يُصدر كثير من الحيوانات كالقردة وغيرها صرخات عالية مُعرضة نفسها لخطر الافتراس من الأسود، لتُعلِم بني جنسها أن خطرًا قادمًا، فيسعون لإنقاذ أنفسهم.
وخلال ثلاثين عامًا قضتها باحثة سلوكيات النمل “نوباهاري” (جامعة شمال باريس) لاحظت نمل الرمال بجنوب فرنسا ينقذ أفراده الذين وقعوا في شَرَك. فيحفر حولهم ويتم سحب أطرافهم لتحريرهم؛ رغم أنه يخاطر بالوقوع في هذا الشَّرك، أو أن تلتهمه يرقات حشرات الطُّحَن المفترسة المُتربصة في قاع الحفر فاغرة فاها. كما قامت الباحثة مع آخرين بتكرار الأمر معمليًّا فلاحظوا لجوء النمل إلى استراتيجيات أخرى. ففي حالة فشل أسلوب الحفر والسحب، يبدأ تدريجيًّا، ينقل الرمال بعيدًا عن الضحايا حتى يُكُشف الشرك، وعندئذٍ يتجه إلى عضِّ خيوطه/ شدها. كما سعى النمل بكل طاقته للمساعدة عندما تم تخدير الضحية. مما يشير إلى أن النمل مدفوع بحافز لمساعدة أفراد جماعته، وهو ما يُطلِق عليه “السلوك الداعم للمجتمع”. وأظهرت تجارب مماثلة على الفئران أنها أيضًا تساعد رفاقها في الخروج من الفخِاخّ، وتعتبر الباحثة “جان داستي” (جامعة شيكاجو) هذا السلوك سلوكًا ينمُّ عن “تعاطف وإيثار”، إلا أن الفئران تتمتع بجهاز حوفي، جزء مرتبط بالاستجابات العاطفية في دماغ الثدييات على عكس النمل.
الإيثار عند الطيور
بحلول الربيع.. تعود بطاريق القطب الجنوبي (كبطريق أديلي) إلى وطنها في الشمال، حتى تصل إلى منطقة التكاثر، وتخرج إلى اليابس لتبني أعشاشها من الحجارة. وتضع الأنثى بيضتين يتولى الذكر حضانتهما خاو البطن لأكثر من أسبوعين. وعند الفقس ينطلق إلى البحر ليعوض ما فاته من غذاء. في حين ترجع الأنثى فتغذِّي الصغار مما جمعته في بلعومها. أما بطاريق “الإمبراطور” فتقضي فترة الشتاء في المناطق المتجمدة الشمالية، ويتم وضع البيض، ليس على الثلج، ولكن على الأقدام، لتعزل وتنال حظها من الدفء اللازم للفقس. وتستمر على هذا الوضع “مؤثرة نسلها على معاناتها” من الجوع حتى تتم حضانة البيض ويذوب الجليد، وتخرج الأفراخ.
الإيثار عند الثدييات
يُصدر كثير من الحيوانات كالقردة وغيرها صرخات عالية مُعرضة نفسها لخطر الافتراس من الأسود لاستضاح مكانهاـ لكنها “آثرت بنفسها” لتُعلِم بني جنسها أن خطرًا قادمًا، فيسعون لإنقاذ أنفسهم. كما نجد أمهات بعض الفيلة تلقي بنفسها في شراك الأسود لتنقذ أبنائها الصغار من براثنها. وهذه كانت مشكلة تحدث فيها “داروين” حينما طرح نظريته، فقال: “ذلك الشخص المستعد للتضحية بحياته، ولم يخن رفاقه، غالبًا يندثر وينقرض ولا يترك ذرية ترث طبيعته النبيلة”. لكن ما يحدث في الطبيعة أن الصفات النبيلة، أو التي تدعو الكائن للإيثار بنفسه، تنتقل رغم أنها بحسب نظرية التطور من المفترض أن لا تنتقل.
تقوم شغالات النحل بلسع أي معتدٍ على الخلية، وهي تعلم يقينًا أنها تضحي بنفسها وتؤثر بالحياة بني جنسها، فإبرتها اللاسعة ـ المرتبطة بأحشائها الداخلية تغرز في جسم العدو الدخيل، جاذبة معها تلكم الأحشاء متسببة في نفوقها.
الشمبانزي يتبنى الأيتام والمهجورين!.. فالشمبانزي أكثر استعدادًا لمساعدة الآخرين و”إيثارهم” بطعامه عندما يكون حرًا طليقًا في الغابة أكثر منه داخل قفص الأسر في حديقة الحيوان. فعدم تقاسم قردة حدائق الحيوان طعامها فيما بينها ليس مفاجئاً “لأن جميع الحيوانات تحصل على ما يكفيها من الغذاء”. وراقب علماء معهد “ماكس بلانك” كيف تم تبني ثمانية عشر قردًا يتيمًا من في حديقة “تاي” الوطنية المفتوحة ساحل العاج، وتم تبني نصف هذه القردة اليتيمة من قبل قردة ذكور شاركوهم طعامهم.
ولوحظ عموم تتزايد حالات التبني بين القردة في الحدائق المفتوحة مقارنة بعمليات التبني بين القردة في غابات دول شرق أفريقيا. ورجح الباحثون أن يكون سبب ذلك هو أن القردة في حديقة تاي الوطنية تتقاسم بيئة معيشتها مع الكثير من النمور، و”يبدو أن الخطر المستمر الذي تمثله هذه القطط الكبيرة على حياة القردة قد عزز من تماسكها وتضامنها وإيثار بعضها بعضاً”. وكان يعتقد أن القدرة على التعاون والإيثار بين غير الأقرباء من المجموعة نفسها لأجل المصلحة العامة شيء خاص بالإنسان.
وتنطلق الخفافيش مصاصة الدماء للبحث عن كائنات تمتص دمائها، وبعضها يكون محظوظًا، وبعضها لا يحالفه الحظ فقد يموت خلال ثلاثة أيام إن لم يجد الطعام الكافي. لذلك حينما تعود الخفافيش لمسكنها، يقترب الخفاش العطشان من الخفاش المرتوي، فيحضنه، ويلعق فمه، فيبدأ الآخر بتقديم الدم له ليشرب.
وقد لوحظ أن الخفافيش تقوم بهذا العمل رغم عدم وجود رابطة أسرية بين الاثنين. وأن “الإيثار تبادلي” حيث أن الخفاش الذي عطش اليوم “سيرد الجميل” للخفاش المرتوي إن هو عطش يومًا ما. وكذلك نري كثيرًا من أمهات الحيوانات يتركن قطعانهن ليرضعن/ يحمين صغارهن مما قد يعرض حياتهن لخطر جسيم. كما أنه ـ طيلة فترة الرضاعة ـ يزداد الرُضع وزناً بينما تفقد الأمهات من وزنهن بشكل ملحوظ. إن الإيثار عمل ناكر للذات ويأتي تحسيناً لحالة الآخر، ولعل أبلغ صور الإيثار تتجلي في سلوكيات الأمومة/ الأبوة لدي عامة الحيوان والطير.
إن كثيرًا من الحيوانات “تؤثر مصلحة” غيرها على نفسها. فإذا رأى فأر فأرًا آخر محبوسًا في أنبوب بلاستيكي، فسيحاول تحريره من محبسه. وإن الفأر يقرض فتحة في جدار حوض سمك من البلاستيك المعالج، إذا كان ذلك سيسمح لآخر بالخروج من الماء. ومع ذلك، فإن الفأر عينه لن يتدخل إذا كان زميله الفأر واقعًا في حوض بلا ماء. كما سيأتي لإنقاذ شريكه بسرعة أكبر إذا كان هو عينه قد خاض تجربة الحوض المزعجة من قبل. وجرب العلماء بوضع فأرين بغرفتين صغيرتين، واحدة بها ماء، والأخرى جافة، وبينهما باب لا يمكن فتحه إلا من الغرفة الجافة، الفئران بطبعها لا تحب الماء، ستعمل ما بوسعها للسباحة حتى لا تغرق، ولكن بعد أن يكتشف الفأر الموجود في الغرفة طريقة فتح الباب فإنه يفتح الباب ليخلص زميله. وحينما وضع طعام في غرفة ثالثة بالقرب من الغرفة الجافة، فإن الفأر غالبًا ما يختار فتح الباب لزميله أولاً، ثم يذهب لتناول لطعام. أي أنه فضل أن ينقذ صاحبه على أن يأكل الطعام أولاً وقد يشاركه زميله الذي تم إنقاذه هذا الطعام، ولا تستهن بهذا العمل، فجاذبية الطعام بالنسبة للحيوانات كبيرة جدًا.
وعديدة هي الصور والنماذج التي تتحدى “شكوك” البعض في تغلغل قيمة “الإيثار” في عالم الحيوان. كما تقلل من التصورات الشائعة عن أن ديدن عالم الحيوان والطير هو الصراع والأثرة، وأن كل شيء فيه مباح من أجل البقاء.. “البقاء للأطمع وليس للمؤثر”.
بقلم/ ناصر أحمد سنه