بقلم : ياوز أجار
برلين (زمان التركية) – يبدو أن الأزمة المندلعة بين واشنطن وأنقرة بسبب مكابرة نظام أردوغان وإصراره على احتجاز القس الأمريكي أندرو برونسون بتهمة الصلة بالانقلاب العسكري الفاشل الذي شهدته تركيا في 15 يوليو/ تموز 2016 ستلقي ظلالها على العلاقات الدبلوماسية بين البلدين “الحليفين” لأمد أطول مما يتوقع.
إصرار تركيا على احتجاز القس الأمريكي برونسون من خلال فرض إقامة جبرية عليه بعد السماح له بمغادرة السجن نابع من خوف الرئيس أردوغان من سقوط روايته الخاصة بمحاولة الانقلاب الفاشلة. إذ ادعى أردوغان أولاً أن الولايات المتحدة من دبرت هذه المحاولة من خلال حركة الخدمة، ومن ثم شرع في البحث عن أدلة تساند هذا الادعاء. لذا رأى القس برانسون المقيم في تركيا منذ سنوات رجلاً يصلح لإيجاد علاقة بينه وبين الخدمة من جانب، وبين الولايات المتحدة والانقلاب من جانب آخر لإثبات مدعاه.
ثم بادرت وسائل إعلام السلطة، وفي مقدمتها صحيفتا “ستار” و”تقويم”، إلى نشر أخبار وحكايات “مفبركة” عن علاقة هذا القس الأمريكي بالخدمة، زاعمة أنه “العقل المدبر للانقلاب الفاشل”، وأنه كان سيتولى منصب رئيس وكالة المخابرات المركزية “سي آي إيه” في حال نجاح الانقلاب في تركيا!
أما أهمية الإفراج الكامل عن القس برانسون فتعود إلى أن الولايات المتحدة “دولة كبيرة ذات سمعة عالمية” لا تسمح لأي دولة أن تنال منها من خلال اعتقال أبسط مواطنيها بسبب تهم لم يستطع نظام أردوغان أن يقدم أي دليل ملموس عليها رغم مرور أكثر من عامين على الانقلاب.
رد نظام أردوغان بالمثل على واشنطن بعد أن قررت الأخيرة مصادرة ممتلكات وزيري الداخلية والعدل للعبهما دورا بارزا في اعتقال القس برانسون. وقد أعلن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، بالتوازي مع تصريحات أردوغان النارية، أن “تركيا لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء عقوبات أمريكا على الوزيرين، وأن المشاكل بين البلدين لن يتم تسويتها طالما أن واشنطن سعت إلى تحقيق مطالبها بمثل هذه الطرق غير القانونية”، على حد تعبيره.
لكن الوزير ذاته تراجع عن هذه اللغة الحادة قبل أن يمضي على تصريحاته السابقة ثلاثة أيام فقط وزعم قائلاً: “نحن لم نكن نعلم باعتقال القس الأمريكي برانسون.. لم نكن نعلم من هو أصلاً. ولم نكن نعرف بأمر اعتقاله حتى طلبت السفارة الأمريكية منا التواصل معه في السجن. عملية اعتقاله تمت بناءً على شكوى من مترجمه الخاص به وبعض الشخصيات الأخرى. فما الثمرة التي نجنيها من وراء اعتقاله؟!”.
وغني عن البيان أن هذه التصريحات تتناقض مع المزاعم التي نشرها إعلام السلطة بعد اعتقال القس مباشرة من أنه على صلة بحركة الخدمة وأنه العقل المدبر للانقلاب. لكن المسئولين الأتراك، وعلى رأسهم كبيرهم أردوغان، معروفون بمناوراتهم وتراجعاتهم الحادة من مواقفهم.
تصريحات جاويش أوغلو “الناعمة”، وتأكيده على أن اجتماعه مع وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” في سنغافورة الأسبوع المنصرم كان إيجابيًّا وبنّاءً للغاية، توحي بأن نظام أردوغان سيزعم في نهاية المطاف أن حركة الخدمة هي التي اعتقلت القس الأمريكي للإضرار بعلاقات البلدين!
وهذا الأسلوب ليس غريباً على أردوغان، إذ كان افتخر أيامًا طويلة بأنه من أمر بإسقاط الطائرة الروسية عام 2015 وتحدى نظيره الروسي “فلاديمر بوتين” في البداية. ولما أدرك بعد فترة أن العنتريات لا تجدي نفعا على أرض الواقع زعم أن “الكيان الموزاي”، الوصف الذي كان يطلقه على حركة الخدمة آنذاك، من أسقطها لتدمير علاقات البلدين، ثم اعتذر لبوتين وأصبح حليفا له يستسلم له في كل صغيرة وكبيرة.
وهناك أمارات لاحت في الأفق تدل على أن أردوغان سيتبع الطريقة ذاتها للتخلص من أزمته مع إدارة دونالد ترامب، ملقيًا تهمة اعتقال القس الأمريكي على عاتق حركة الخدمة، كما دأب على ذلك، بعد أن اتهمه بأنه على صلة بالخدمة وهو العقل المدبر للانقلاب الفاشل. وهذه الدعاية قد تحقق هدفها في الداخل التركي في ظل خضوع 95% من وسائل الإعلام له، لكنها لن تجد آذانًا صاغية له في العالم الحر.
غير أن هناك عديدًا من المخاطر للإقدام على مثل هذه الخطوة، حيث سيضطر أردوغان إلى الاستسلام الكامل لواشنطن وتنفيذ مشاريعها في الداخل التركي والمنطقة، كما استسلم من قبلُ لروسيا وسلم الجيش التركي إلى عصابة أرجنكون -الدولة العميقة- الموالية للمعسكر الأوراسي في الداخل، وسلم مناطق المعارضة السورية لنظام الأسد في المنطقة.
هناك إشارات بارزة تدل على أن الولايات المتحدة ستستمر في ممارسة الضغوط على أردوغان عن طريق فرض مزيد من العقوبات على مسئولين أتراك، بل قد تشمل هذه العقوبات المؤسسات أيضًا كالبنوك المتورطة في اختراق العقوبات الأمريكية على إيران.
بل هناك أبعد من ذلك، إذ ادعى الكاتب الصحفي “أحمد تاكان” المطلع على كواليس أنقرة، أن الإدارة الأمريكية قد تدرج رئيس جهاز الاستخبارات التركي “هاكان فيدان” ضمن “قائمة المسئولين الأتراك المفروض عليهم عقوبات”. وقال تاكان، الذي عمل مستشارًا للرئيس السابق عبد الله جول، نقلاً عن “مصادره الموثوقة في أنقرة”: “هناك ادعاءات تتحدث عن احتجاز واشنطن عنصرين من عناصر جهاز الاستخبارات التركي كانا يستعدان لتنفيذ عملية ضد المفكر الإسلامي فتح الله كولن المقيم في ولاية بنسلفانيا الأمريكية قبيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة. وطلبت السلطات التركية من الإدارة الأمريكية إعادة عنصري جهاز الاستخبارات التركي المذكورين في إطار مفاوضات الطرفين حول قضية القس برونسون. إلا أن واشنطن قابلت ذلك برفض شديد”. ولفت تاكان إلى أن السلطات الأمريكية تستعد في الوقت الراهن لرفع دعوى قضائية على عنصري جهاز الاستخبارات التركي ورئيس الجهاز هاكان فيدان، وأشار إلى أن أركان نظام أردوغان يناقشون خلف الستار عزل فيدان من منصبه في محاولة لاحتواء الأزمات المتفاقمة بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا.
مع أن ما قاله تاكان يظل مجرد ادعاء حتى تظهر أدلة تدعمه، لكن إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن وكالة الأمن القومي الأمريكية (NSA) أشارت في تقرير سابق لها إلى علاقات فيدان بإيران، وإعطاءه إياها المعلومات الحساسة التي جمعها من مصادر أمريكية وإسرائيلية، وفق ما كتبه ممثل جريدة “حريت” التركية في واشنطن الكاتب الصحفي المعروف “تولغا تانيش” في عام 2015. أضف إلى ذلك أن آدم أوزجان، أحد النواب العامين المكلفين بالنظر في قضية “التجسس الإيراني” في تركيا، قال في وقت سابق: “إن اثنين من أعضاء تنظيم السلام والتوحيد (العامل في تركيا لصالح إيران) كانا يتحدثان عن شخص يُدعى ’أمين‘ في المكالمة الدائرة بينهما. ثم تبين فيما بعد أن هذا الشخص الملقب بـ’أمين‘ هو رئيس المخابرات فيدان، لكننا لم نتخذ أي إجراء رسمي بحقه، نظراً لتمتعه بالحصانة القانونية”. ويرِد في المكالمات الهاتفية المسجلة بموجب قرار صادر عن المحكمة أن المسؤولين الإيرانيين يفرحون فرحاً شديداً بتعيين فيدان رئيساً للمخابرات من قِبَل أردوغان ويصفونه بـ”تعيين القرن” بالنسبة لهم.
لذلك ليس من المستغرب أن تستهدف الإدارة الأمريكية رئيس المخارات فيدان في الوقت الذي تحاول توسيع نطاق عقوباتها التي تفرضها على إيران. ولن يكون مفاجئًا إذا ما تحول أردوغان مجددًا صوب المعسكر الأطلسي الغربي كما بدأ به في بداية وصوله إلى السلطة عام 2002 بعد أن أدار مساره إلى المعسكر الأوراسي عقب فضائح الفساد والرشوة قي 2013 وإسقاط الطائرة الروسية بشكل كامل.
غير أن تحول أردوغان من المعسكر الأوراسي إلى الأطلسي لن يكون سهلا! فمع أنني أرجح أن وزير الدفاع الحالي رئيس الأركان السابق “خلوصي أكار” لا يزال مواليًا لحلف الناتو، لكن عصابة أرجنكون الموالية للمعسكر الأوراسي سيطرت على مواقع مهمة في المؤسسة العسكرية بفضل الانقلاب الذي دبرته مع أردوغان ضد الجيش.
لذلك من المتوقع أن عصابة أرجنكون الموصوفة بـ”الدولة العميقة” في تركيا ستوظف عناصرها في الجيش والبيروقراطية في الداخل، كما أن كلا من روسيا وإيران ستعيدان طرح ملفات أردوعان في الخارج من جانب؛ وستسعيان إلى إشعال فتيل الصراع بكل أنواعه بين تركيا والمعسكر الأطلسي للحفاظ على مكاسبهما في الداخل التركي والمنطقة، خاصة في سوريا من جانب آخر.
يبدو لي أن واشنطن لن تتعامل مع أردوغان ولو أعلن ولاءه لها مجددًا أكثر من كونه أداة ستتركها بعد قضاء حاجتها منها مباشرة.
وكما يظهر مما سبق، فإن وضع أردوغان صعب للغاية، إذ وضع نفسه بسياساته غير الحكيمة بين فكّي كماشة كل من المعسكرين الأمريكي الغربي والروسي الإيراني، ولن يجد لنفسه بعد اليوم مكانًا في أحد المعسكرين على حد سواء بعد تذبذبه المتواصل بين الطرفين وإثباته بالفعل أنه شريك غير موثوق.