برلين (زمان التركية)ــ أجرت وكالة (دويتشه فيليه) الألمانية حوارًا مع ضابط البحرية التركي السابق، جعفر توبكايا، والذي جرى اعتقاله عقب انقلاب 2016 الفاشل على الرئيس رجب طيب أردوغان، ولكنه تمكن من الفرار، وقرر الخروج عن صمته وكشف خبايا هذه التجربة للغرب، دون أن يخاف من يد أردوغان الطويلة.
وقرر جعفر توبكايا التحدث نيابة عن جميع “الذين لا يستطيعون الوصول للصحافة ولا حتى مقابلة محاميهم أثناء وجودهم في السجن ولا يمكنهم إثبات براءتهم”، كما يقول ضابط البحرية، ويضيف بأنه “ليس خائفاً من أردوغان أو المخابرات التركية”، ويريد أن يعرف الغرب ما يحدث في تركيا.
توبكايا هو واحد من آلاف الضباط الأتراك الذين يتهمهم أردوغان بدعم رجل الدين التركي فتح الله كولن. ويتهم الرئيس التركي كولن، الذي يعيش في المنفى في ولاية بنسيلفانيا الأمريكية، بالوقوف وراء محاولة الانقلاب عليه صيف عام 2016. وشكل الضباط والجنود الذين يتدربون ويقيمون بمهمات خارج البلاد على وجه الخصوص، هدفاً لموجات الاعتقالات العديدة، التي تحدث في تركيا اليوم. وقد أمر أردوغان جميع ضباط الجيش تقريباً بالعودة إلى أنقرة من أجل “استجوابهم”. وفي معظم الحالات، كان ذلك حجة لإيقاع بهم واعتقال من يتهمهم بالتآمر.
الاستجواب تحول إلى اعتقال وسجن
اختار الكثيرون عدم الانصياع إلى طلب أردوغان والبقاء في الخارج دون أن يكون لديهم ما يسد رمقهم ويكفل معيشتهم. الحكومة التركية ردت بتحويلهم إلى ما يشبه المجردين من الجنسية عن طريق إبطال جوازات سفرهم.
لكن جعفر توبكايا، لبى دعوة أردوغان إلى اجتماع عاجل في أنقرة في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2016، وذلك انطلاقاً من إحساسه العميق بالواجب، كما يقول. وافترض بأن سيتضح بسرعة أن لا علاقة له بمحاولة الانقلاب أو حركة كولن. ويقول ضابط الناتو السابق: “لم أكن قريباً أبداً من حركة غولن”، ويضيف:” أنا شخص علماني، تربيتي غربية. أحترم جميع الأديان والمعتقدات، لكنني لا أنتمي لأي منها”. وبصفته ضابطاً بحرياً منذ فترة طويلة مع تصريح أمني كبير من الناتو، فقد شعر بالأمان ولم تكن زوجته ميسكور قلقة أيضاً عندما ودع الأسرة واعتقدت بأنها ستكون رحلة قصيرة.
“الاجتماع” خدعة
بعدها لم يروا بعضهم البعض لأكثر من ستة عشر شهراً. وكان “الاجتماع” المزعوم مجرد خدعة من أجل جر رجله إلى وزارة الدفاع، حيث تم إبطال جواز سفره وأعتقله رجال الشرطة. منذ تلك اللحظة وصفه زملاؤه السابقون بـ “الإرهابي”، زاعمين أنه أساء إلى أردوغان من خلال تغريدة له على حسابه على “تويتر”. وبالرغم من توضيحه أنه حتى ذلك الحين لم يمتلك حساباً قط على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”، إلا أن ذلك لم يساعد توبكايا.
تم احتجازه في البداية في صالة ألعاب رياضية تم تحويلها لسجن. وبعدها تم نقله إلى سجن سنجانSincan سيئ السمعة، يقول توبكايا، الذي كان ينام في نفس الملابس على الأرضية الإسمنتية لمدة اثني عشر يوماً وبالكاد يحصل على أي طعام. كان زملاؤه السجناء من كبار رجال الجيش والأكاديميين والقضاة ونشطاء المجتمع المدني وحتى من العاملين في المجال الطبي. لكن على الأقل لم يتعرض توبكايا للتعذيب الجسدي والنفسي، كحال السجناء الآخرين، الذي تعرضوا للضرب أثناء استجوابهم.
ويقول توبكايا أن زوجة أحد الضباط المعتقلين معه كانت تُستدعى دائماً للتحقيق ويتم تهديده بأطفاله. كما أُجبر سجين آخر على التوقيع على اعتراف تحت ضغط التعذيب بالصدمات الكهربائية.
في البداية وضع توبكايا جدولاً زمنياً في دفتر يومياته، في نهايته كانت مكتوبة كلمة “بروكسل”. كان يقوم بشطب كل يوم يمر عليه، لأنه كان يعتقد أن الأمر لن يستغرق سوى بضع أيام حتى يعود إلى بروكسل. لكن بعد مرور اليوم الـ 39 له في السجن توقف الضابط عن شطب الأيام.
الولاء لحلف الناتو قد يكلف الحياة
في أول جلسة تحقيق معه، كان من الصعب على توبكايا الوقوف أو التفكير من شدة الجوع. وتحول ولاؤه للناتو، الذي كان يعتقد بأنه حجر أساس في دفاعه عن نفسه، إلى جزء من “جريمته”. وقالت القاضية:” أنت تعمل لصالح الناتو، صحيح؟” أجبتها بـ “نعم” و قلت بأني أعمل هناك لصالح الجيش التركي في المقر الرئيسي وأن قائد الجيش التركي قد أمرني بذلك”. لكن لم أتمكن من إقناعهم بإطلاق سراحي. الموالاة للغرب وللناتو تعد جريمة كبيرة في تركيا اليوم، على حد تعبيرتوبكايا.
لم يمنحه الصبر والحفاظ على سلامته العقلية لأكثر من ستة عشر شهراً من الأسر سوى الرسائل والمكالمات الهاتفية مع زوجته وأطفاله.
في الأخير قيل له إن التحضير للمحاكمة سيستغرق وقتاً أطول، ربما لأنه لم يكن هناك أي دليل ضده، كما يعتقد توبكايا. بعدها تم الإفراج عنه شرط أن يعيش مع والديه ويزور مركز الشرطة بشكل أسبوعي. بعد ذلك حذره محاميه من وجود دلائل على احتمال اعتقاله مرة أخرى. وعندما وجد جواز سفر قديم له، لا يزال ساري المفعول لبضعة أشهر أخرى، يبدو أن الشرطة لم تنتبه له خلال عمليات التفتيش، قرر الهرب. لكنه لا يريد الكشف عن كيفية تنفيذه لذلك بالضبط، وذلك حتى لا يعرقل الطريق أمام من يريدون الفرار في المستقبل، ولكن مع الكثير من المساعدة والحظ، عاد توبكايا إلى شقته في بروكسل بعد أسبوع. واتصل بعائلته واستراح لبضعة أشهر. لكن ما رآه من فظاعات بحق السجناء الآخرين في السجن، لم يستطع نسيانه وأثر به أكثر مما حدث له شخصياً.
الحقيقة عبر تغريدات تويتر
بعد عودته قرر توبكايا نشر قصته للرأي العام، وأنشأ حساباً على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” شرح فيه بالتفصيل ما مر به وما لا يزال الآخرون يمرون به حتى الآن، ويقول بأن ما ينشره قد أحدث ضجة كبيرة ويقدر أنه يتلقى ردود فعل إيجابية بنسبة 90 في المئة على تغريداته على “تويتر”.
وتصفه الصحف التركية التي تديرها الحكومة بـ “الخائن” ، كما نُشرت تقارير تفيد بأنه وغيره من الضباط المعتقلين سيعقدون “اجتماعات تآمرية” في ألمانيا. وعن هذا يجيب توبكايا مبتسماً: “مع كل تغريدة أشعر بالراحة أكثر وأعرف أنهم خائفون من ذلك”. إنهم حكام أنقرة والحكومة التركية وحزب العدالة والتنمية والجيش الموالي لأردوغان.
الضباط الآخرين من حلف شمال الأطلسي، الذين تحدثت إليهم DW أعجبوا بتوبكايا، ولكنهم في الوقت نفسه قلقون على سلامته، ويقول أحدهم: “أنا لا أجرؤ على ذلك، إن يد أردوغان الطويلة تصل إلى كل مكان، ويكتشفون مكان عيشنا، ما نكتبه، ما نفعله وعندما يحصلون على الأوامر، فإنهم ينفذونها، ولهذا نحن نبعد أنفسنا عن الجالية التركية هنا في بلجيكا”.
كذلك عائلته علمت بالخطر، لكنها كانت دائما تؤيده في قراره. يقول توبكايا أنه لا يخاف ولا يندم على قراره. لا يريد الهرب من أردوغان. كان يفضل مقابلة الرئيس التركي ومن يقودون عمليات الاعتقال: “أريد أن أقابلهم وجهاً لوجه وأخبرهم أن ما يفعلونه خطأ”. ويختم بالقول: “نحن على الطريق الصحيح. يجب أن نكون أكثر شجاعة”.
يذكر أن الانقلاب الفاشل أسفر عن خضوع 402 ألف شخص لتحقيقات جنائية، واعتقال ما يقارب 80 ألفًا، بينهم 319 صحفيًا، وإغلاق 189 مؤسسة إعلامية، وفصل 172 ألفًا من وظائفهم، ومصادرة 3003 جامعة ومدرسة خاصة ومساكن طلابية، بالإضافة إلى وفاة نحو 100 شخصًا في ظروف مشبوهة أو تحت التعذيب أو بسبب المرض جراء ظروف السجون السيئة، وفرار عشرات الآلاف من المواطنين إلى خارج البلاد، وفق التقارير الأخيرة التي نشرتها المنظمات الدولية ومنها تقرير منظمة العفو الدولية مطلع شهر مايو/أيار 2018، علمًا بأن هذه الأرقام قابلة للتغيير نظرًا لاستمرار العمليات الأمنية بتهمة المشاركة في الانقلاب على الرغم من مرور عامين كاملين على وقوعها.