الكون هذا الفضاء الشاسع والواسع الممتد إلى ما لا يحده بصر الإنسان ولا عقله، إذا ارتبط بوجدان الأنصاري وبأحاسيسه الزمردية المشتعلة؛ ازداد اتساعًا واستحال مددًا حراريًّا سرعان ما تشتعل به أشواقه ومواجيده، فيقذف بالكلمة منه ذات طبيعة شجية ووَهْجٍ حار تأسر القارئ وتشده “إن ما يبهر الإنسان من ذلك ويفيض مشاعره؛ أن القضية هي من العظمة والرهبة بحيث يستحيل على القلب البشري تحمل مواجيدها، بدءًا بالتفكر في هذا الكون الشاسع الممتد من فضاءات لا يحدها بصر ولا تصور ولا خيال، وما يسبح فيه من نجوم وكواكب ومجرات وسدم غائرة بعيدة بملايين السنوات الضوئية، وما يحيطها من سماوات بعضها فوق بعض، وما يعمرها من خلائق نورانية مما لا يدرك له شكل ولا صورة، إلى ما بين هذا وذاك من طبقات الزمان المختلفة عدًّا وتقديرًا من الأيام والسنوات، قد يختزل اليوم الواحد منها (أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) إلى (خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ). ورب هذه العوالم جميعًا الخالق لها والمحيط بأزمنتها وأمكنتها كلها، المدبر شؤون حياتها ومماتها وأرزاقها بقيوميته الممتدة من الأزل إلى الأبد، المالك زمام أحوالها بأنوار أسمائه الحسنى وصفاته العلا عزوجل.. هذا الرب الرحمن الرحيم والملك العظيم المتنزه في مطلق علوه وسموه وجلال كبريائه؛ يقدر برحمانيته ورحيميته أن يكرم الإنسان هذا المخلوق الضعيف القابع في الأرض، هذا الكوكب الضئيل السابح في بحر عظيم زاخر بأمواج السدم والمجرات، فيكون من أعظم مقامات هذا التكريم، أن يخاطبه بهذا الكلام الإلهي العظيم (القرآن الكريم)”.
هل رأيت هذا الشريط الوجداني الصافي الذي يحكي قصة تكليف الإنسان، هذا المخلوق الكوني القابع في دركات الضآلة والصغر لولا تكريم القرآن الذي وهبه بعده الكوني ومسؤوليته العظمى؟ ما معنى الفن إن لم تكن هذه الأشواق الحَرَّى التي ينفذ من خلالها الإنسان إلى الماوراء، ويذوق شَهْدَ الحقيقة المثالية من خلال محطات الملك والملكوت الحسية والروحية على السواء؟ أيّ شيطان لعين ذلك الذي اجتال عقول “يونان” وأرداهم ومن تلقف عنهم؛ حينما ألزموا الله علم الكليات ونزهوه -بزعمهم- عن متابعة الجزئيات لأنها لا تليق -في وساوسهم يزعمون- بكماله؟! أليس في هذا إزهاق لروح النعم الجزئية والآلاء الكونية في الآفاق وفي الأنفس الدالة على عظمة الخالق وتعلق أسمائه الحسنى وصفاته العلا بها؟! ما مقتضى هذه الأسماء والصفات إن لم يكن هو ارتباطها بأفعال العباد جليها وخفيها؟ وما متعلَّقُهَا إذا عدمت الجزئيات المنتصبة علاماتٍ فطريةً للدلالة عليها؟ وماذا بقي من الاسم إذا فُرِّغَ من مسماه أو قلْ: من معناه الدال عليه؟!
فلعمري إن لم يكن هذا شركًا أو إلحادًا فلا أقل من وسمه بفساد عقل أو برودة عناد.
إن لمخيلة الأنصاري قدرة خارقة على تمثل الظواهر الكونية والحوادث الوجودية المحيطة بالإنسان لينصب منها صورة كونية كلية، تجعل عين الخيال تتمثل الواقعة أو الظاهرة وكأنها تجري أمامك في شريط أو من على منصة.
إن لمخيلة الأنصاري قدرة خارقة على تمثل الظواهر الكونية والحوادث الوجودية المحيطة بالإنسان لينصب منها صورة كونية كلية، تجعل عين الخيال تتمثل الواقعة أو الظاهرة وكأنها تجري أمامك في شريط أو من على منصة، فإذا هي في النفس مشهد حياتي متحرك، ليس كما يعيشه سائر الناس حيث تغلف البديهة بصائرهم وترمي بسياجها عليها، فتغدو قلوبهم بيوتًا سوداء مظلمة ضاربة في العمى الشعوري المبهم والتيه الوجداني القاتم، “فيا حسرة عليك أيها الإنسان، هذا عمرك الفاني يتناثر كل يوم، لحظة فلحظة، كأوراق الخريف المتهاوية على الثرى تترى! ارقب غروب الشمس كل يوم لتدرك كيف أن الأرض تجري بك بسرعة هائلة لتلقيك عن كاهلها بقوة عند محطتك الأخيرة، فإذا بك بعد حياة صاخبة؛ جزء حقير من ترابها وقمامتها، وتمضي الأرض في ركضها لا تبالي، تمضي جادة غير لاهية -كما أمرت- إلى موعدها الأخير”.
ومن منا لا يرى اضطرارًا مشهد غروب الشمس كل يوم.. ومن منا لا يرمق دوران الأرض في مجاري العادات كل لحظة.. ثم من منا لا يبصر انفلات عمره إلى الزوال.. وهكذا.. ولكن لانغماس النفس في الشهوات، جدار صلب يحجب يقظة الأرواح وتوقانها إلى المطلوب، إلا على أرباب البصائر الذين يقيسون أدنى حركة بسيطة في الكون بمقياس الروح؛ فإذا هي بلبل صداح يعزف سنفونيات كونية خارقة، وينتفض إذا انزعج بوارد أو بارقة.
إن من تجليات حاكمية القرآن على كل شيء خضوع عناصر الكون لكشافه الوجودي والغيبي، وتوجيهه الحُكمي والحِكمي لأشيائه ومخلوقاته عبر نفاذ عز الربوبية في تلك العناصر “امتلاكًا وقهرًا، كما أن الكائنات من خلاله تدور جميعها حول هذا المعنى، سالكة إلى الله خالقها، منجذبة إلى نوره تعالى”. مما “يلفت الإنسان إلى مظاهر الكون وحقائقه ليتفكر في خلق السماوات والأرض، كل على حسب طاقته وسعة إدراكه. فيكون القرآن بكونيته هذه خطابًا لجميع الناس بجميع مستوياتهم الثقافية واختلافاتهم اللغوية والعرقية”. وهذا هو معنى كونه “روح الكون ومعراج التعرف على الله”.
إن هذا النظر الاستيعابي الشامل لحقائق القرآن ليوسع من أفق قراءة الإنسان للعلاقات بينه وبين المخلوقات الكونية من جهة، حيث يغدو إنسانًا كونيًّا بامتياز لا يسكن الأرض إلا بقدر ما يحقق أخوة كونية مع مخلوقاتها. ومن جهة أخرى؛ تحقيق الألفة والتواصل العمراني مع أخيه الإنسان بشتى مذاهبه وعقائده وأفكاره، “ليس فقط لأنه لا يمكن أن يعيش بصورة انفرادية اعتزالية -فهذا أمر بديهي- ولكن ليكون ذلك مقدمة لإنتاج حوار في المجال الروحي، والتداول المعرفي بحقيقة المعرفة بالله في طريق السير إلى الله”.
ذلك لأن القرآن بمعجزته الخارقة “المطلقة عن الزمان والمكان، يحقق أخوة إنسانية كبرى لا يمكن أن تتحقق على هذا الوزان بسواه؛ لأنه شبكة اتصال وجودية ذات أنسجة أفقية وعمودية، فيها مداخل لا حصر لها للإمكانات البشرية. ولذلك فهو يتيح لكل إنسان -مهما كانت ميوله وإمكاناته الطبيعية والفطرية والاجتماعية والثقافية- أن يتصل بحقائق الوجود الحق”.
والأنصاري يسمي العلاقات الإنسانية المبنية على التعارف الابتدائي، بـ”العلاقات الأفقية”، فإذا ترقت إلى تعارف قرآني وزرعت في القلوب حبات الإيمان البلورية؛ صارت “علاقات عمودية”. وهذا هو السر في تقديم الأولى على الثانية في مقاصد القرآن التواصلية في بعدها الكوني والإنساني الشامل، من باب تقديم مقصد الوسيلة على مقصد الغاية كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(الحجرات:13)، تمامًا كما رسمها الأنصاري؛ لأنه عقل لم يرض بغير القرآن فضاءً للتحليق والجولان.
الأنصاري معزف مكسور
يتخذ الأنصاري من الطبيعة وعناصر الكون، مصحة روحية واسعة لتضميد جراحاته وإعادة تركيب خابيته المشقوقة، فما دام الكون معادلاً موضوعيًّا للكتاب المكنون، ولما كان هذا في وجدانه قواعدَ وفهرسة للموجودات، صار الآخر هو مائدة شهية وفضاءً “بانوراميًّا” كاملاً، مادته تلك الموجودات.
والأنصاري يستغل الفرصة من خلال هذا التناغم بين الكتابين المنظور والمسطور؛ لاكتشاف الروح الكلية للأشياء -بما فيها روحه هو- وفك شفرات طلاسمها التي باتت بالنسبة إليه شبحًا في ظلام دامس لا يدري حقيقته وسره. يقول في قصيدة “البحث عن فرس إسطنبول”:
هل غادر الغدير نبض صخره؟!
أم هل جفاه غاضبًا سناء برقه؟!
فأينها تلك التي كانت هنا؟
ما بين مائه وعطره؟
تشرب من أشعة الندى!
وتلثم الثمر!
رحيل فارس الأناضول النورسي بالنسبة إلى الأنصاري؛ هو انتكاس لروح الأمة، ينعكس شعاعه على روح الأنصاري فتغدو مناخًا كئيبًا يخيم بسواده على النفس المشرئبة إلى الانعتاق التواقة إلى الانبعاث”، “بدل أن أكون أنا أدرس رسائل النور، صارت رسائل النور هي تدرسني.. فقد شعرت بعد ذلك مباشرة أن بديع الزمان صار يسكنني”.
وذات غفوة تبددت أطيافها خلف الربى
كأنما امتطت شعاع الشمس ثم غربت
فأصبحت أفئدة الشجر فارغة.
وأرسل الغدير بينها أغرودة الحزن.
تلاحظون كيف تجثم سفينة الكون على ضفاف الروح. فيقتبس منها الفنان صورًا رمزية ليست تتعدى حقيقة روحه هو (أطياف، شعاع، الشمس، الشجر، الغدير)، وهكذا في سائر القصيدة التي تحكمها تيمةُ الخلة مع الأشياء المنضوية تحت لواء الحزن المتفجر -كبركان متدفق- على الكلمات؛ لينسج منها الأنصاري لوحة فنية تتداخل فيها جميع الشعاعات، ومزخرفة بكل ألوان الطيف.
وَيْحي، أنا المعذب المجنون!
(…)
“ولي كبد مقروحة من يبيعني
بها كبدا ليست بذات قروح؟
أباها علي الناس لا يشترونها
ومن يشتري ذا علة بصحيح”؟!
يا سيدي البوسفور
تلك الرياح مزقتني بين شاطئيك موجة
أو حيرة من رجفة الخريف!
فأخبرني عن سفينة
قد قيل: مرت هنا تحمل غابة صنوبرية
فلم تزل تمخر حزن البحر
حتى رست على مساء “التلة العليا”
ثم ارتقت معراج ريح عابر
واندثرت.
البوح والأنين يترجمان الصراع الدرامي مع النفس، ويحيلان رمزيًّا إلى المعاناة والأسى، الذي تتخبط فيه الروح جراء ما يحدث لواقع الأمة وما حدث بالفعل لتاريخها (أندلس الأشجان، أزمة الموريسكيين، والملحمة الفلسطينية)، كما أفصح عنها في روايته “عودة الفرسان”.
الإيمان ينفث في روع المؤمن؛ أن استرسال الظلام والسواد في مقابل نور الأمل وجمال الأنس بالله، إنما هو طيف عابر، هو في عقيدة المسلم، ما أشبهه بالزوال الذي ينصب في الحقول لإخافة الطيور.
والأنصاري حينما يوظف التناص (أبيات ابن الدمينة)؛ يوغل في الرمزية ذات البعد التراجيدي بقصد توسيع أفق القراءة لدى المتلقي، ووضعه في المشهد والاستحواذ على أحاسيسه من كل جانب.
ومن هنا طفق فناننا يستقطب الموجودات وعناصر الكون التي يبدو ظاهرًا عليها تجليات النور، لتركيب شِيَاتِهِ ورسم لوحاته رسمًا تتناغم فيه الأشياء مع وظائفها، وتتواصل أشباحها مع أرواحها من غير تفكيك أو تغيير، كما في مخلوقات (النور، والشمس، والمرجان، واللؤلؤ، والشعاع، والأقمار، والأنجم، والسنا، والصباح، والأبصار، والثلوج)، وغيرها مما يضيء بنفسه، أو ينعكس عليه الضوء واللمعان من غيره. يسترسل في نفس القصيدة السابقة:
فأينها التي كانت هنا؟
(…)
كأنما امتطت شعاع الشمس ثم غربت!
(…)
يا سيدي البوسفور!
(…)
أقسمت أن تضمني إليك مرجانة من نور
أو صدفة تخرج من لؤلئها
(…)
أكلما التقطت من أخبارها خيط السنا؛
خطفه الظلام؟!
(…)
وقيل لي: بل غادرت إلى غروب الدردنيل
حيث الشموس لا تنام أبدا
وإنني أذكر من غرامها حب الشعاع
فلم تزل تقطف من سنائه ورد الصباح
(…)
تشهد ذوب الشمس في بحيرة الأسرار
على سنا الأقمار
(…)
يا سيدي الإمام دلني
فإنني أنا الحيران بين أنجم السفر.
المخلوقات كائنات نورانية تلمع بالنور، لا سيما تلك التي برأها ربها في هيئته، وطبعها بمادته، ورسمها على شاكلته، فهي تضيء للأنصاري الطريق أو تساعده على اكتشاف ذاته بين دفائن الأسرار التي قد لفها الإبهام بجلبابه، وانسدل على مسرحها الستار فأظلمت ولم تنفرج.
لكن لصبح الفرج ميعاد وميقات، ولفجر الحقيقة بعد انسدال الظلام إسفار، ولشمس النصر بعد الغروب إشراق.
الإيمان ينفث في روع المؤمن؛ أن استرسال الظلام والسواد في مقابل نور الأمل وجمال الأنس بالله، إنما هو طيف عابر، هو في عقيدة المسلم، ما أشبهه بالزوال الذي ينصب في الحقول لإخافة الطيور.
رحم الله أبا أيوب رحمة واسعة وأسكنه فسيح جنانه بفضله ومنه وكرمه.
(*) بقلم/ إدريس التركاوي كاتب وباحث مغربي.