علاوة على أن النية أساس الأفعال جميعها، فهي وسيلة لكل الاتجاهات والميول التي ينسبها الإنسان لنفسه. كما أن أمتن قاعدة للإرادة وأسلم أساس لقابلية الإنشاء في الإنسان هو النية، بل نستطيع أن نقول إن كل شيء في الكون ولدى نفس الإنسان اعتباراً من بدايته وامتداداً إلى استمراره ودوامه متعلق بالنية. فبدون الاستناد إليها لا يمكن لأي شيء أن يكتسب وجوداً ولا يمكن له الاستمرار.
يبدأ كل شيء كتصور في الذهن، ثم يتم الانتقال إلى التخطيط ثم إلى تحقيقه بعزم وإصرار. فدون وجود هذا التصور الأولى والنية لايمكن البدء بأي عمل، كما أن أي نية لا يعقبها عزم وقرار لا يؤدي إلى أي نتيجة وتبقى عقيمة. هناك أشياء كثيرة تشير إلى القوة التي تملكها النية. غير أن العديدين ممن لا يملكون المقدار الكافي من الشعور بالحياة لا يعرفونها.
والنية مهمة أيضا من ناحية حسنات الإنسان أو سيئاته، فهي من هذه الناحية إما إكسير وشفاء له، أو طوفان عات يقوم بسلب كل أعمال الإنسان وجعله أثراً بعد عين. فكم من عمل صغير كحبة قمح تضاعف بالنية الصالحة فأصبح ألف سنبلة، أو قطرة انقلبت إلى نهر وإلى سيل. وكم من عمل بضخامة الجبال بقي بسبب نية غير صالحة دون ثمرة وعقيما.
الركوع والسجود والصوم وحتى الابتعاد عن بعض الأمور المباحة إن تم أداؤها بشعور تام من العبودية يرفع العبد إلى درجات عليا في عوالم سامية ويجعله سلطاناً. بينما قد يتم إجراء نفس الحركات ونفس الأعمال وأضعافها، فلا يحصل فاعلها إلاّ على النصب والتعب إن لم يسبق ذلك كله بنية صادقة. إذن فعلى الإنسان -في سبيل نيل الرضا الإلهي- ترك بعض الأمور إضافة إلى قيامه بإنجاز بعض الأعمال. كل ذلك لكي يكون لائقاً بمخلوق في أحسن تقويم، وكل عمل أو جهد خارج الرضا الإلهي لا يفيد شيئاً.
النية الحسنة إكسير يحوّل العدم وجوداً، والنية السيّئة تحول الوجود عدماً وتمسح تأثيره. فكم من قتيل مضرج بدمائه في غزوة تدحرج إلى الجحيم، وكم من محتضر على وسائد لينة طار بطهر نيته إلى الجنة. فإلى جانب الذين قاتلوا الأشرار في سبيل مستقبل إيماني زاهر نرى العديد ممن دخلوا المعارك في سبيل مصالحهم الشخصية؛ فبينما يرتفع الأولون إلى أعلى عليين، يهبط الآخرون إلى أسفل سافلين.
النية مفتاح سحري يستطيع أن يقلب حياتنا المؤقّتة هذه إلى حياة خالدة أو إلى حياة شقاء وعذاب. والذين يستعملون هذا المفتاح استعمالاً جيداً لا تبقى في حياتهم ناحية مظلمة، بل ستشع حياتهم نوراً ويصلون إلى الحياة المطمئنّة الخالدة. ذلك لأنه عندما تؤدى الواجبات اليومية والأسبوعية والشهرية بإخلاص فإن الفضائل المترتبة على هذه الواجبات والثواب لا تنحصر ضمن زمن الأداء، بل ستحتضن كل دقائق وثواني الحياة وتشملها بتأثيرها. الجندي المتهيّئ للجهاد سينال حصته من ثواب المجاهد حتى خارج أوقات الجهاد الفعلي؛ كما أن الحارس الذي يتناوب في حراسة حصن أو موقع عسكري سينال ثواب عبادة عابد طوال شهور وشهور.
فهذا هو السر في أن المؤمن يستطيع في حياة مؤقتة الوصول إلى السعادة الأبدية وإلى الخلود. أما المنْكِر فيكون من نصيبه الشقاء والندَم الأبدي. وإلا كان من المفروض حسب اقتضاء العدالة الظاهرية أن يثاب الإنسان بقدر عبادته وفضيلته، أو يعاقب بقدر ضلالته وآثامه. أي أن يبقى الإنسان الصالح في الجنة بعدد السنين التي عاشها صالحا، وأن يبقى الإنسان الآثم في جهنم بعدد السنين التي عاشها في الدنيا آثما، بينما يكون الخلود سواء للصالح أو الآثم هو نقطة الوصول الأخيرة التي لا يمكن التفكير فيما وراءها.
وهكذا تكمن السعادة الأبدية والشقاء الأبدي في نية الإنسان. فكما يكون فكر الإيمان الأبدي والاستقامة وسيلة إلى السعادة الأبدية يكون فكر الكفر الأبدي والانحراف وسيلة إلى الشقاء الأبدي.
إذن فإن الأساس في هذا الموضوع ليس الحياة المحدودة والمؤقتة التي يعيشها الإنسان، بل نيته المتوجهة إلى المستقبل.
الإنسان الذي يمتلئ قلبه بشعور العبودية في الدقائق الأخيرة من حياته لكونه عازماً قضاء عمره في هذا الاتجاه -وإن بلغ هذا العمر ألف عام- يعامل في ضوء هذا العزم وهذه النية، وتتقبل نيته كعمل حقيقي. لذا كانت «نية المؤمن خير من عمله»[1] كما أن الملحد إن كانت نيته في لحظاته الأخيرة متوجهة إلى دوام هذا الإلحاد والإنكار حتى وإن استمر عمره ألف أو مائة عام.. مثل هذا الملحد يعامل أيضا على ضوء نيته هذه ويعاقب على ضوئها.
إذن فإن الأساس في هذا الموضوع ليس الحياة المحدودة والمؤقتة التي يعيشها الإنسان، بل نيته المتوجهة إلى المستقبل. وتجليات هذه النية والإيمان بالسعادة الأبدية ونيلها -وإن كانت تمتد لملايين السنين- يهب الجنة الخالدة للمؤمن ويعطي جهنم الخالدة للكافر.
وكما سيلقى المنكِر والملحد الذي يضم الكفر في جوانحه عن علم وعن سابق قصد عقابه، فإن الشيطان الذي يكون سبباً في الكفر والآثام سيلقى عقاباً ليست له نهاية. والحقيقة أن للشيطان -حسب مستوجبات خلقه- واجبات وخدمات كثيرة أيضا يقوم بأدائها. إذ لا ينكر أثره في توسيع الكثير من قابليات واستعدادات الإنسان وتطويرها وفي تصفية المعادن الصلبة الموجودة في فطرة الإنسان وفي ظهورها، بل حتى في بقاء الروح والقلب على أهبة الحذر والاستعداد على الدوام.
أجل! إنه يتسلط على الفرد وعلى الجماعة وينشر بذوره السامة في نفوسهم ويحاول أن يجعلها مزرعة للآثام. وأمام هذه الجهود المبذولة من قبَله لسوق النفوس نحو الانحراف تستيقظ المشاعر المعنوية لدى الإنسان، وتصبح في حالة تأهب، تماماً مثلما تتأهب وسائل الدفاع في الجسم ضد الجراثيم. وهذا يؤدي إلى نموّ وتطور اللطائف الإنسانية وقوتها، لأنه يدفع الإنسان إلى الالتجاء إلى الله تعالى مرة بعد مرة من شر عدوه الأبدي. وهذا يعني كسباً كبيراً بالنسبة للحياة القلبية والروحية للإنسان مقابل احتمال ضئيل من الضرر. ومثل هذا التأثير المعنوي يثير روح الكفاح لدى الإنسان ويدفعه لليقظة والحذر. وكم أدى هذا إلى تصفية معادن ثمينة وظهور أولياء أبطال مجاهدين للنفس.
ومع أن الشيطان كان وسيلة لظهور مثل هؤلاء الأشخاص الممتازين وإكسابهم مراتب عُليا إلاّ أنه لا يستحق مكافأة في هذا الخصوص، ذلك لأنه لم يفعل ما فعله لكي يتسامى هؤلاء الأشخاص من المتفانين في حب الله، بل لكي يغرقوا في الآثام. إذن فنِيّة الشيطان سيئة وعمله سيء أيضا. لذا يتم التعامل معه على أساس نيته السيئة وعمله السيء وليس على أساس ما كان وسيلة إليه من سمو. نية الشيطان سيئة وكذلك عمله. فهو يدعو إلى العصيان عن سابق تصميم وإرادة: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ انْظُرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيتَنِي َلأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (الأعراف:12-16). فهذا العصيان الأول اختيار لطريق الكفر والعصيان عن شعور وقصد. أما قسَمه ويمينه بأنه سيغوي البشرية فهو أساس الدراما الإنسانية المستمرة دون توقف.
لذا فهذا العزم والتصميم للشيطان وإن أدى إلى يقظة بعض المشاعر لدى الإنسان نتيجة هذه العداوة ويسوقه إلى بعض الفضائل، فإنه لا يُكسب الشيطان أي مكافأة. لذا نستطيع أن نقول كخلاصة، إن النية هي كل شيء بالنسبة للمؤمن، فهي التي تُكسب الحياة للسلوك الفردي، وهي التي تقلب حياة المؤمن إلى مزرعة تعطي مقابل الواحد ألفاً، وهي التي تفتح أبواب ونوافذ الخلود على حياة الدنيا المحدودة والقصيرة. كما أنها هي التي تهيئ الشقاء الأبدي والخسران الأبدي. «إنّما الأعمالُ بالنيات»[2]، والتعامل يكون حسب العمل.
بقلم/ فتح الله كولن