(زمان التركية)– يُعدُّ فتح الله كولن أحد أبرز المفكرين المعاصرين بما يمتلكه من إيمان بقدرة القيم الإسلامية الأصيلة على تحقيق نهضة العالم الإسلامي، وبما لديه من رؤية حضارية إنسانية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، تساعد على إشاعة جوٍّ من الحوار والتسامح والمحبة والتعايش السلمي المشترك بين بني البشر.
ساعدته معرفته الواسعة بالعلوم الدينية ومنظومتها الفكرية على إدراك أحوال العصر الذي يعيش فيه، كما أكسبته مواهبه المعرفية قدرة على التأثير في مخاطبيه، وهي الميزة التي اختير على أساسها ضمن أكثر مئة شخصيةَ ذات تأثير في الناس في القرن العشرين، من خلال استطلاع مجلة السياسة الخارجية Foreign Policy أمريكية المعروفة في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية.
نشأة معرفية تقليدية
نشأ فتح الله كولن في بيت ملتزم كان مضيفًا لجميع العلماء والمتصوفين، وأسرة متدينة، فوالده رامز أفندي اشتهر بحسن الخلق وقوة الإيمان، وحبِّ النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام، ووالدته “رفيعة هانم” التي عُرفت بأخلاقها وتدينها، ولم تدخر جهدًا في أن يتقن ولدها فتح الله القرآن الكريم منذ سن مبكرة، كما تأثر خارج إطار العائلة بالشيخ “ألوارلي محمد لطفي أفندي”.
درس كولن في طفولته في المدرسة الدينية العتيقة، كما كان يتردد على “التكية”، فتلقى بذلك تربية روحية إلى جانب العلوم الدينية التي بدأ يتلقاها على يد علماء معروفين من أبرزهم “عثمان بكتاش” الذي كان من فقهاء عهده، فدرس عليه النحو والبلاغة والفقه وأصول الفقه والعقائد، ولم يهمل دراسة العلوم الوضعية والفلسفة.
كما تعرف أثناء دراسته إلى حركة “النور”، وتأثر بها كثيرًا. وبهذا فقد أتيح له أن يتربى تربية إسلامية أصيلة، استحق بها صفة “العالم” بالنظر إلى مختلف المصادر المعرفية التقليدية التي درسها على شيوخه أو التي درسها وحده، كما أهله ذلك لكي يجلس على كرسي الوعظ والإفتاء، ويُلقي دروس العلوم الشرعية في وقت مبكر من حياته.
معارف غير تقليدية
دفع شغف فتح الله كولن للعلم وحب المطالعة للتزوّد بمعارف أخرى غير تقليدية، فتعرف على العديد من المجالات المعرفية كالفلسفة وعلم الاجتماع والآداب العالمية المختلفة، وكانت له وقفات عميقة ودقيقة مع الكثير من النظريات العلمية، وخاصة تلك التي تعارض المعرفة الدينية والسنن الكونية، والتي غزت بعض العقول فأفسدتها. وكان من نتيجة ذلك كتابه “حقيقة الخلق ونظرية التطور”، للرد على نظرية دارون في التطور.
رؤية حضارية نتاج عقيدة صحيحة
إن الرؤية الحضارية الإنسانية التي يتبلور حولها مشروع كولن الإصلاحي تستمد قوتها من حضور مقومات العقيدة السليمة في كل مراحل بنائه العلمي كما أشرنا لاحقًا. وهنا مكمن التميز في فكر الأستاذ فتح الله.
لقد أكَّد كولن-من خلال كتاباته العديدة-أن أحد أهم قواعد أصالتنا هو الحفاظ على العقيدة وتنميتها في قلوب المسلمين والشباب خاصة؛ ولذا اتجه إلى العقيدة تثبيتًا وتدعيمًا بالأدلة المختلفة النقلية، والعقلية، والوجدانية، ووجه جهوده لمحاربة الإلحاد وسائر التيارات الضالة التي تريد اغتيال عقيدة المسلمين.
والمتتبع لفكر (كولن) يراه يجمع في منهجه بين العقيدة والعمل أو ما سماه (الحركية) فلا نفع للعمل والحركية دون عقيدة قوية.
كما يتأكَّد لدى المتتبع لمنهجه الدعوي وكتاباته أنه مسلم سني العقيدة يؤثر دائمًا الالتزام بالكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة من أهل القرون الأولى، ويرى في ذلك السلامة والنجاة، ونجده في آرائه يقترب كثيرًا من الماتريدية -حتى اعتبره بعض الباحثين ماتريدي العقيدة -، وأحيانًا يقترب من الأشاعرة، وأحيانًا أخرى له اجتهاد خاص لا يخرجه عن دائرة أهل السنة والجماعة.
ومما يدلل على ذلك أنه عندما تتعدد الآراء في مسألة ما، ويركن إلى رأي فيها يعلل ذلك بأنه رأي جمهور أهل السنة.
إضافة إلى أنه يُشنِّع على المعارضين والمخالفين لمنهج أهل السنة، وذلك مشهور عنه في نقده للمعتزلة والمرجئة وغيرهما من الفرق.
وهناك أدلة كثيرة في نتاج الأستاذ تدل على وسطيته وسلامة عقيدته وموافقته لأهل السنة منها:
1- الجمع بين العقل والنقل في معرفة الله تعالى:
رأى أن طريق معرفته تعالى السمع، فيقول: “لا نستطيع معرفة شيء عن الله إلا ما بلغنا عنه، ولا يمكن للعقل أن يدلي بشيء في هذا، فدوره الاستجابة لإرشاد الوحي”[1].
وهو هنا يتابع أهل السنة، وخاصة الأشاعرة ويخالف المعتزلة -في مسلكهم العقلي القائم على عدم الحاجة للوحي في معرفة الله تعالى-، ومع ذلك يقدر قيمة النظر العقلي في المعرفة، فيقول: ” إن كل نعمة وكل إحسان يدل من جهة على صاحب هذه النعمة وهذا الإحسان، ويسوق إلى إجلاله وتوقيره من جهة أخرى، فأينما شاهدنا نعمة، أو جمالا، أو نظاما، يجب أن تكون هناك عبودية تجاه صاحب هذه النعم، والجمال، والنظام”[2]. وهو رأي أهل السنة من الماتريدية.
4-في علاقة الإيمان بالعمل:
يتفق مع أهل السنة في اعتبار الأعمال خارجة عن مسمى الإيمان، فيقول: ” لا يصح احتساب العمل جزءًا من الإيمان… فمن اعتقد أن العمل فرض، ثم ترك إقامته، فمع أنه يكون آثما ومرتكبًا ذنبًا لكنه يعتبر مؤمنًا، ولا علاقة لهذا الذي نقوله بأفكار المرجئة ألبتة؛ لأن الاستهانة بالذنوب مع الإيمان شيء، وتقويم المسألة في إطار “أن الله إن شاء غفر وإن شاء عذب” شيء آخر”[3].
فكلامه – بعدم اعتبار العمل جزء من الإيمان- يخالف موقف المرجئة القائلين(لا يضر مع الإيمان معصية)[4]؛ لأن كلامهم يؤدي إلى الاستهانة بالدين والعمل، ويجرئ الناس على المعاصي، أما رأي الأستاذ فهو أن صاحب الذنب مقصر ومذنب إلا أنه لا ينبغي احتقاره أو تفسيقه أو تكفيره[5]، – وهو ما ذهب إليه أهل السنة[6]– مخالفا في ذلك المعتزلة والخوارج؛ الذين يجعلون العمل جزءًا من الإيمان؛ فيكفرون ويفسقون بالذنب .
هذه كانت بعض الأدلة من فكر (كولن) تدل على كونه مفكرًا سنِّي العقيدة ملتزمًا بالأصول التي أسّسها أهل السنة والجماعة وساروا في فهم النصوص على ضوئها واستكناه المسائل العقدية على هداها.
كولن ومؤلفاته في العقيدة
النتاج العلمي لفتح الله كولن في باب العقيدة زاخر، بالإضافة إلى خطبه المنبرية ومجموع فتاويه وإجاباته على مختلف الأسئلة المتعلقة بالعقيدة وبالقدر والتي جُمعت في كتب، لكن لم يترجم من هذه الكتب إلى العربية سوى كتابين: الجزء الأول والثاني من سلسلة “أسئلة العصر المحيرة” وكتاب “القدر في ضوء الكتاب والسنة”.. وهناك كتب في هذا الموضوع مطبوعة باللغة التركية مثل “في ظلال الإيمان” و”البُعد الميتافيزيقي للوجود” إلا أنها لم تترجم إلى العربية بعدُ.. ولذلك فإن الذي نقف عليه لا يمثل سوى جزء يسير من الرؤية الكاملة لفلسفة العقيدة والقدر في رأي الأستاذ فتح الله كولن، والتي يتأكد لمن يقرأها سلامة عقيدة كولن وموافقتها لعقيدة أهل السنة والجماعة.
جامعة الأزهر تشهد لعقيدة كولن
نُوقشت في رحاب جامعتي الأزهر والقاهرة في الآونة الأخيرة العديد من الرسائل العلمية، التي تناولت فتح الله كولن وحركة الخدمة دعويًّا وتربويًّا، كما تناولت آراؤه الكلامية وعقيدته، وقد أكَّدت جُلُّ هذه الرسائل على وسطية منهجه وموافقة عقيدته لآراء أهل السنة والجماعة، وشهدت بأنه عالمٌ موسوعي في العقيدة والشريعة وعلوم القرآن والسنة والتاريخ والحضارة، بالإضافة لإلمامه بثقافة عصره.
ومن أمثلة رسائل الماجستير والدكتوراه التي منحت جامعة الأزهر طلابها الإجازة في الماجستير أو العالمية في الدكتوراه:
أطروحة الماجستير للباحث/ محمد ياسين عبد الحميد. بعنوان: ” تجربة الشيخ فتح الله جولن الدعوية .. دراسة نموذج النهوض بالمجتمع والأمة من خلال العمل الدعوي”. وقد منحته كلية أصول والدعوة قسم الدعوة والثقافة الإسلامية جامعة الأزهر بالقاهرة درجة الماجستير، بتقدير ممتاز.
أطروحة الدكتوراه للباحث/ علاء علي محمود شكر. بعنوان: ” حركة كولن التركية وجهودها وأثرها في الدعوة إلى لله تعالى”. وقد منحته كلية أصول الدين والدعوة، فرع جامعة الأزهر بالمنوفية، درجة العالمية الدكتوراه بتقدير مرتبة الشرف الأولى.
أطروحة الدكتوراه للباحثة/ نوسة السيد محمود السعيد، بعنوان: “فتح الله كولن وآراؤه الكلامية والفلسفية”. وقد منحتها كلية الدراسات الإسلامية والعربية قسم العقيد والفلسفة فرع جامعة الأزهر بالمنصورة، درجة العالمية الدكتوراه بتقدير مرتبة الشرف الأولى.
أطروحة الدكتوراه للباحث/ محمد سعد خليل حماد. بعنوان: “منهج تجديد الفكر الإسلامي بين بديع الزمان سعيد النورسي ومحمد فتح الله كولن”. وقد منحته كلية دار العلوم قسم الفلسفة الإسلامية جامعة القاهرة درجة الدكتوراه بتقدير مرتبة الشرف الثانية.
بقلم: د. أبوزيد عبد الرحيم
[1] كولن: نحو عقيدة صحيحة ص 13.
[2] كولن: أسئلة العصر المحيرة ص 95.
[3] ونحن نبني حضارتنا ص 174.
[4] أبو الحسن الأشعري: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ص 209.
[5] ونحن نبني حضارتنا ص 174.
[6] ينظر: أبو الحسن الأشعري: الإبانة في أصول الديانة ص 26 والفخر الرازي: اصول الدين ص 146.