بقلم: محمد عبيد الله
برلين (زمان التركية) يؤكد محللون أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عاد من جولته الغربية إلى تركيا خاوي الوفاض، دون أن يجني شيئًا مما كان يبحث عنه لدى كل من الولايات المتحدة التي زارها للمشاركة في اجتماع للجمعية العامة للأمم المتحدة وألمانيا التي أجرى زيارة رسمية لها استمرت ثلاثة أيام.
أردوغان كان حريصًا على انتزاع موعد للقاء مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وإن حاول إخفاء ذلك في تصريحاته الإعلامية، وقد بدا ذلك جليًا عندما أثار إعلام “السراي” ضجة كبيرة لأن أردوغان استطاع اللقاء مع ترامب بضع دقائق على غير موعد في ردهة الجمعية العامة للأمم المتحدة بمدينة نيويورك. لكن هذا اللقاء السريع لم يكن من شأنه تسوية القضايا والمشاكل العالقة والعاجلة بين الطرفين، إذ كان أردوغان يسعى للحصول على وعد من إدارة ترامب لتخفيف وطأة الأزمة الاقتصادية التي طفت إلى السطح منذ مطلع العام الحالي أو الحيلولة دون فرضها مزيدًا من العقوبات الاقتصادية على أقل تقدير. بل كان هناك أكبر من ذلك وهو أنه كان يرغب في التفاوض مع ترامب من أجل منع اتساع دائرة التهم الموجهة إليه وإلى مسؤولين أتراك وأفراد من عائلته من قبل إمبراطور الذهب التركي الإيراني الأصل رضا ضراب حول تأسيس شبكة دولية لاختراق العقوبات الأمريكية على إيران. غير أن زيارة أردوغان للولايات المتحدة –إن لم تكن هناك اتفاقات سرية- لم تحقق أيا من هذه الأهداف.
رسالة إلى صناع القرار
خروج أردوغان من قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة أثناء كلمة الرئيس ترامب يدل على أن اللقاءات خلف الأبواب المغلقة لم تجرِ كما يشتهي ويريد. لكنه لم يهمل أن يلتقى ممثلي عديد من المنظمات اليهودية / الإسرائيلية على هامش اجتماعاته، بعيدًا عن عدسات الكاميرات، لبثّ رسالة إلى صناع القرار في العالم بأنه ما زال يتمتع بشرعية دولية، كما دأب على ذلك في كل زيارة يجريها لواشنطن. وإن أردت أن أقول بشكل صريح فإنني لا أرى حرجًا في لقاء أردوغان باللوبي الإسرائيلي ما دام فاعلاً غير مفعولٍ، لكن المشكلة تكمن في أنه يجيز ذلك لنفسه ويحرمه على غيره، حيث يتهم جميع خصومه من السياسيين أو المدنيين بموالاة إسرائيل وأمريكا، بل يخرجهم من الملة أحيانا!
تسليم اقتصاد تركيا للإدارة الأمريكية
ولما يئس أردوغان من إدارة ترامب اتخذ خطوة مفاجئة وسلم إدارة تركيا الاقتصادية لشركة “ماكينزي أند كومباني” الأميركية. واتهمته المعارضة التركية بتسليم اقتصاد تركيا للإدارة الأمريكية بصورة غير مباشرة، وذلك على الرغم من أنه يتهم الولايات المتحدة بالوقوف وراء تحقيقات الفساد والرشوة في 2013، وتدبير الانقلاب الفاشل في 2016، وما سماه الحرب الاقتصادية الراهنة. واعتبرت المعارضة أيضا إسناد إدارة تركيا الاقتصادية إلى شركة أجنبية إعلانا رسميا عن إفلاس البلاد اقتصاديا وأن إدارة أردوغان جاهزة لفعل أي شيء للخروج من هذا المأزق. لكن خبراء اقتصاديين، منهم مراد مراد أوغلو من صحيفة “سوزجو”، يرون أن هذه الخطوة لن تستطيع إنقاذ أردوغان ومنع وقوع أكبر أزمة اقتصادية في تاريخ تركيا؛ لأن الأسباب السياسية التي أوجدت الأزمة لا تزال موجودة، وهذه الأسباب ضرورية لبقاء أردوغان في السلطة!
ألمانيا لا ترى في زيارة أردوغان تطبيعًا للعلاقات
أما زيارة أردوغان لألمانيا فلم تكن بأحسن حال من زيارته لواشنطن. فهو كان ينتظر وعودًا اقتصادية، ويأمل في ترميم شرعيته المنهارة في الداخل التركي والحصول على موافقة من المسؤولين الألمان على سياساته المحلية والإقليمية بالظهور معهم في المربع الواحد. غير أن أردوغان أبدى موقفًا في مباحثاته مع الجانب الألماني دل على أنه لن يتخلى عن سياساته القمعية في الداخل التركي. فالمأدبة التي أقامها الرئيس الألماني لشرف أردوغان شهدت توترًا ملحوظًا؛ إذ لما انتقد فرانك فالتر شتاينماير انتهاكات حقوق الإنسان في تركيا غضب أردوغان وقال: “إن الذي تسميه مثقفين وصحفيين إرهابيون!”، على حد قوله. وأكد الرئيس الألماني فيما بعد أن زيارة أردوغان لبلاده لا تعني تطبيع العلاقات مع تركيا.
فشل ذريع لأردوغان
أما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل فهي كذلك خيبت آمال أردوغان لما رفضت طلبه المتعلق بإعلان حركة الخدمة تنظيمًا إرهابيًّا، وأكدت أن الحكومة التركية لم تقدم حتى اليوم أدلة مقنعة حول وقوف هذه الحركة وراء الانقلاب الفاشل في عام 2016، كما سبق أن أعلنت المخابارات الألمانية. كما أنها نفت وصف الإرهاب عن رئيس تحرير صحيفة “جمهوريت” سابقًا “جان دوندار”الذي غادر إلى ألمانيا بعد اعتقاله بضعة أشهر في تركيا بتهمة نشر مقاطع فيديو تكشف نقل المخابرات التركية السلاح إلى الجماعات الجهادية في سوريا، ثم الإفراجِ عنه قيد المحاكمة. ولما فشل أردوغان في إقناع السلطات الألمانية باتهاماته ضد المتعاطفين مع حركة الخدمة خاصة والمعارضين الأتراك عامة قال: “يجب علينا أن نضع الاختلافات جانبًا ونركز على المصالح المشتركة!”. وهذه العبارة تكشف أن الذي يهمّ أردوغان هو “المصالح” بالدرجة الأولى، أما إقناع العالم باتهاماته هذه فيأتي بالدرجات المتأخرة، لأنها أصلاً مختلقة لـ”لاستهلاك الداخلي” فقط.
ثم أدلى أردوغان خلال رحلة العودة إلى تركيا بصريحات مثيرة حاول فيها تقديم رسالة إلى الشارع التركي مفادها أنه لم يرجع من ألمانيا إلى بلاده بخفي حنين! إذ ادعى أنه قدم إلى السلطات الألمانية خلال زيارته قائمة تضم أسماء 136 من “الإرهابيين” -المعارضين الأتراك- طالبا إعادتهم إلى تركيا. إلا أن السلطات الألمانية أعلنت مساء اليوم ذاته أنها لم تتسلم شيئًا من هذا القبيل! فوق ذلك أكدت ألمانيا أن عدم التواصل بين السلطات التركية وصل إلى مستويات خطيرة، وفق ما ورد في النسخة التركية من الإذاعة الدولية لألمانيا “دوتشة فيلة”.
وإذا أضفنا إلى كل ذلك اتخاذ السلطات الألمانية قرارا بإيقاف مبيعات العربات المدرعة وقطع غيار الدبابات إلى تركيا وإلغاء البرلمان الأوروبيّ مساعدات مالية بقيمة 70 مليون يورو بسبب عدم تحقيق الإدارة التركية أي تقدّم في مجال سيادة القانون والديمقراطية وحرية الصحافة وحماية حقوق الإنسان، فإنه يمكن أن نقول إن “السفر الغربي” لأردوغان باء بفشل ذريع.
أردوغان بين فكّي كماشة
ولا شك أن إغلاق الأبواب الغربية في وجه أردوغان سيكون له نتائج لن تصب في مصلحة تركيا وشعبها. إذ سينعزل أردوغان كليًا عن العالم الغربي وسيلقي بنفسه وبلاده في الحاضنة الروسية الإيرانية أكثر من السابق، وسيتجلى ذلك في تنفيذه سياسات موالية للنظام السوري بقيادة بشار الأسد، وهو الأمر الذي سيزعج المعارضة السورية والجماعات الجهادية وتيارات الإسلام السياسي. أما الدول الغربية فمن المرجح أنها ستفتح كل الملفات التي تمتلكها عن أردوغان لممارسة الضغط عليه جعله يستسلم لسياساته في الداخل التركي والمنطقة.
وكما قلنا في مقال سابق لنا فإن “وضع أردوغان صعب للغاية، إذ وضع نفسه بسياساته غير الحكيمة بين فكّي كماشة كل من المعسكرين الأمريكي الغربي والروسي الإيراني، ولن يجد لنفسه بعد اليوم مكانًا في أحد المعسكرين على حد سواء بعد تذبذبه المتواصل بين الطرفين وإثباته بالفعل أنه شريك غير موثوق”.