بقلم: د. دورسون علي أردم
برلين (زمان التركية) – سنحاول في هذا المقال التعرف على أحد الشخصيات العظيمة الذين نهلوا فيوضاتهم من المناخ النوراني لبيت النبوة. الشخصية التي سنسلط الضوء عليها هي الإمام الكبير الحسن البصري رحمه الله الذي كان يشابه كلامه الحديث النبوي ومظهرُه الخارجي وحياته حياةَ الصحابة.
والدة الحسن البصري هي السيدة “خيرة”، مولاة أم المؤمنين أم سلمه رضي الله عنها، ووالده أبو الحسن، مولى زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين. وقد تزوج أبو الحسن من السيدة خيرة في عهد خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالبلدة السعيدة المدينة المنورة، فوهب الله تعالى لهما ابنًا أصبح من أعظم الأئمة في المستقبل.
تذكر الروايات أنه عندما رُزق الوالدان بابنٍ أخذاه إلى الخليفة عمر رضي الله عنه، ولما رأى الخليفة الجمال المرتسم في وجهه سماه “الحسن”. وكني الحسن بن الحسن يسار فيما بعدُ بـ”أبو سعيد”، لكنه اشتهر بـ”الحسن البصري”. وسبب ذلك كما تذكره المصادر أنه نزل في قابل السنوات من عمره بمدينة البصرة واستقر فيها، ثم جعل ينشر العلم والمعرفة هناك. واشتهر في البصرة بشخصيته وسجيته الرصينة وتفوقه في العلم وتمكنه من اللغة العربية وآدابها، بالإضافة إلى زهده وتقواه ومواعظه ودروسه بحيث أصبح الناس يطلقون عليه “الحسن البصري” وعرف بعد ذلك بهذا الاسم.
أودّ أن أذكركم بسببين آخرين جعلا حسن البصري من المحظوظين: لقد استمر عهد خلافة عمر رضي الله عنه سنتين أخريين بعد ولادة الحسن. وقد حظي الحسن بشرف أن يكون الابن المعنوي أو الروحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى جانب انضمامه لقافلة التابعين السعيدة.
بحسب ما رواه محمد بن سلام، فإن أم الحسن كانت تترك ابنها إذْ كان صغيرا عند منزل أم سلمة رضي الله عنها زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام. وحينما يكثر بكاء الطفل كانت أمنا ترضعه، على الرغم من أنها غارقة في السن وانقطع حليبها، ثم ترسله إلى أصحاب رسول الله. وقد وأرسلته مرة إلى الخليفة عمر رضي الله عنه طالبة إياه بالدعاء له. فدعا له الخليفة قائلاً: “اللهم فقهه في الدين وحببه إلى الناس”.
ويروي الإمام أحمد بن حنبل في كتاب “الزهد” أن مرزوق العجلي قال: قَالَ لَنَا أَبُو قَتَادَةَ: “عَلَيْكُمْ بِهَذَا الشَّيْخِ، يَعْنِي الْحَسَنَ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ، فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ رَجُلاَّ قَطُّ أَشْبَهَ رَأَيًا بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْهُ”.
نما الحسن وترعرع في وادي القرى واستمع إلى خطب عثمان رضي الله عنه في سنواته الأخيرة من خلافته وهو ابن 14 سنة. ويروي الحافظ الذهبي أن الحسن حفظ القرآن الكريم عن ظهر الغيب في هذه الفترة.
وبحسب ما نقله أبو نعيم في “الحيلة” عن عوف بن أبي جميلة العربي، كانت أم الحسن خيرة تترك من حين إلى آخر ابنها الصغير عند أم المؤمنين أم سلمة. وكانت ترضعه حينما يبكي على فراق أمه. وكلما ارتضع منها غزر لبن ثديها وشعر بالعطش. وكانت بركة ذلك اللبن هي السبب الرئيسي للعلم والحكمة والبلاغة الذي حصل عليه الحسن. ويقول حفص بن غياث إنه سمع من الأعمش: “غزارة علم وحكمة وبلاغة الحسن البصري من بركة ذلك اللبن الذي شربه. وكان إذا ذكر عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، قال: “ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء.”
ويروي المدائني من الحسن قوله: “كان أبي وأمي لرجل من بني النجار، فتزوج امرأة من بني سلمة، فساق أبي وأمي في مهرها، فأعتقتنا.”
أظن أن مقولة “كان سيد الناس في العلم والعمل في زمنه” يكفي لمعرفة هذا الإنسان العظيم.
أخذ الحسن البصري غذائه المادي والمعنوي من بيت النبوة السعيد في أيام طفولته من جانب؛ ونما وترعرع في المناخ النوراني هذا من جانب آخر. وقد نهل من مشكاة كثير من الصحابة الذين لقيهم، من بينهم الصحابي الجليل عثمان رضي الله عنهم.
ونقل إسماعيل بن إبراهيم عن شعيب قوله: “لقد رأيت الحسن وهو يصبّ الماء من الإبريق لعثمان بن عفان”.
وقد روى الحسن البصري عن مجموعة من الصحابة، منهم عمران بن حصين، أبو هريرة، أبو بكرة، أبو برزة، مالك بن يسار، عبد الله بن مالك، عبد الله بن عمر، عبد الله بن عباس، أنس بن مالك، سمرة بن جندب، صعصعة بن معاوية وغيرهم.
وتدل الروايات على أن الحسن البصري عرف نحو 70 صحابيًّا ودرس عليهم الحديث وروى عنهم. لقد اعترف كثير من كبار علماء عصره بدهائه وعلمه الذي رفعه إلى القمة في الحديث كما هو الحال في علوم أخرى. وفق رواية هشام، قال الإمام الحسن الذي كان يرى العلم والتعلم والتعليم أعلى شأنًا من كل شيء: “طلب العلم والتعليم خير للإنسان من الدنيا وما فيها”.
وكان الحسن البصري قدم مرة من المدينة إلى مك،ة وأقيم له مجلس حضره عديد من الشخصيات الكبار، بينهم الإئمة مجاهد، عطاء، طاووس بن كيسان، عمرو بن شعيب رحمهم الله جميعًا. وقد أكد هؤلاء أنهم لم يروا عالماً مثله.
كان الإمام يخشى من عاقبته ويُقبل على الطاعات والعبادات. فالإمام الذي آمن أن القلب لا يظل حيًا إلا بالمواظبة الدائبة على الطاعات والعبادت كان يقول: “القلوب تموت وتحيا، فإذا ماتت فاحملوها على الفرائض، فإذا هي أحييت فأدبوها بالتطوع.”
كان الإمام يشعر بخشية الله في قلبه بحيث لم تكن البسمة تزور وجهه. وقال يوسف بن أسبط فيه: “مكث الحسن لم يُر ثلاثين سنة ضاحكا، وأربعين سنة لم يمازح”.
فقد كان قدوة للأمة في هذا الصدد أيضًا، حيث أمضى عمره وهو حزين. وقد عبر عن حزنه عيسى يشكري بأحسن تعبير قائلاً: “ما رأيت أحدا أطول حزنا من الحسن، ما رأيته إلا حسبته حديث عهد بمصيبة”.
كان الحسن يرى أنه يجب على الإنسان أن يشعر بالحزن صباح مساء حتى يبلغ إيمانه الكمال، وكان يقسم بأن الإنسان لن يحرز مرتبة الكمال في دينه إلا بالحزن.
اعتقد الإمام أن المرء الذي يقرأ القرآن ويدرك معانيه لا يمكن أن يصبح أو يمسي إلا وهو حزين. وقد قال في إحدى الرويات: “أقسم بالله أن المرء لن يكتمل إيمانه ما لم يحزن ويتعب ويعمل بجد في العبادة”.
وعن حميد قال: بينما الحسن في المسجد تنفس تنفساً شديداً، ثم بكى حتى أرعدت منكباً ثم قال: “لو أن بالقلوب حياةً، لو أن بالقلوب صلاحاً لأبكتكم من ليلةٍ صبيحتها يوم القيامة، إن ليلة تمخض عن صبيحة يوم القيامة ما سمع الخلائق بيوم قط أكثر من عورة بادية ولا عين باكية من يوم القيامة”.
وروى حوشب عن الحسن، قال الحسن: “يا ابن آدم، والله إن قرأت القرآن ثم آمنت به، ليطولنّ في الدنيا حزنك، وليشتدّنّ في الدنيا خوفك، وليكثرنّ في الدنيا بكاؤك.”
نسأل الله سبحانه وتعالى أن ييسر لنا الاقتداء بعظمائنا من أمثال الحسن البصري رحمهم الله تعالى أجمعين.
ترجمة من التركية: محمد عبيد الله