يكون لقبره فقط، واستثناء لضرورات العلاج.
ثالثاً: تتقرر زيارات محدودة للمحكوم عليه بالعقوبة المشار إليها، لا يتجاوز عددها الزيارتين فقط سنوياً، ومن خلف حاجز زجاجي.
رابعاً : لا يجوز للمحكوم عليه التواصل الإنساني المباشر أو غير المباشر مع الغير خارج السجن؛ فالإرهابي المحكوم عليه بالعقوبة المشار إليها يمثل خطورة مجتمعية بالغة تتطلب عزله تماماً عن البشر.
خامساً : يتحمل المحكوم عليه بعقوبة النفي من الأرض مدى الحياة تكاليف إعاشته في السجن، حيث يتم التحفظ على جميع أمواله في مرحلة التحقيق، وعقب توجيه الاتهام إليه مباشرة، وذلك تمهيداً لمصادرتها كأثر تبعي للإدانة، لسداد ما عسى أن يُقضى به من غرامات وتعويضات بجانب نفقات إعاشته في السجن.
سادساً : لا يحق للمحكوم عليه بالعقوبة المشار إليها الزواج طالما أن بقائه في السجن مدى الحياة.
سابعاً : يُسمح للمحكوم عليه بعقوبة “النفي من الأرض مدى الحياة” بالعمل في سجن المنفى.
- التساؤل الخامس: هـل الظروف الراهنة في مصر مناسبة الآن لـطرح عقوبـة “النفي من الأرض مدى الحياة” المقترحة كبديل لعقوبة الإعدام بالنسبة لبعض النصوص العقابية للجرائم الإرهابية ؟
نؤكد أن الظروف الراهنة غير مناسبة لطرح العقوبة البديلة المشار إليها، وأعتقد أن متطلبات طرحها إنما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتوقف كامل للنشاط الإرهابي على الساحة المصرية؛ ولعل تقدم المتهمين ــ الماثلين أمام القضاء في جرائم عقوبتها الإعدام ـ باعتذار للشعب المصري عما اقترفوه من جرائم يساعد في تهيئة الظروف المناسبة لطرح فكرة التعديل التشريعي المشار إليها.