تقرير: محمد عبيد الله
برلين (زمان التركية) – بعد أن أعلنت السعودية رسميًا ليلة أمس الجمعة وفاة مواطنها الصحفي جمال خاشقجي بسبب شجار اندلع بينه وبين بعض المسؤولين في قنصليتها بإسطنبول، بدأ الرأي العام يترقب بفارغ الصبر التفاصيل التي قد تسفر عن التحقيقات التي تجريها تركيا والسعودية بشكل مشترك أو أحادي.
أعلن النائب العام السعودي، سعود بن عبد الله المعجب، أن التحقيقات الأولية في قضية اختفاء الصحفي جمال خاشقجي أدت إلى توقيف 18 شخصًا، مؤكدًا أن المملكة ستحاسب المتورطين في وفاة خاشقجي، الأمر الذي رآه كثير من المحللين السعوديين “خطوة إيجابية تمهد الطريق لإجراء تحقيق نزيه حول الحادثة المؤسفة”، مطالبين بمعاقبة كل من له صلة بالحادثة في إطار القانون والشرع.
من جانب آخر، أعلن الديوان الملكي السعودي، اليوم السبت، إنهاء خدمات عدد من الضباط، على خلفية قضية وفاة خاشقجي، بينهم قيادات في الاستخبارات العامة، منهم مساعد رئيس الاستخبارات العامة لشؤون الاستخبارات اللواء الطيار محمد بن صالح الرميح، ومساعد رئيس الاستخبارات العامة للموارد البشرية اللواء عبد الله بن خليفة الشايع، ومدير الإدارة العامة للأمن والحماية برئاسة الاستخبارات العامة اللواء رشاد بن حامد المحمادي، الخطوة التي اعتبرها بعض المحللين أمارة تدل على شكّ القيادة السعودية في النية الحقيقية للفريق الذي سافر إلى تركيا من أجل جمال خاشقجي.
لماذا جاء الفريق السعودي إلى تركيا؟
على الرغم من أن بعض وسائل الإعلام المقربة من الحكومة التركية زعمت أن الفريق السعودي توجه إلى تركيا وهو مصمم على اغتيال خاشقجي، إلا أن السلطات السعودية ترفض هذا الادعاء جملة وتفصيلاً. فقد قال مصدر سعودي “مسؤول”، رفض الكشف عن اسمه: “إن التحقيقات الأولية التي أجرتها النيابة العامة أظهرت قيام المشتبه بهم بالتوجه إلى إسطنبول لمقابلة جمال خاشقجي، وذلك لظهور مؤشرات تدل على إمكانية عودته للسعودية”.
كما يبدو أن هذا التصريح يدعي أن الفريق السعودي قدم إلى تركيا من أجل مقابلة خاشقجي بشأن عودته للمملكة.
وساند الأكاديمي التركي والكاتب الصحفي المعروف أمره أوسلو الطرح السعودي، إذ رجّح أن عملية خاشقجي جرت بالتنسيق بين الفريق السعودي والمخابرات التركية، واستدل على ذلك بأن السعوديين دخلوا تركيا بأسمائهم الحقيقية، وأن بعضهم تسوقوا في إسطنبول ببطاقاتهم الائتمانية، وفق ما ورد في الصحف التركية، بشكل مخالف لأبسط قواعد العمليات الأمنية والاستخباراتية السرية، ثم عقب بقوله: “هذا يدل على أنهم كانوا مرتاحين مطمئنين لوجود التنسيق بين الطرفين، فلم يروا حاجة لاستخدام أسماء رمزية أو حركية. وأضاف أوسلو أن ذلك يدل أيضًا على أن الفريق السعودي لم يأتوا إلى تركيا مصمّمين على ارتكاب جريمة إخفاء أو اغتيال خاشقجي منذ البداية، وإنما جاؤوا لاستجواب كاتب سعودي يمكن وصفه بـ”المعارض الناعم” أو “المعارض الناصح”، لكن خرجت الأمور عن السيطرة، فمات خاشقجي بشكل أو بآخر من دون قصد.
ودافع أوسلو الذي سبق أن عمل أستاذًا في الأكاديمية الشرطية التركية، أن المخابرات التركية كانت على علم منذ البداية برغبة الفريق السعودي، وقامت بتوظيفها من أجل تحقيق أهداف ومصالح، مدعيًا أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يحاول إحراج السعودية لكي يحصل على أموال في وقت تعاني بلاده من أزمة اقتصادية.
ومما يمكن الاستشهاد به على صحة طرح أوسلو حول التوظيف التركي للقضية التصريحاتُ التي يدلي بها مسؤولون حكوميون أو مستشارون لأردوغان من وقت لآخر، حيث قالت نائبة رئيس حزب العدالة والتنمية ليلى شاهين أوسطى في أول تعليق رسمي على بيان المملكة حول سبب وفاة خاشقجي داخل مقر القنصلية السعودية: “لقد أدلى السعوديون بهذه التصريحات بعد أن أصبحوا مجبرين عقب افتضاح أمرهم. وسيتم الكشف عن ملابسات الواقعة بكافة تفاصيلها قريبًا”. وسبق أن قال إيلنور شفيك، كبير مستشاري أردوغان: “إن تركيا تساعد الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز من خلال عدم التحقيق المتعمق في قضية اختفاء جمال خاشقجي”.
واستبعد أوسلو الذي كان داعمًا للإصلاحات الديمقراطية لحكومة أردوغان، ثم تحول إلى معارض لها عقب توجهها إلى النهج القمعي، أن تكون القيادة السعودية العليا قد أمرت بإخفاء أو اغتيال خاشقجي داخل القنصلية، مرجعًا سبب ذلك إلى أن “صانع القرار السعودي ليس ساذجًا إلى هذه الدرجة حتى لا يحتسب العواقب الوخيمة لمثل هذه الخطوة في الساحة الدولية”.
والرأي المقابل لذلك تدافع عنه مجموعات مرتبطة بتيارات الإسلام السياسب وبعض وسائل الإعلام التركية القريبة من الحكومة وعدد من وسائل الإعلام الغربية، وهو أن عملية خاشقجي تم إجراؤها بعلمِ، بل بأمر القيادة السعودية العليا، استنادا إلى مجموعة من الأدلة، منها أن المشرفين على الفريق السعودي يتمتعون بعلاقات وطيدة مع العائلة المالكة في السعودية، منهم المستشار في الديوان الملكي السعودي برتبة وزير سعود بن عبد الله القحطاني، الذي كان ضمن المقالين من مناصبهم على خلفية قضية خاشقجي، والذي يصفه البعض بـ”كاتم أسرار ولي العهد السعودي محمد بن سلمان”.
وقال القحطاني في تغريدة نشرها تعقيبا على إقالته من منصبه: “أتقدم بجزيل الشكر والعرفان لمقام مولاي خادم الحرمين الشريفين، وسمو سيدي ولي العهد الأمين؛ على الثقة الكبيرة التي أولوني إياها، ومنحي هذه الفرصة العظيمة للتشرف بخدمة وطني طوال السنوات الماضية”، وأضاف: “سأظل خادماً وفياً لبلادي طول الدهر، وسيبقى وطننا الغالي شامخاً بإذن الله تعالى”، على حد تعبيره.
بينما أكد الكاتب الصحفي التركي المخضرم آدم ياوز أرسلان الذي كان رئيس تحرير جريدة بوجون التابعة لمجموعة إيباك الإعلامية التي استولى عليها أردوغان بشكل غير قانوني في 2015، أن قصة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي ستبقى ناقصة من دون كشف الستار عن الأتراك الذين أقنعوا خاشقجي بالذهاب إلى قنصلية بلاده على الرغم من أنه شدد على خطورة ذلك، وفسر سبب ذلك قائلاً: “ذلك أن خاشقجي كان يخاف من الاختطاف (لا القتل)، فمَنْ هؤلاء الذين قالوا له جازمين ’اذهب، لا تقلق، لن يحدث شيء، فإننا متابعون‘. من هي خديجة جنكيز ومن هم أقاربها وعلاقاتها؟”.
هل هناك تواطؤ بين مخابرات تركيا والفريق السعودي؟
هناك محللون يشيرون إلى احتمالية وجود تواطؤ بين المخابرات التركية أو ما يسمى بالدولة العميقة والفريق السعودي القادم إلى تركيا من أجل وضع المملكة في زاوية ضيقة. ولعل أول من لفت إلى هذا الاحتمال ياسين أقطاي، مستشار الرئيس أردوغان، عندما صرح بأنه يمكن أن تقف الدولة العميقة وراء مقتل خاشقجي. ولما ظن البعض أنه يقصد الدولةَ العميقة في تركيا شرح مقصده قائلاً: “عندنا الدولة العميقة وتنفذ مثل هذه الاغتيالات من حين لآخر، وقد تكون في السعودية كيانات مماثلة لها نفذت هذه العملية”.
إذا علمنا أن المخابرات التركية سبق أن تواطأت مع مجموعات معينة داخل أجهزة أمن ومخابرات بعض الدول، منها كوسوفو وباكستان وماليزيا ومولدوفا، بل والسعودية أيضًا، ونجحت في اختطاف معارضين أتراك، معظمهم من محبي حركة الخدمة، وذلك على الرغم من اعتراض حكومات تلك الدول، ومبادرة بعضها إلى فتح تحقيق حول المتورطين في هذه العمليات كما في كوسوفو ومولدوفا، فإن وجود مَنْ يتعاونون مع المخابرات التركية ضمن المشرفين على الفريق السعودي ليس احتمالاً بعيدًا.
ومما يقوي هذا الاحتمال قيامُ المملكة بإقالة بعض الأمراء والوزراء الذين لهم صلة بتركيا وحكومة أردوغان في إطار محاربة الفساد التي جرت في نوفمبر 2017، حيث كان ورد في البيان الملكي الصادر في هذا الصدد عبارة “ضعاف النفوس المعتدين على المال العام، من دون وازع من دين أو ضمير أو أخلاق”، وأكد على “الجانب الأمني لممارسات الفساد”.
ومما يعضد هذا الطرح أيضًا ما قاله الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حيث أكد أن ولي العهد السعودي أبلغهم أن التحقيق في القضية بدأ، وأن النتائج ستظهر قريبًا، وأنه، أي ترامب، استنتج من الحديث الذي دار بينه وبين العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز أن “قتلة مارقين” قد يكونون مسؤولين عن مقتل خاشقجي.
السياق الإقليمي والدولي لعملية خاشقجي
باتت السعودية تلفت الانتباه بالإصلاحات الداخلية (بقيادة محمد بن سلمان) والعمليات العسكرية الخارجية (اليمن)، وتسعى مع حليفتها مصر لمواجهة المد الإيراني الشيعي / الهلال الشيعي في المنطقة، في مسعىً لملء الفراغ في العالم السني الحاصل من توجه تركيا بقيادة أردوغان من المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة إلى المحور الروسي-الإيراني. لقد وضعت السعودية اللبنات الأولى لدورها الإقليمي بزيارة دونالد ترامب للرياض، بحضور دول عربية، بينها مصر، وإعلان تخليها عن السلفية الراديكالية وتبنيها “الإسلام الوسطي المعتدل” رسميًّا، وشروعها في تشكيل مؤسسات فكرية وعلمية للتوعية، وتنفيذ سياسات لكسر النفوذ الإيراني.
وهذه التطورات جاءت بعد أن نجحت إيران في التحالف مع أردوغان وخرقت بفضله العقوبات الأمريكية عليها، وكذلك نجحت روسيا الاتفاق معه في قضايا المنطقة، خاصة في سوريا، بعد إسقاط طائرتها واغتيال السفير الروسي، مما دفع حلف شمال الأطلسي “الناتو” إلى الحديث بجد عن احتمالية إلغاء عضوية تركيا من جانب، ويبحث عن شركاء جدد في المنطقة بدلاً من تركيا من جانب آخر.
ثم أعرب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن خطة بلاده تشكيل “الناتو العربي” أو حلفًا تحت مسمى “تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي”، يتكون أعضاؤه من الدول الخليجية الست: هي السعودية والإمارت والكويت وقطر وسلطنة عمان والبحرين، ومن الممكن أن تنضم إلى هذا التحالف دول عربية أخرى في المستقبل.
أهداف عملية جمال خاشقجي
ونختتم هذا التقرير بعديد من التساؤلات قد تساعدنا في كشف القناع عن أهداف عملية جمال خاشقجي في مثل هذا السياق الإقليمي والدولي:
هل من بين أهداف عملية جمال خاشقجي:
1) تشويه سمعة المملكة على الساحة الدولية، وإفساد علاقتها مع واشنطن خاصة والغرب عامة، وذلك للإضرار بدورها الإقليمي الحالي والدور الذي من الممكن أن تلعب في تشكيل “الناتو العربي”، الذي سيتعاون مع حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة، في مقابل المحور الروسي-الإيراني-التركي أو دول منظمة شنغهاي للتعاون.
2) رسالة إلى المعارضة السعودية وممثلي التيار الإسلامي، بما فيهم جماعة الإخوان، مفادها أن عهد الإسلام السياسي قد ولى، فلا داعي للمقاومة والصمود لا في سوريا ولا في تركيا ولا في أي مكان آخر من العالم، إذ تم مقتل خاشقجي الموالي للإخوان في بلد يحتضن على أراضيه أكبر معارضة إخوانية أو إسلاموية.
3) إحراج المملكة والضغط عليها للحصول على أموال من السعودية في وقت تعاني تركيا من أزمة اقتصادية، نظرًا لأن معظم وسائل التركية نشرت منذ البداية أخبارا متناقضة حول مصير خاشقجي، ويهدد مسؤولون حكوميون ومستشارون لأردوغان السعودية ضمنيا.