تقرير: محمد عبيد الله
لندن (زمان التركية) – كتب أرطغرل جوناي، الذي شغل منصب وزير الثقافة والسياحة في تركيا بين أعوام 2007 – 2013 حيث كان الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء، مقالاً مثيرًا حاول فيه تحليل السياسة التركية الخاصة بالأزمة السورية منذ بدايتها حتى اليوم، مع النتائج المريرة لتي تمخضت عنها.
ولفت الوزير السابق في مقال له نشره موقع “أحوال تركية” تحت عنوان “تركيا تعود من الحرب السورية بخُفّي حُنين” إلى أن “من يحشد جنوده بشكل خاطئ في بداية المعركة، يظل يعاني جرَّاء ذلك حتى نهاية الحرب، وهذا بالفعل ما أقدمت عليه تركيا منذ بداية القضية السورية؛ فدفعت، ولا تزال تدفع، ثمن حماقاتها هناك منذ سبع سنوات. ولا أحد يعرف ما الذي ستتحمله تركيا في المرحلة المقبلة كذلك”.
وأعاد جوناي إلى الأذهان الأحداث التي سبقت ظهور المشكلة السورية قائلاً: “شهدت بعض الدول العربية في شمال أفريقيا، تزامناً مع انقضاء السنوات العشر الأولى من القرن الحادي والعشرين، ظهور حركات شعبية نادت بالتخلص من الحكام الديكتاتوريين في تلك الدول. وبالفعل تمكنت هذه الحركات، خلال فترة وجيزة، من خلع بن علي في تونس، ومبارك في مصر، والقذافي في ليبيا، وهو ما عُرف في ذلك الوقت باسم “الربيع العربي”، وخُيِّل لهذه الدول أنها بدأت بذلك تتنسم أجواء الديمقراطية السليمة”. ثم استدرك قائلاً: “ولكن، وكما يقولون، ليس كل ما يتمناه المرء يدركه”.
وتابع جوناي الذي كان من الرموز الليبرالية التي استعان بها أردوغان في البداية لتوسيع شعبية حزبه لدى الشرائح الديقراطية والليبراية: “في الحقيقة فقد تم القضاء على الحُكّام الديكتاتوريين، الذين حكموا هذه البلاد لعشرات السنين، ولكن لم تشهد أي من هذه البلاد حتى الآن ذلك الاستقرار الذي كانت تنشده، أو الديمقراطية التي طالما خططت لنيلها؛ فلم يمر الكثير من الوقت حتى تعرضت هذه البلاد لانقضاض جديد على الديمقراطية، وسادت حالة من الهرج والمرج أرجاء هذه البلاد، ولم تنعم بالاستقرار المنشود؛ بحيث صار من اللائق أن نطلق على ما حدث هناك اسم الخريف العربي، وليس الربيع العربي”.
ثم تطرق جوناي الذي فصل طريقه مع حزبه “العدالة والتنمية” لاعتراضه على تدخّل حكومة أردوغان في قضية “الفساد والرشوة” التي انطلقت عام 2013، إلى تأثير عاصفة “الربيع العربي” على سوريا ومواقف دول المنطقة من الأزمة السورية: “في تلك الأثناء تعرضت سوريا، هي الأخرى، لرياح هذا الربيع الذي لم تزدهر أزهاره إلى الآن. في هذه المرة، وقفت السعودية والولايات المتحدة الأميركية وشركاؤهما الأوروبيون يدعمون تحوُّل سوريا نحو الديمقراطية؛ فقد عقدوا العزم على التخلص من نظام بشار الأسد؛ ليجعلوا الحكم في سوريا “حكماً ديمقراطياً”. وعلى الجهة الأخرى، لم تكن تركيا أيضاً بمعزل عما يجري في سوريا. ربما كانت تتصرف بشيء من الحذر في البداية مع مجيء محمد مرسي في مصر، وخلع القذافي عن حكم ليبيا، ولكنها لم تتردد أبداً في الخوض بكل ثقلها في المعترك السوري”.
وفي إطار تعليقه على “السياسات الرومانسية” التي طبقتها حكومة أردوغان في سوريا، قال جوناي: “كانت الحكومة التركية ترد على الأصوات التي انتقدت تدخلها في سوريا حينذاك بقولها ’سيرحل بشَّار عن حكم سوريا خلال ستة أشهر‘، وسيحل مكانه نظام جديد، وكان من المستحيل، حسب رأيهم، ألا تحجز تركيا لنفسها مقعداً على طاولة اختيار الرئيس الجديد. ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن؛ فلم يكن من السهولة بمكان أن يتكرر النموذج العراقي في التسعينيات- من خلع للرئيس العراقي صدام حسين، وما أعقبه من أحداث؛ فلم تقف سوريا وحيدة مكتوفة الأيدي في هذه المعركة؛ فسرعان ما انضمت إليها أطراف عالمية أخرى مثل روسيا وإيران اللتين تربطهما بنظام الأسد علاقات وطيدة تضرب بجذورها إلى سنوات بعيدة. وعندما تنضم روسيا والصين، وهما من الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، إلى جانب النظام السوري؛ فهذا يعني أنه سيكون من الصعوبة بمكان أن تصل تركيا إلى ما كانت تصبو إليه”.
وأشار جوناي في مقاله إلى الإمكانات التي كانت تمتلكها حكومة أردوغان في بدايات الأزمة والتي كانت قادرة على حل الأزمة لو وظفتها بصورة مثمرة، لكنها خسرت هذه القدرة بسبب فقدانها الحياد وتحولها إلى طرف من النزاع السوري، حيث قال: “كانت تركيا هي الدولة الوحيدة التي يمكنها أن تتفاوض، وتعقد لقاءات مع كافة الأطراف تقريباً في منطقة الشرق الأوسط في بداية اندلاع الأزمة هناك في عام 2011، ولكنها، وللأسف، اختارت لنفسها أن تكون طرفاً في النزاع بدلاً من أن تُعزِّز من مكانتها، وتزيد من احترام العالم لها بالاستمرار في نهجها الأول. وسقطت، على النقيض من ذلك، في هوَّة عميقة بسبب “استراتيجية خاطئة” صوَّرت لها أنها ستكون بذلك لاعباً مؤثراً في إعادة رسم خريطة المنطقة العربية، بدلاً من اللهث خلف الاتحاد الأوروبي في طريق وعر غير مأمون العواقب”.
تعرض جوناي بعد ذلك للنتائج المريرة والعواقب الوخيمة التي أدى إليها موقفُ حكومة أردوغان من الصراع في سوريا، إلى جانب الأثمان الباهضة التي دفعتها ولا تزال تدفعها تركيا جراء ذلك، بقوله: “وها هي الحرب السورية، التي قالوا إنها ’ستنتهي خلال ستة أشهر‘ تدخل عامها السابع. لقد هجر خلال هذه الفترة ملايين السوريين أراضيهم قاصدين الأراضي التركية والأردنية، وهاجر الأغنياء إلى دول أوروبا، وسقط كثير من الفقراء والمعدمين والضعفاء وأصحاب الإعاقات موتى في طريق هجرتهم من سوريا. وفي الوقت الذي وضعت فيه دول مثل السعودية وقطر على عاتقها مسؤولية إحلال الديمقراطية في سوريا من جديد، وجدنا أن أياً من هاتين الدولتين لم تستقبل لاجئاً واحداً، وفي المقابل كانت تركيا الطرف الوحيد الذي دفع أثماناً باهظة، مادية كانت أو معنوية، بعد تورطها في حرب تدور رحاها في الداخل السوري؛ فتحملت أعباء استقبال ملايين اللاجئين، وتزايدت الحوادث الإرهابية على أراضيها، وتعكّر صفو الأمن والسلم العام في المجتمع التركي، ولم تجنِ أية منفعة، سوى أنها رجعت بخفي حنين من هذه الحرب”.
نوه جوناي أيضًا بخطء السياسات العنصرية التي اتبعتها حكومة أردوغان وابتعادها عن التعامل مع المجتمع الدولي في تسوية القضية السورية، إذ أكد أن تركيا لو نأت بنفسها عن التورط في الحرب الداخلية في سوريا، وعارضت لجوء المتمردين إلى خيار العنف لحسم صراعهم مع النظام السوري، واستخدمت لغة وسطية في الأمم المتحدة وفي كافة المحافل الدولية الأخرى؛ من أجل الحفاظ على حقوق أكراد سوريا، الذين تعرضوا لهجمات من النظام السوري ومن الجهاديين على حدٍ سواء، بقدر دفاعها عن التركمان هناك، لكان في هذا خيرٌ كثيرٌ لها، وللمنطقة بأسرها. أما على الصعيد العالمي، فكانت تركيا سترفع من مكانتها ومن احترامها بين دول العالم.
وفيما يتعلق بالسياسات الراهنة لتركيا أردوغان، رأى أرطغرل جوناي أن السياسة الخارجية التركية انحصرت اليوم في القيام بزيارات مكوكية بين موسكو تارة وواشنطن تارة أخرى؛ بحثاً عن مخرج للمشكلات التي وقعت فيها تركيا بسبب تورطها في مشكلات الجيران، وما عانته من مشكلات جراء هذا. لقد وصلت الحرب الداخلية في سوريا إلى أبعاد خطيرة؛ فإلى جانب تسببها في معاناة الملايين، فقد صارت معضلة أمنية صعبة بالنسبة لتركيا يمكن وصفها بالتعبير الدارج “مسألة بقاء”. وكما ذكرت، هناك مقولة شهيرة لأحد القادة المشهورين: من يحشد جنوده بشكل خاطئ في بداية المعركة، يظل يعاني جرَّاء ذلك حتى نهاية الحرب. وهذا ما فعلته تركيا منذ بداية الأحداث في سوريا، ولا زالت تدفع ثمنًا باهظًا منذ سبع سنوات هناك بسبب سياستها الخاطئة هناك. ولا أحد يعرف ما الذي ستتحمله تركيا في المرحلة المقبلة كذلك”.
واختتم أرطغرل جوناي، وزير الثقافة والسياحة الأسبق في حكومة أردوغان (2007 – 2013) مقاله في موقع “أحوال تركية” قائلاً: “الدرس المستفاد من هذه الأزمة برمتها أن السياسة الخارجية أمر صعب وشاق، يتطلب الدراية الكاملة بالأمور، والخبرة والمهارة مع تحري الواقعية. أما الخيال والحماسة والعناد فتلك ضروب من الجهل”.