يعطي الله تعالى المال والدور والمراكب والعمارة لمن يشاء، ويعطي الفقر وضيق اليد لمن يشاء. ولكن لا يمكن هنا إنكار دور بعض الأسباب كالظروف العائلية وغيرها، كما لا يمكن إنكار قابلية شخص ما وكياسته ودرايته في كسب المال وتنميته، وكذلك لا يمكن إنكار مدى تأثير معرفته بطرق الربح في الأحوال والشروط والظروف المحيطة به أيضاً. ومع هذا فقد لا يؤتي الله تعالى المال لأشخاص مع وجود القابليات عندهم. ومع هذا فقد ورد في حديث ذي مغزى عميق يخص موضوعنا «عن عبد الله بن مسعود قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قسَم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإنّ الله عز وجل يعطي الدنيا من يحبُّ ومَن لا يحبّ ولا يُعطي الدِّين إلا لمن أحب فمن أعطاه الله الدِّين فقد أحبَّه»[1]. وهذا له معنى فيما نحن بصدده.
ثم إن من الخطإ عد المال والجاه خيراً على الدوام. أجل! فالله سبحانه وتعالى قد يعطي المال والرفاه والسعادة الدنيوية لمن يطلبها وقد لا يعطي. وسواء أأعطى الله تعالى أم لم يعط فهو خير في كلتا الحالتين. ذلك إن كنت شخصاً جيداً واستعملت المال المعطى لك في أمور الخير، فالمال هنا يُعد خيراً. ولكن إن لم تكن شخصاً جيداً، بل كنت منحرفاً عن الصراط القويم فسواء أأعطى الله تعالى المال لك أو لم يعطه فالوضع يكون سيئاً بالنسبة لك.
أجل! إن كنت شخصاً غير مستقيم فالفقر يكون عندك وسيلة إلى الكفر، لأنه يحرضك على رفع راية العصيان تجاه ربك. كما إن كنت بعيداً عن الاستقامة فمعنى هذا أنك لا تملك حياة قلبية وروحية صحيحة، لذا فإن الغنى سيكون لك مصيبة وبلاء ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (الأنفال:28). لقد خسر الكثيرون هذا الامتحان حتى اليوم؛ فكم من غني مع أنه يملك ثروة كبيرة لا يملك في قلبه شرارة نور واحدة بسبب جحوده. لذا فإن إعطاء الله تعالى المال والجاه لهؤلاء يعد استدراجاً[2] أي وسيلة لانحرافهم. ولكن هؤلاء استحقوا هذا لكونهم أماتوا حياتهم القلبية والروحية وقضوا على القابليات الفطرية التي وهبها الله تعالى لهم. من المناسب هنا ذكر هذا الحديث النبوي: «كم مِن أشْعثَ أغْبَر ذي طِمْرَيْن (صاحب ثوبين خلقين) لا يُؤْبَه له لو أقسم على الله لأَبَرّه، منهم البراءُ بن مالكٍ»[3]
بينما لم يكن البراء -وهو شقيق أنس- يملك لا طعاماً يأكله ولا داراً يأوي إليها. كان يعيش على الكفاف. وكم من أشعث أغبر مثل البراء كانوا يوقرون ويُنظر إليهم كعظماء ويقيّمون حسب وسعة قلوبهم وعمقها وعظمتها، ونور نفوسهم وضيائها. لذا وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لو أقسموا على الله لأبرهم.
إذن فلا يمكن النظر إلى مجرد الفقر أو إلى مجرد الغنى على أنه مصيبة أو نعمة. فقد يكون الفقر حسب موقعه من أكبر نعم الله تعالى. وقد اختار الرسول صلى الله عليه وسلم الفقر بإرادته فقال لعمر رضي الله عنه المتألم من فقر الرسول صلى الله عليه وسلم: «أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟»[4] وبينما كانت الثروات تسيل إلى خزينة بيت المال عاش الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقيراً، لا يتناول إلا ما يسد رمقه فقط ولم يطلب المزيد.
ولكن هناك نوع من الفقر -أعاذنا الله منه- يكاد يكون كفراً. فمثلاً لو كان هذا السؤال صادراً لا عن قصد معرفة وعلم، بل تعبيراً عن السخط، من فم جاحد، يعد هذا جحوداً لنعم الله تعالى وشكوى منه وعصياناً… أي عُدّ كفراً. إذن فالفقر يعد نعمة أحياناً وأحيانا نقمة، أي أن الأصل في الموضوع هو الصدى الذي يلقاه في القلب، أو كما قال الشاعر:
يارب! كل ما يأتي منك مقبول،
إن كان خلعة… أو كان كفنا،
إن كان وردة… أو شوكاً،
نعمتك ومحنتك… كلاهما حسن.
وفي شرقي الأناضول هناك مثل يقول “كل ما جاء منك جميل، سواء أكان هذا أم ذاك”.
الإنسان إن كان مع الله فلا يضره أن يكون غنياً وأن يلبس فاخر الثياب، مثل هذا الشخص قد يكون مثل عبد القادر الكيلاني قدس سره، رجله على أكتاف الأولياء ورأسه يلمس حافة ثوب الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن إن لم تكن للإنسان أي علاقة بالله تعالى فإن فقره يكون له خسراناً في الدنيا وخسراناً في الآخرة أيضاً. وكذلك إن كان الغني غافلاً عن الله تعالى فإنه وإن بدا سعيداً في الدنيا فإن خسراناً كبيراً ينتظره في الآخرة.
بقلم/ فتح الله كولن