ولقد قامت الباحثة في علم البحيرات (Limnoloji) الدكتورة “كوته سيدل”، بأبحاث استمرت عشرين عامًا، لتكتشف نتائج مدهشة؛ ففي إحدى التجارب قامت بملء خزانات خرسانية طولها خمسة أمتار بالحصى، وأفرغت بها ماء ملوّثًا بالبكتيريا، ثم غرست في الحوض مجموعة من نبات القيصوب (الغاب)، وبعد ساعتين فقط قام القيصوب بالقضاء على 70% من بكتيريا “كولي”، كما قضى على 40% من بكتيريا المكورات المعوية -والتي تسمى بالبكتيريا الخارقة- وبكتيريا السالمونيلا.
ولقد وضح المختصون أن هذه النتائج، نابعة من وجود مواد تعمل كمضادات حيوية في جذور نبات القيصوب “البوص”، والعجيب أنه لا يفرز تلك المضادات الحيوية لحماية نفسه فقط من البكتيريا، ولكنه يفرزها -أيضًا- لحماية محيطه البيئي.
والحسابات التي أجريت في كل من نهر “ألبا” ونهر “رون” في ألمانيا، كانت تثير الدهشة؛ فخلال ثلاث ساعات فقط من وضع مجموعة من نبات القيصوب داخل النهر، تم القضاء على 3% من بكتيريا السلامونيلا الضارة التي تعيش في النهر، كما تم القضاء على 20% من بكتيريا كولي -وتسمى بالبكتيريا الإشريكية القولونية- المنتشرة داخل مياه النهر. وبجوار هذه النتائج العجيبة فلنبات القيصوب “الغاب” مميزات محيرة تجعله يتفوق على كل محطات تصفية المياه الموجودة الآن، بل تجعلنا نعيد النظر في منظومة تصفية المياه، فنبات القيصوب يقوم بتصفية المياه من المواد الصناعية الدقيقة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف يمكن للنباتات البسيطة تلك، أن تقوم بوظائف تصفية المياه المتقدمة، فتحول المرافق ومحطات تصفية المياه المتطورة التي أنشأها البشر بملايين الدولارات، وشارك في بنائها وتطويرها الآلاف، إلى أبنية متواضعة لا تقدر على منافسة النظام الذي يعمل به نبات القيصوب؟
فلا يمكن تدمير النفايات الصناعية بالوسائل الكيميائية أو الميكانيكية، لأن هيكل بنيتها يتصف بالقوة والتعقيد. ولأن هذه النفايات دقيقة الحجم، وبناءها الكيميائي قوي للغاية، فهي قادرة على المرور عبر المرشحات دون عوائق. إلا أن الجدران الجانبية لنبات القيصوب، وبعض الأجزاء الموجودة في جذوره، تستطيع أن تجمع كل هذه النفايات الدقيقة والمستعصية، وتقوم بتخزينها، ونقلها إلى قعر الماء..
وهذا يكشف لنا لماذا تتم زراعة نبات القيصوب في المسطحات المائية؛ فهو عبارة عن نظام بيولوجي لتصفية وتحلية المياه. والعجيب أنه كلما تشعبت جذور نبات القيصوب زادت كفاءة الماء، وهذه العملية يقوم بها حتى في موسم الشتاء طالما لم تتساقط الثلوج.
إننا كإنسانية وبعد الطفرة الصناعية التي قمنا بها، زادت ملوثات المياه، بل أصبحت الملوثات المائية شديدة السمية، وتؤثر على التوازن البيئي للمياه.
فالملوثات الصناعية تحتوي على بعض المعادن، مثل النحاس، الزئبق، الرصاص، الكادميوم.. وكذلك المواد المشعة، والمواد السمية.. والمدهش أن نبات القيصوب زوِّد بالقدرة على تصفية المياه من تلك الملوثات التي لم يعرفها النظام البيئي إلا مؤخرًا.
ولقد أثبتت التجارب التي أجريت في مركز أبحاث المواد النووية والمشعة في مدينة “كارلسوره” بألمانيا، أن نبات القيصوب لديه قدرة فائقة على تصفية الطين والتربة المصابة بالإشعاع؛ فلقد تعافت التربة وأنتجت محاصيل نبات الخس والفجل.
كما يقوم نبات القيصوب بتحليل مادة الفينول شديدة السمية بصورة جزئية؛ حيث يقوم بتفتيت جزئياتها وإطلاقها في الهواء. ولقد أثبتت الأبحاث أن القيصوب يستطيع تحمل ضعف السمية التي تتحملها الأسماك.
بل والأعجب من ذلك، قدرة القيصوب على تصفية الماء الملوث بالزيوت البترولية، حيث أَثبت فاعلية كبيرة في هذا الخصوص. وللتأكد من هذه الخاصية، قامت الدكتورة “كوته سيدل” وفريقها، بإضافة جرام واحد من مادة الديزل على لتر ماء، ووضعوا فيه نبات القيصوب، ليكتشفوا أنه خلال ثلاث دقائق فقط، تم تصفية لتر الماء من الديزل.
وطبقا للأبحاث التي أجراها العلماء في مدينة “كرفل” بألمانيا، تم التوصل إلى أن الماء المصفى بواسطة القيصوب، يصل نقاؤه لمستوى ماء الشرب. ولقد كرمت الدولة الألمانية العالمة “كوته سيدل” على هذه النتائج المهمة التي توصلت إليها.
وفي مواسم الصيف يتوافد الآلاف من البشر على شواطئ نهر “إيجسل”، وتتلوث المياه بصورة كبيرة بسبب هذه المجموعات من البشر، إلا أن نبات القيصوب المزروع على مساحة 400 متر، يقوم بتنقية الماء لدرجة أنه يصبح صالحًا للشرب.
وهكذا نجد أن نبات القيصوب (الغاب)، قد وُهب قدرة على تصفية الماء تفوق قدرات محطات تصفية المياه، وأن هذا النبات العجيب لم يوجد عبثًا في الطبيعة، بل خُلق ليحافظ على التوازن داخل البيئة بكل بساطة ودون أن يُشعِر به أحد.
(*) بقلم / تونجاي جليك بيلاك كاتب وباحث تركي. الترجمة عن التركية: صالح القاضي.